ثم يمضي السياق في التعبئة لمواجهة الأحداث ، وفي تقويم التصور لحقيقة الأحداث :
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات . وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ) . .
ولا بد من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . . لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها ، وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم : لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء ، ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها ، مقدرين لها ، مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ؛ وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون ، والران عن القلوب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ }
وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، وكما امتحن أصفياءه قبلهم ، ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم : أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ وَلَمّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ البأساءُ والضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ألا إنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيره يقول .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونحو هذا ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأمرهم بالصبر وبشرهم ، فقال : وَبَشّرِ الصّابِرِينَ ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم ، فقال : مَسّتْهُم البَأْسَاءُ والضّرّاءُ وزُلْزِلُوا .
ومعنى قوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ : ولنختبرنكم . وقد أتينا على البيان عن أن معنى الابتلاء الاختبار فيما مضى قبل .
وقوله : بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ يعني من الخوف من العدوّ وبالجوع ، وهو القحط . يقول : لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوّكم وبسَنَة تصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة وتعذر المطالب عليكم فتنقص لذلك أموالكم ، وحروب تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار ، فينقص لها عددكم ، وموت ذراريكم وأولادكم ، وجدوب تحدث ، فتنقص لها ثماركم . كل ذلك امتحان مني لكم واختبار مني لكم ، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه ، ويعرف أهل البصائر في دينهم منكم من أهل النفاق فيه والشكّ والارتياب . كل ذلك خطاب منه لأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه . كما :
حدثني هارون بن إدريس الكوفي الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمَن بن محمد المحاربي ، عن عبد الملك عن عطاء في قوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وإنما قال تعالى ذكره : بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ ولم يقل «بأشياء » لاختلاف أنواع ما أعلم عباده أنه ممتحنهم به . فلما كان ذلك مختلفا وكانت «مِن » تدلّ على أن كل نوع منها مضمر ( في ) شيء وأن معنى ذلك : ولنبلونكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع وبشيء من نقص الأموال . اكتفى بدلالة ذكر الشيء في أوله من إعادته مع كل نوع منها . ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم وامتحنهم بضروب المحن . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلَنَبْلُوَنّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ والأنْفُسِ والثّمَرَاتِ قال : قد كان ذلك ، وسيكون ما هو أشدّ من ذلك .
قال الله عند ذلك : وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لِلّهِ وَإنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ . ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد بشر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به ، والحافظين أنفسهم عن التقدم على نهيي عما أنهاهم عنه ، والاَخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي مع ابتلائي إياهم بما ابتليتهم به القائلين إذا أصابتهم مصيبة : إنا لله وإنا إليه راجعون . فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد أهل الصبر الذين وصف الله صفتهم . وأصل التبشير : إخبار الرجل الرجل الخبر يسرّه أو يسوءه لم يسبقه به إليه غيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.