تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }

يخبر تعالى المؤمنين ، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم ، فرسول اللّه ، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا على يديه وبسببه .

فلذلك ، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنًا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه .

وهو صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده .

فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان قبل يُدْعَى : " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه ، وانتسابه منه ، فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف .

وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما الله صرح{[4]}  بذلك : " وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا "

{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ أي ]{[5]} : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضًا ، ويبر بعضهم بعضًا ، فهم أولى من الحلف والنصرة .

والأدعياء الذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام ، فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفًا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير .

{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك ، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح ، والمال ، وغير ذلك .

{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ليس لهم حق مفروض ، وإنما هو بإرادتكم ، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا ، وتعطوهم معروفًا منكم ، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره اللّه ، فلا بد من نفوذه .


[4]:- في ب: وأنزله.
[5]:- زيادة من هامش ب، مشطوبة من أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

وقوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين } الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[9455]} ، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }{[9456]} » ، وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة .

قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤيد هذا قوله عليه السلام «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش »{[9457]} .

وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات ، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم . وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » ، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » ، وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها ، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليه السلام : { هؤلاء بناتي }{[9458]} [ هود : 78 ] إنما أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن .

ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين{[9459]} ، اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته ، ورد الله تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة ، وقوله تعالى : { في كتاب الله } يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى : { من المؤمنين } متعلق ب { أولى } الثانية{[9460]} ، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا ، وقوله تعالى : { إلا أن تفعلوا } يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه ، والقريب الكافر يوصي له بوصية{[9461]} ، واختلف العلماء هل يجعل هو وصياً ، فجوز بعض ومنع بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، وذهب مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين .

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم لفظ الولي أيضاً حسن كما قدمناه ، إذ ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .

و { الكتاب } الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ، و { مسطوراً } من قولك سطوت الكتاب إذا أثبته إسطاراً ومنه قول العجاج :

«في الصحف الأولى التي كان سطراً{[9462]} » ،

قال قتادة وفي بعض القراءة «كان ذلك عند الله مكتوباً » .


[9455]:روي في الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، والله أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك)، فقال: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم:(الآن يا عمر).
[9456]:أخرج البخاري وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم:{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتيني فأنا مولاه).
[9457]:أخرجه البخاري في الرقاق، ومسلم في الفضائل، والترمذي في الأدب، وأحمد في مواضع كثيرة من مسنده، ولفظه كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه-أي في المستوقد المفهوم من الكلام- وأنا آخذ بحجزكم وانتم تقحمون فيه)، وفي رواية:(وأنتم تفلتون من يدي).
[9458]:من الآية(78) من سورة (هود).
[9459]:من ذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير، قال:{وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}، وذلك أن معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد، وآخيت أنا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله، فو الله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيري، حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا إلى مواريثنا.
[9460]:ولا يصح أن يتعلق بقوله تعالى:{وأولوا الأرحام}، قال القرطبي:"بالإجماع؛ لأن ذلك كان يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل إشكالها".
[9461]:في أكثر النسخ:"والقريب والكافر"، وآثرنا حذفها لأن ذلك يوافق عبارة القرطبي التي نقلها عن ابن عطية، ويوافق عود الضمير على مفرد في قول المؤلف بعده:"هل يجعل وصيا".
[9462]:البيت من مشطور الرجز، قاله العجاج من أرجوزته الطويلة التي مدح بها عمر بن عبد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان قد وجهه لحرب أبي فديك الخارجي فحاربه وانتصر عليه، والشاهد في البيت أن(سطر) بمعنى: كتب، وان السطر هو الخط والكتابة.