في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{طه} (1)

مقدمة السورة:

سورة طه مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة

تبدأ هذه السورة وتختم خطابا للرسول [ ص ] ببيان وظيفته وحدود تكاليفه . . إنها ليست شقوة كتبت عليه ، وليست عناء يعذب به . إنما هي الدعوة والتذكرة ، وهي التبشير والإنذار . وأمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره . المهيمن على ظاهر الكون وباطنه ، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها . الذي تعنو له الجباه ، ويرجع إليه الناس : طائعهم وعاصيهم . . فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر ؛ ولا يشقى لأنهم يكذبون ويكفرون .

وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى عليه السلام من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر ، مفصلة مطولة ؛ وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى - وموقف الجدل بين موسى وفرعون . وموقف المباراة بين موسى والسحرة . . . وتتجلى في غضون القصة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه ، وقال له ولأخيه : ( لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ) . .

وتعرض قصة آدم سريعة قصيرة ، تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته ، وهدايته له . وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار .

وتحيط بالقصة مشاهد القيامة . وكأنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من قصة آدم . حيث يعود الطائعون إلى الجنة ، ويذهب العصاة إلى النار . تصديقا لما قيل لأبيهم آدم ، وهو يهبط إلى الأرض بعد ما كان !

ومن ثم يمضي السياق في هذه السورة في شوطين اثنين : الشوط الأول يتضمن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول [ ص ]( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى . . . )تتبعه قصة موسى نموذجا كاملا لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته فلا يشقون بها وهم في رعايته .

والشوط الثاني يتضمن مشاهد القيامة وقصة آدم وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة وقصة موسى . ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها ويتناسق معه ومع جو السورة .

وللسورة ظل خاص يغمر جوها كله . . ظل علوي جليل ، تخشع له القلوب ، وتسكن له النفوس ، وتعنو له الجباه . . إنه الظل الذي يخلعه تجلي الرحمن على الوادي المقدس على عبده موسى ، في تلك المناجاة الطويلة ؛ والليل ساكن وموسى وحيد ، والوجود كله يتجاوب بذلك النجاء الطويل . . وهو الظل الذي يخلعه تجلي القيوم في موقف الحشر العظيم : ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا ) . . ( وعنت الوجوه للحي القيوم ) . .

والإيقاع الموسيقي للسورة كلها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها رخيا شجيا نديا بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في القافية كلها تقريبا .

( طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى . تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى . الرحمن على العرش استوى . له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى . الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ) .

مطلع رخي ندي . يبدأ بالحروف المقطعة : طا . ها للتنبيه إلى أن هذه السورة . كهذا القرآن - مؤلفة من مثل هذه الحروف على نحو ما أوردنا في مطالع السور . ويختار هنا حرفان ينتهيان بإيقاع كإيقاع السورة ، ويقصران ولا يمدان لتنسيق الإيقاع كذلك .

يتلو هذين الحرفين حديث عن القرآن - كما هو الحال في السور التي تبدأ بالحروف المقطعة - في صورة خطاب إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ]

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{طه} (1)

بِسمِ اللّهِ الرحمَن الرّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى : { طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ * إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ } .

قال أبو جعفر محمد بن جرير : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : طَهَ فقال بعضهم : معناه يا رجل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن الحسن بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : طه : بالنّبَطية : يا رجل .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " طه ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقَى " فإن قومه قالوا : لقد شَقِي هذا الرجل بربه ، فأنزل الله تعالى ذكره طَهَ يعني : يا رجل ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقَى .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن مسلم ، أو يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير أنه قال : طه : يا رجل بالسريانية .

قال ابن جريج : وأخبرني زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، بذلك أيضا . قال ابن جُرَيج ، وقال مجاهد ، ذلك أيضا .

حدثنا عمران بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا عُمارة ، عن عكرمة ، في قوله : طَهَ قال : يا رجل ، كلمه بالنبطية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد الله ، عن عكرمة ، في قوله طَهَ قال : بالنبطية : يا إنسان .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن قرة بن خالد ، عن الضحاك ، في قوله طَه قال : يا رجل بالنبطية .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حُصَين ، عن عكرمة في قوله طَهَ قال : يا رجل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله طَهَ قال : يا رجل ، وهي بالسريانية .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرّزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : طَهَ قالا : يا رجل .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، يعني ابن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله طَهَ قال : يا رجل .

وقال آخرون : هو اسم من أسماء الله ، وقَسَم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : طَهَ قال : فإنه قسم أقسم الله به ، وهو اسم من أسماء الله .

وقال آخرون : هو حروف هجاء .

وقال آخرون : هو حروف مقطّعة يدلّ كلّ حرف منها على معنى ، واختلفوا في ذلك اختلافهم في الم ، وقد ذكرنا ذلك في مواضعه ، وبيّنا ذلك بشواهده .

والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه : قول من قال : معناه : يا رجل ، لأنها كلمة معروفة في عكَ فيما بلغني ، وأن معناها فيهم : يا رجل ، أنشدت لمتمم بن نُويرة :

هَتَفْتُ بطَهَ فِي القِتالِ فَلَمْ يُجبْ *** فخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكونَ مُوَائِلا

وقال آخر :

إنّ السّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقِكُمْ *** لا بارَكَ اللّهُ فِي القَوْمِ المَلاعِينِ

فإذا كان ذلك معروفا فيهم على ما ذكرنا ، فالواجب أن يوجه تأويله إلى المعروف فيهم من معناه ، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهل العلم من الصحابة والتابعين .