فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{طه} (1)

مقدمة السورة:

سورة طه

هي مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية

قال القرطبي : مكية في قول الجميع . وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة طه بمكة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله . وأخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد ، والعقيلي في الضعفاء ، والطبراني في الأوسط ، وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل عليها هذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسنة تكلمت بهذا ) . قال ابن خزيمة بعد إخراجه : حديث غريب ، وفيه نكارة ، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما ، يعني إبراهيم بن مهاجر بن سمار وشيخه عمر بن حفص بن ذكوان وهما من رجال إسناده . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأول ، وأعطيت سورة طه والطواسين من ألواح موسى ، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصل نافلة ) . وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرأون منه شيئاً إلا سورة طه ويس ، فإنهم يقرأون بهما في الجنة ) . وأخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك ، فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب وقراءتهما طه ، وكان ذلك بسبب إسلام عمر ، والقصة مشهورة في كتب السير .

قوله : { طه } قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق ، وأمالهما جميعاً أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش . وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وقرأ الباقون بالتفخيم . قال الثعلبي : وهي كلها لغات صحيحة فصيحة . وقال النحاس : لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين : الأولى أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة ، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة .

وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال : الأوّل أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به . والثاني : أنها بمعنى : يا رجل في لغة عكل ، وفي لغة عكّ . قال الكلبي : لو قلت لرجل من عك : يا رجل لم يجب حتى تقول طه ، وأنشد ابن جرير في ذلك :

دعوت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلاً وقيل : إنها في لغة عكّ بمعنى : يا حبيبي . وقال قطرب : هي كذلك في لغة طيّ أي بمعنى : يا رجل ، وكذلك قال الحسن وعكرمة وقيل : هي كذلك في اللغة السريانية ، حكاه المهدوي . وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية ، وبه قال السديّ وسعيد بن جبير . وحكى الثعلبي : عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة ، ورواه عن عكرمة ، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل . القول الثالث : أنها اسم من أسماء الله سبحانه . والقول الرابع : أنها اسم للنبيّ صلى الله عليه وسلم . القول الخامس : أنها اسم للسورة . القول السادس : أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى . ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة . القول السابع : أن معناها : طوبى لمن اهتدى . القول الثامن : أن معناها : طأ الأرض يا محمد . قال ابن الأنباري : وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروّح ، فقيل له : طإ الأرض ، أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح . وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله : { طه } يعني : طأ الأرض يا محمد ، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ : «طه » على وزن دع ، أمر بالوطء ، والأصل : طأ ، فقلبت الهمزة هاء . وقد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها : يا رجل ، يريد النبي صلى الله عليه وسلم قال : وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد ابن جبير والضحّاك ، وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول : هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية ، ويقول الكلبي : هي بلغة عك . قال ابن الأنباري : ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى ؛ لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش . انتهى . وإذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة ، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز ، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب .

/خ16