وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .
( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . )
فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا ، وشرع طريقا ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .
وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .
ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس ، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :
( وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة ( وكفى بالله شهيدًا ) . .
{ مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } : ما يصيبك يا محمد من رخاء ونعمة وعافية وسلامة ، فمن فضل الله عليك يتفضل به عليك إحسانا منه إليك . وأما قوله : { وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يعني : وما أصابك من شدّة ومشقة وأذى ومكروه ، فمن نفسك ، يعني : بذنب استوجبتها به اكتسبته نفسك . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أما من نفسك ، فيقول : من ذنبك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يُصِيبُ رَجُلاً خَدْشُ عُودٍ وَلا عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلا اخْتِلاجُ عِرْقٍ إلاّ بِذَنْبٍ ، وَما يَعْفُوا اللّهُ أكْثَرُ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يقول : الحسنة : ما فتح الله عليه يوم بدر وما أصابه من الغنيمة والفتح ، والسيئة : ما أصابه يوم أُحد أن شجّ في وجهه وكسرت رباعيته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } يقول : بذنبك . ثم قال : { كُلّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } النعم والمصيبات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر ، قالا : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قال : هذه في الحسنات والسيئات .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ }قال : عقوبة بذنبك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } بذنبك ، كما قال لأهل أُحد : { أوَ لَمّا أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِكُمْ } بذنوبكم .
حدثني يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : { ماأصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قال : بذنبك ، وأنا قدرتها عليك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَما أصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وأنا الذي قدرتها عليك .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح ، بمثله .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وما وجه دخول «من » في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } و{ مِنْ سَيّئَةٍ } ؟ قيل : اختلف في ذلك أهل العربية ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت «من » ، لأن «من » تحسن مع النفي ، مثل : ما جاءني من أحد . قال : ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة «مَنْ » . وقال بعض نحويي الكوفة : أدخلت «مِنْ » مع «ما » ، كما تدخل على «إن » في الجزاء لأنهما حرفا جزاء ، وكذلك تدخل مع «مَن » إذا كانت جزاء ، فتقول العرب : مَنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه ، كما تقول : إنْ يزرك مِنْ أحد فتكرمه . قال : وأدخلوها مع «ما » و«مَنْ » ، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء . قالوا : وإذا دخلت معهما لم تحذف ، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعا شيئين ، وذلك أن «ما » في قوله : { ما أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } رفع بقوله : { أصَابَكَ } فلو حذفت «مِنْ » رفع قوله : { أصَابَكَ } السيئة ، لأن معناه : إن تصبك سيئة ، فلم يجز حذف «من » لذلك ، لأن الفعل الذي هو على فعَل أو يَفعل لا يرفع شيئين ، وجاز ذلك مع «مَنْ » ، لأنها تشتبه بالصفات ، وهي في موضع اسم ، فأما «إن » ، فإن «من » تدخل معها وتخرج ، ولا تخرج مع «أيّ » لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب ، ودخلت مع «ما » لأن الإعراب لا يظهر فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً وكَفَى باللّهِ شَهيدا } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { وأرْسَلْناكَ للنّاسِ رَسُولاً } : إنما جعلناك يا محمد رسولاً بيننا وبين الخلق تبلغهم ما أرسلناك به من رسالة ، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت ، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم ، وإن ردوا فعليها . { وكَفَى بالله } عليك وعليهم { شَهِيدا } يقول : حسبك الله تعالى ذكره شاهدا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه ، وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم ، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم ، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدك ، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر جزاء المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.