{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } على عظمها وكونها جمادا ، { وَالْمَلَائِكَةِ } الكرام المقربون خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزته ، مذعنون بربوبيته . { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ويعظمونه عن كل نقص ، ويصفونه بكل كمال ، { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } عما يصدر منهم ، مما لا يليق بعظمة ربهم وكبريائه ، مع أنه تعالى هو { الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الذي لولا مغفرته ورحمته ، لعاجل الخلق بالعقوبة المستأصلة .
وفي وصفه تعالى بهذه الأوصاف ، بعد أن ذكر أنه أوحى إلى الرسل كلهم عموما ، وإلى محمد - صلى الله عليهم أجمعين- خصوصا ، إشارة إلى أن هذا القرآن الكريم ، فيه من الأدلة والبراهين ، والآيات الدالة على كمال الباري تعالى ، ووصفه بهذه الأسماء العظيمة الموجبة لامتلاء القلوب من معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلاله وإكرامه ، وصرف جميع أنواع العبودية الظاهرة والباطنة له تعالى .
وقرأ نافع والكسائي : «يكاد » بالياء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وعاصم : «تكاد » بالتاء . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ونافع وابن عباس وأبو جعفر وشيبة وقتادة : «يتفطرون » من التفطر ، وهو مطاوع فطرت . وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن والأعرج وأبو رجاء ، والجحدري : «ينفطرون » من الإفطار وهو مطاوع فطر ، والمعنى فيهما : يتصدعن ويتشققن من سرعة جريهن خضوعاً وخشية من سلطان الله تعالى وتعظيماً له وطاعة ، وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه مردود ، لأن الله تعالى لا يوصف به .
وقوله : { من فوقهن } أي من أعلاهن . وقال الأخفش علي بن سليمان : الضمير للكفار .
قال القاضي أبو محمد : المعنى من فوق الفرق والجماعات الملحدة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات يتفطرن{[10108]} ، فهذه الآية على هذا كالآية التي في :
{ كهيعص }{[10109]} [ مريم : 1 ] . وقالت فرقة معناه : من فوق الأرضين ، إذ قد جرى ذكر الأرض ، وذكر الزجاج أنه قرئ «يتفطرن ممن فوقهن » .
وقوله تعالى : { يسبحون بحمد ربهم } قيل معناه : يقولون سبحان الله ، وقيل معناه : يصلون لربهم .
وقوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } قالت فرقة : هذا منسوخ بقوله تعالى : في آية أخرى : { ويستغفرون للذين آمنوا }{[10110]} وهذا قول ضعيف ، لأن النسخ في الإخبار لا يتصور . وقال السدي ما معناه : إن ظاهر الآية العموم ومعناها الخصوص في المؤمن ، فكأنه قال : { ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين ، إذ الكفار عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . وقالت فرقة : بل هي على عمومها ، لكن استغفار الملائكة ليس بطلب غفران الله تعالى للكفرة على أن يبقوا كفرة ، وإنما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدي إلى الغفران لهم ، وكأن الملائكة تقول : اللهم اهد أهل الأرض واغفر لهم . ويؤيد هذا التأويل تأكيده صفة الغفران والرحمة لنفسه بالاستفتاح ، وذلك قوله : { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } أي لما كان الاستغفار لجميع من في الأرض يبعد{[10111]} أن يجاب ، رجا عز وجل بأن استفتح الكلام تهيئة لنفس السامع فقال : { ألا إن الله } هو الذي يطلب هذا منه ، إذ هذه أوصافه ، وهو أهل المغفرة .
{ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } .
جملة مستأنفة مقررة لمعنى جملة { وهو العلي العظيم } [ الشورى : 4 ] ولذلك لم تعطف عليها ، أي يكاد السماوات على عظمتهن يتشققن من شدّة تسخرهن فيما يسخرهُن الله له من عمل لا يخالف ما قدّره الله لهنّ ، وأيضاً قد قيل : إن المعنى : يكاد السماوات يتفطرن من كثرة ما فيهن من الملائكة والكواكب وتصاريف الأقدار ، فيكون في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " أطَّتتِ السماء وبِحَقها أن تَئطّ . والذي نفسُ محمّد بيده ما فيها موضع شِبر إلا فيه جبهة مَلَك ساجد يسبح الله بحمده " {[367]} ويرجّحه تعقيبه بقوله تعالى : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } كما سيأتي .
