ثم تجيء قصة يونس - عليه السلام - وهو ذو النون .
( وذا النون إذ ذهب مغاضبا . فظن أن لن نقدر عليه . فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم . وكذلك ننجي المؤمنين ) . .
وقصة يونس تأتي هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق ، وتفصل في سورة الصافات . ولكن لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة .
لقد سمي ذا النون - أي صاحب الحوت - لأن الحوت التقمه ثم نبذه . وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا ، وغادرهم مغاضبا ، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم . ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة ، والقرى كثيرة ، والأقوام متعددون . وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين .
ذلك معنى ( فظن أن لن نقدر عليه )أي أن لن نضيق عليه .
وقاده غضبه الجامح ، وضيقه الخانق ، إلى شاطئ البحر ، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها . حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، وقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق . فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه . فالتقمه الحوت . مضيقا عليه أشد الضيق ! فلما كان في الظلمات : ظلمة جوف الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل نادى : ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) . فاستجاب الله دعاءه ، ونجاه من الغم الذي هو فيه . ولفظه الحوت على الساحل . ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات . فحسبنا هذا في هذا السياق .
إن في هذه الحلقة من قصة يونس - عليه السلام - لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات .
إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة ، فضاق صدرا بالقوم ، وألقى عبء الدعوة ، وذهب مغاضبا ، ضيق الصدر ، حرج النفس ؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين . ولولا أن ثاب إلى ربه ! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه . لما فرج الله عنه هذا الضيق . ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه .
وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب بها ، والإيذاء من أجلها . وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا . ولكنه بعض تكاليف الرسالة . فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا . ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا .
إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ، ومن عتو وجحود . فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة . . وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف . . ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب !
إن طريق الدعوات ليس هينا لينا . واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة . فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم والأوضاع ، يجثم على القلوب . ولا بد من إزالة هذا الركام . ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة . ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة . ومن محاولة العثور على العصب الموصل . . وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء . ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها . وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة ، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود ، وقد أعيا من قبل على كل الجهود !
وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال . . إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطى ء المحطة وأنت تدقق وتصوب . ثم إذا حركة عابرة من يدك . فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام !
إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال . وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق . ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال !
إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته ، فيهجر الناس . . إنه عمل مريح ، قد يفثأ الغضب ، ويهدى ء الأعصاب . . ولكن أين هي الدعوة ? وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين ? !
إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية ! فليضق صدره . ولكن ليكظم ويمض . وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون !
إن الداعية أداة في يد القدرة . والله أرعى لدعوته وأحفظ . فليؤد هو واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو ، والبقية على الله . والهدى هدى الله .
وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه .
وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلََهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد ذا النون ، يعني صاحب النون . والنون : الحوت . وإنما عَنَى بذي النون : يونس بن متى ، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغني عن ذكره في هذا الموضع ، وقوله : إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا يقول : حين ذهب مغاضبا .
واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا ، وعمن كان ذهابه ، وعلى من كان غضبه ، فقال بعضهم : كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَذَا النّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا يقول : غضب على قومه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا أما غضبه فكان على قومه .
وقال آخرون : ذهب عن قومه مغاضبا لربه ، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه . ذكر من قال ذلك : وذكر سبب مغاضبته ربه في قولهم :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : بعثه الله يعني يونس إلى أهل قريته ، فردّوا عليه ما جاءهم به وامتنعوا منه . فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه : إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا ، فاخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعده الله من عذابه إياهم ، فقالوا : ارمقوه ، فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم . فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبحها أدلج ورآه القوم ، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم ، وفرّقوا بين كل دابة وولدها ، ثم عجوا إلى الله ، فاستقالوه ، فأقالهم ، وتنظّر يونس الخبر عن القرية وأهلها ، حتى مرّ به مارّ ، فقال : ما فعل أهل القرية ؟ فقال : فعلوا أن نبيهم خرج من بين أظهرهم ، عرفوا أنه صدقهم ما وعدهم من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض ، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها . وعجّوا إلى الله وتابوا إليه . فقبل منهم ، وأخّر عنهم العذاب . قال : فقال يونس عند ذلك وغضب : والله لا أرجع إليهم كذّابا أبدا ، وعدتهم العذاب في يوم ثم رُدّ عنهم ومضى على وجهه مغاضبا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه ، واستزلّه الشيطان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن مجالد بن سعيد ، عن الشعبيّ ، في قوله : إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا قال : مغاضبا لربه .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن عبد الملك ، عن سعيد بن جبير فذكر نحو حديث ابن حميد ، عن سلمة ، وزاد فيه : قال : فخرج يونس ينظر العذاب ، فلم ير شيئا ، قال : جرّبوا عليّ كذبا فذهب مغاضبا لربه حتى أتى البحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن وهب بن منبه اليماني ، قال : سمعته يقول : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا ، وكان في خلقه ضيق . فلما حملت عليه أثقال النبوّة ، ولها أثقال لا يحملها إلا قليل ، تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل ، فقذفها بين يديه ، وخرج هاربا منها . يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : فاصْبرْ كمَا صَبَرَ أُولُو العَزْم مِنَ الرسُلِ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ : أي لا تُلْقِ أمري كما ألقاه .
وهذا القول ، أعني قول من قال : ذهب عن قومه مغاضبا لربه ، أشبه بتأويل الاَية ، وذلك لدلالة قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ على ذلك . على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه ، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه واستعظاما له . وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا ، وذلك أن الذين قالوا : ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك ، فقال بعضهم : إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم ، واسْتَحْيَا منهم ، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء . وقال بعض من قال هذا القول : كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب ، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب ، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك . وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة يونس ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع .
وقال آخرون : بل إنما غاضب ربه من أجل أنه أمر بالمصير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن يُنْظره ليتأهب للشخوص إليهم ، فقيل له : الأمر أسرع من ذلك ولم يُنْظر حتى شاء أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً ليلبسها ، فقيل له نحو القول الأوّل . وكان رجلاً في خلقه ضيق ، فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلاً فذهب مغاضبا .
وممن ذُكر هذا القول عنه : الحسن البصريّ .
حدثني بذلك الحارث ، قال : حدثنا الحسن بن موسى ، عن أبي هلال ، عن شهر بن حوشب ، عنه .
قال أبو جعفر : وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا : ذهب مغاضبا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم ، وقد أمره الله تعالى بالمُقام بين أظهرهم ، ليبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه . ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة ، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها ، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ويقول : فالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .
وقوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه . من قولهم قدرت على فلان : إذا ضيقت عليه ، كما قال الله جلّ ثناؤه : وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول : ظنّ أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول : ظنّ أن لن نقضيَ عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره . وعقوبته أخذ النون إياه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الاَية : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : فظنّ أن لن نعاقبه بذنبه .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، قال : ثني شعبة ، عن مجاهد ، ولم يذكر فيه الحكم .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : يقول : ظنّ أن لن نعاقبه .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والكلبيّ : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قالا : ظنّ أن لن نقضيَ عليه العقوبة .
حُدثت عن الحسين . قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ يقول : ظنّ أن الله لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء في غضبه الذي غضب على قومه وفراقه إيّاهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن عباس ، في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : البلاء الذي أصابه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، قال : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه ، واستزلّه الشيطان ، حتى ظن أن لن نقدر عليه . قال : وكان له سلف وعبادة وتسبيح . فأبى الله أن يدعه للشيطان ، فأخذه فقذفه في بطن الحوت ، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين ليلة ويوم ، فأمسك الله نفسه ، فلم يقتله هناك . فتاب إلى ربه في بطن الحوت ، وراجع نفسه . قال : فقال : سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ قال : فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته بما كان سلف من العبادة والتسبيح ، فجعله من الصالحين . قال عوف : وبلغني أنه قال في دعائه : وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وكان له سلف من عبادة وتسبيح ، فتداركه الله بها فلم يَدَعْه للشيطان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن إياس بن معاوية المدني ، أنه كان إذا ذكر عنده يونس ، وقوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول إياس : فلِم فرّ ؟
وقال آخرون : بل ذلك بمعنى الاستفهام ، وإنما تأويله : أفظنّ أن لن نقدر عليه ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قال : هذا استفهام . وفي قوله : فَمَا تُغْنِي النّذُر قال : استفهام أيضا .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : عَنَى به : فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه ، عقوبة له على مغاضبته ربه .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة ، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوّته ، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه ، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله ، وذلك وصف له بالكفر ، وغير جائز لأحد وصفه بذلك . وأما ما قاله ابن زيد ، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن ، ولكنه لادلالة فيه على أن ذلك كذلك . والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلاً على أنه مراد في الكلام ، فإذا لم يكن في قوله : فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد ، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان ، صحّ الثالث وهو ما قلنا .
وقوله : فَنَادَى في الظّلُماتِ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات ، فقال بعضهم : عُني بها ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون : فَنادَى في الظّلُمات قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل . وكذلك قال أيضا ابن جُرَيْج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نادى في الظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت لا إله إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ .
حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا محمد بن رفاعة ، قال : سمعت محمد ابن كعب يقول في هذه الاَية : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل .
وقال آخرون : إنما عَنَى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر . قالوا : فذلك هو الظلمات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : أوحى الله إلى الحوت أن لا تضرّ له لحما ولا عظما . ثم ابتلع الحوت حوت آخر ، قال : فَنادَى في الظّلُماتِ قال : ظلمة الحوت ، ثم حوت ، ثم ظلمة البحر .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات : إنْ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات : بطن الحوت ، وبالأخرى : ظلمة البحر ، وفي الثالثة اختلاف ، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل ، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر . ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ ، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل .
وقوله : لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ يقول : نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ في معصيتي إياك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نادَى في الظّلُماتِ أنْ لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ معترفا بذنبه ، تائبا من خطيئته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : أبو معشر : قال محمد بن قيس : قوله : لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ ما صنعتُ من شيء فلم أعبد غيرك ، إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ حين عصيتك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عوف الأعرابي ، قال : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات . ثم حرّك رجله ، فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا ربّ اتخذتُ لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع ، مولى أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَمّا أرَادَ اللّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، أوْحَى اللّهُ إلى الحُوتِ : أنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْما وَلا تَكْسِرْ عَظْما فأخَذَهُ ، ثُمّ هَوَى بِهِ إلى مَسْكَنِهِ مِنَ البَحْرِ فَلَمّا انْتَهَى بِهِ إلى أسْفَلِ البَحْرِ ، سَمِعَ يُونُسُ حِسّا ، فَقالَ فِي نَفْسِهِ : ما هَذَا ؟ قالَ : فَأَوْحَى اللّهُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : إنّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابّ البَحْرِ ، قالَ : فَسَبّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، فَسَمِعَتِ المَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ ، فَقالُوا : يا رَبّنا إنّا نَسْمَعُ صَوْتا ضَعِيفا بأرْضٍ غَرِيبَة ؟ قالَ : ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الحُوتِ فِي البَحْرِ . قالُوا : العَبْدُ الصّالِحُ الّذِي كانَ يَصْعَدُ إلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ ؟ قالَ : نَعَمْ . قالَ : فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذلكَ ، فَأمَرَ الحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السّاحِلِ كما قالَ اللّهُ تَبارَكَ وَتَعالى : وَهُوَ سَقِيمٌ » .