{ وَلَا تَكُونُوا } ، في نقضكم للعهود بأسوأ الأمثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها ، وذلك { كَالَّتِي } ، تغزل غزلا قويا ، فإذا استحكم وتم ما أريد منه ، نقضته فجعلته : { أَنْكَاثًا } ، فتعبت على الغزل ثم على النقض ، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي ، فكذلك من نقض ما عاهد عليه ، فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة .
وقوله : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : لا تنبغي هذه الحالة منكم تعقدون الأيمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص ، فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على الآخر أتمها ، لا لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه . وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها ، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه .
كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ، وتقديما لها على مراد الله منكم ، وعلى المروءة الإنسانية ، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى .
وهذا ابتلاء من الله وامتحان ، يبتليكم الله به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي من الفاجر الشقي .
{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازي كلا بما عمل ، ويخزي الغادر .
شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة ، بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكماً ، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام ، بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل ، فحلته بعد إبرامه ، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة ، تسمى ريطة بنت سعد ، كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقيل : كانت امرأة موسوسة تسمى خطية ، تغزل عند الحجر وتفعل ذلك ، وقال مجاهد وقتادة ، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة ، و { أنكاثاً } ، نصب على الحال ، والنكث النقض ، و «القوة » في اللغة واحدة قوى ، الغزل والحبل ، وغير ذلك مما يظفر ، ومنه قول الأغلب الراجز :
حبل عجوز فتلت سبع قوى{[7407]} . . . ويظهر لي أن المراد ب : «القوة » ، في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ، ولو قدرناها واحدة القوى ، لم يكن معها ما ينقض ، { أنكاثاً } ، والعرب تقول : أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه ، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة ، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له ، قال مجاهد : المعنى : من بعد إمرار قوة ، و «الدخل » ، الدغل بعينه ، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيتمكن الحالف من ضره بما يريده ، وقوله : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب ، الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة ، قوية فداخلتها ، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى ، فقال الله تعالى{[7408]} ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة . و «الربا » الزيادة ، ويحتمل أن يكون القول معناه : لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم ، أي : أزيد خيراً ، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود ، و { يبلوكم } ، معناه يختبركم ، والضمير في : { به } ، يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به ، ويحتمل أن يعود على الربا ، أي : أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد ، وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها ، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة ، وقوله : { هي أربى } ، موضع { أربى } ، عند البصريين رفع ، وعند الكوفيين نصب ، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين ؛ لأنه لا يكون مع النكرة ، و { أمة } نكرة ، وحجة الكوفيين أن : { أمة } ، وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف ، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص ، وفي هذا نظر .
تشنيع لحال الذين ينقضون العهد .
وعطف على جملة { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } [ سورة النحل : 91 ] . واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين لما في هذه الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع كالتوكيد لجملة { ولا تنقضوا الأيمان } . نُهوا عن أن يكونوا مَضْرِب مثل معروف في العرب بالاستهزاء ، وهو المرأة التي تَنقض غزلها بعد شَدّ فتله . فالتي نقضت غزلها امرأةٌ اسمها رَيطة بنت سعد التيمية من بني تيم من قريش . وعُبّر عنها بطريق الموصولية لاشتهارها بمضمون الصّلة ولأن مضمون الصّلة ، هو الحالة المشبّه بها في هذا التمثيل ، ولأن القرآن لم يذكر فيه بالاسم العلم إلا من اشتهر بأمر عظيم مثل جالوت وقارون .
وقد ذُكر من قصّتها أنها كانت امرأة خرقاء مختلّة العقل ، ولها جوارٍ ، وقد اتّخذت مِغْزلاً قدر ذراع وصِنّارَة مثل أصبع وَفَلْكَةً عظيمة على قدر ذلك ، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته ، وهكذا تفعل كل يوم ، فكان حالها إفساد ما كان نافعاً محكماً من عملها وإرجاعه إلى عدم الصلاح ، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية . ووجه الشّبه الرجوع إلى فساد بعد التلبّس بصلاح .
والغزل : هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي المغزول ، لأنه الذي يقبل النقض . والغَزل : فتل نتف من الصوف أو الشعر لتُجعل خيوطاً محكمة اتصال الأجزاء بواسطة إدارة آلة الغَزل بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطاً غليظاً طويلاً بقدر الحاجة ليكون سَدًى أو لُحْمَة للنسج .
والقوة : إحكام الغزل ، أي نقضته مع كونه محكم الفتل لا موجب لنقضه ، فإنه لو كان فتله غير محكم لكان عذرٌ لنقضه .