وقرأ نافع وحده والكسَائِي { يكاد } بتحتية في أوّله . وقرأه الباقون بفوقية وهما وجهان جائزان في الفعل المسند إلى جمع غيرِ المذكر السالم وخاصة مع عدم التأنيث الحقيقي . وتقدم في سورة مريم ( 90 ) قوله : { يكاد السماوات يتفَطَّرْنَ منه } . وقرأ الجمهور { يتفطرن } بتحتية ثم فوقية وأصله مضارع التفطر ، وهو مطاوع التفطير الذي هو تكرير الشقّ . وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بِتَحتيّة ثم نون وهو مضارع : انفطَر ، مطاوع الفطر مصدر فطَر الثلاثي ، إذا شَقَّ ، وليس المقصود منه على القراءتين قبول أثر الفاعل إذ لا فاعل هنا للشقّ وإنّما المقصود الخبر بحصول الفعل ، وهذا كثير ، كقولهم : انشقّ ضوء الفجر ، فلا التفات هنا لما يقصد غالباً في مادة التفعل من تكرير الفعل إذ لا فاعل للشقّ هنا ولا لتكرره ، فاستوت القراءتان في باب البلاغة ، على أنّ استعمال صيغ المطاوعة في اللّغة ذو أنحاء كثيرة واعتبارات كما نبه عليه كلام الرضيّ في « شرح الشافية » .
وقوله : { من فوقهن } يجوز أن يكون ضمير { فوقهن } عائداً على { السماوات } ، فيكون المجرور متعلقاً بفعل { يتفطرن } بمعنى : أن انشقاقهن يحصل من أعلاهنّ ، وذلك أبلغ الانشقاق لأنه إذا انشقّ أعلاهن كان انشقاق ما دونه أولى ، كما قيل في قوله تعالى : { وهي خاوية على عروشها } كما تقدم في سورة البقرة ( 259 ) وفي سورة الحج ( 45 ) . وتكون { من } ابتدائيّة .
ويجوز أن يكون الضمير عائداً إلى { الأرض } من قوله تعالى : { وما في الأرض } [ الشورى : 4 ] على تأويل الأرض بأرضين باعتبار أجزاء الكرة الأرضية أو بتأويل الأرض بسكانها من باب { واسْأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
وتكون { من } زائدة زيادتها مع الظروف لتأكيد الفوقية ، فيفيد الظرف استحضار حالة التفطر وحالة موقعه ، وقد شبه انشقاق السماء بانشقاق الوَردة في قوله تعالى : { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدِّهان } [ الرحمن : 37 ] . والوردة تنشق من أعلاها حين ينفتح بُرْعُومُها فيوشك إنْ هُن تفطَّرْنَ أن يخْررْنَ على الأرض ، أي يكاد يقع ذلك لِما فشا في الأرض من إشراك وفساد على معنى قوله تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إِدًّا يكاد السماوات يتفطَّرْنَ منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً } [ مريم : 88 90 ] ويرجحه قوله الآتي : { والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم } [ الشورى : 6 ] . وعن ابن عباس { يكاد السماوات يتفطَّرن } من قول المشركين { اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] .
{ والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارض أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } .
جملة عطفت على جملة { يكاد السماوات يتفطرن } لإفادتها تقرير معنى عظمة الله تعالى وجلاله المدلول عليهما بقوله : { وهو العلي العظيم } [ الشورى : 4 ] .
مرتبة واجب الوجود سبحانه وهو أهل التنزيه والحمد ومرتبة الروحانيات وهي الملائكة وهي واسطة المتصرف القدير ومفيض الخير في تنفيذ أمره من تكوين وهدى وإفاضة خير على النّاس ، فهي حين تتلقى من الله أوامره تسبِّحُه وتحمده ، وحين تفيض خيرات ربّها على عباده تستغفر للذين يتقبلونها تقبل العبيد المؤمنين بربّهم ، وتلك إشارة إلى حصول ثمرات إبلاغها ، وذلك بتأثيرها في نظم أحوال العالم الإنساني . ومرتبة البشرية المفضلة بالعقل إذ أكمله الإيمانُ وهي المراد ب ( من في الأرض ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.