والأنكاث بفتح الهمزة : جمع نِكْث بكسر النّون وسكون الكاف أي منكوث ، أي منقوض ، ونظيره نِقض وأنقاض . والمراد بصيغة الجمع أن ما كان غزلاً واحداً جعلتْه منقوضاً ، أي خيوطاً عديدة . وذلك بأن صيّرته إلى الحالة التي كان عليها قبل الغزل وهي كونه خيوطاً ذات عدد .
وانتصب { أنكاثاً } على الحال من { غزلها } ، أي نقضته فإذا هو أنكاث .
وجملة { تتخذون أيمانكم } حال من ضمير { ولا تنقضوا الأيمان } [ سورة النحل : 91 ] .
والدخَل بفتحتين : الفساد ، أي تجعلون أيمانكم التي حلفتموها . . والدّخل أيضاً : الشيء الفاسد . ومن كلام العرب : تَرى الفتيان كالنخْل وما يدريك ما الدَخْل ( سكن الخاء لغةً أو للضرورة إن كان نظماً ، أو للسجع إن كان نثراً ) ، أي ما يدريك ما فيهم من فساد . والمعنى : تجعلون أيمانكم الحقيقة بأن تكون معظّمة وصالحة فيجعلونها فاسدة كاذبة ، فيكون وصف الأيمان بالدّخل حقيقة عقلية ؛ أو تجعلونها سبب فساد بينكم إذ تجعلونها وسيلة للغَدر والمكر فيكون وصف الأيمان بالدّخل مجازاً عقلياً .
ووجه الفساد أنها تقتضي اطمئنان المتحالفين فإذا نقضها أحد الجانبين فقد تسبّب في الخصام والحقد . وهذا تحذير لهم وتخويف من سوء عاقبة نقض اليمين ، وليس بمقتضضٍ أن نقضاً حدَث فيهم .
و { أن تكون أمة } معمول للام جرّ محذوفة كما هو غالب حالها مع { أنْ } . والمعنى التعليل ، وهو علّة لنقض الأيمان المنهيّ عنه ، أي تنقضون الأيمان بسبب أن تكون أمّة أربى من أمّة ، أي أقوى وأكثر .
والأمّة : الطائفة والقبيلة . والمقصود طائفة المشركين وأحْلافهم .
و { أربى } : أزيد ، وهو اسم تفضيل من الرُبُوّ بوزن العُلُوّ ، أي الزيادة ، يحتمل الحقيقة أعني كثرة العدد ، والمجاز أعني رفاهية الحال وحسن العيش . وكلمة { أربى } تعطي هذه المعاني كلها فلا تَعدلها كلمة أخرى تصلحُ لجميع هذه المعاني ، فوقعها هنا من مقتضى الإعجاز . والمعنى : لا يبعثكم على نقض الأيمان كونُ أمّة أحسن من أمّة .
ومعلوم أن الأمّة التي هي أحسن هي المنقوض لأجلها وأن الأمّة المفضولة هي المنفصَل عنها ، أي لا يحملكم على نقض الحلف أن يكون المشركون أكثر عدداً وأموالاً من المسلمين فيبعثكم ذلك على الانفصال عن جماعة المسلمين وعلى الرجوع إلى الكفّار .
وجملة { إنما يبلوكم الله به } مستأنفة استئنافاً بيانياً للتعليل بما يقتضي الحكمة ، وهو أن ذلك يبتلي الله به صدق الإيمان كقوله تعالى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم } [ سورة الأنعام : 165 ] .
والقصر المستفاد من قوله تعالى : { إنما يبلوكم الله به } قصر موصوف على صفة . والتقدير : ما ذلك الرُبُوّ إلا بلوى لكم .
والبَلْو : الاختبار . ومعنى إسناده إلى الله الكناية عن إظهار حال المسلمين . وله نظائر في القرآن . وضمير { به } يعود إلى المصدر المنسبك من قوله : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } .
ثم عطف عليه تأكيدُ أنه سيبيّن لهم يوم القيامة ما يختلفون فيه من الأحوال فتظهر الحقائق كما هي غير مغشّاة بزخارف الشّهوات ولا بمكاره مخالفة الطباع ، لأن الآخرة دار الحقائق لا لبس فيها ، فيومئذٍ تعلمون أنّ الإسلام هو الخير المحض وأن الكفر شرّ محض .
وأكّد هذا الوعد بمؤكّدين : القسم الذي دلّت عليه اللام ونون التوكيد . ثم يظهر ذلك أيضاً في ترتّب آثاره إذ يكون النعيم إثر الإيمان ويكون العذاب إثر الشرك ، وكل ذلك بيان لما كانوا مختلفين فيه في الدنيا .