تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

يخبر تعالى بحكمته البالغة ، واختياره لعباده ، وأن الله ما أرسل قبل محمد { مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى } أي : قرأ قراءته ، التي يذكر بها الناس ، ويأمرهم وينهاهم ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في قراءته ، من طرقه ومكايده ، ما هو مناقض لتلك القراءة ، مع أن الله تعالى قد عصم الرسل بما يبلغون عن الله ، وحفظ وحيه أن يشتبه ، أو يختلط بغيره . ولكن هذا الإلقاء من الشيطان ، غير مستقر ولا مستمر ، وإنما هو عارض يعرض ، ثم يزول ، وللعوارض أحكام ، ولهذا قال : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } أي : يزيله ويذهبه ويبطله ، ويبين أنه ليس من آياته ، و { يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي : يتقنها ، ويحررها ، ويحفظها ، فتبقى خالصة من مخالطة إلقاء الشيطان ، { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : كامل القوة والاقتدار ، فبكمال قوته ، يحفظ وحيه ، ويزيل ما تلقيه الشياطين ، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ، فمن كمال حكمته ، مكن الشياطين من الإلقاء المذكور ، ليحصل ما ذكره بقوله : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً }

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي بعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ، ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، قيل فكم الرسل منهم قال : ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا " وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه ، والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي ، والنبي يقال له ولمن يوحى غليه في المنام . { إلا إذا تمنى } زور في نفسه ما يهواه . { ألقى الشيطان في أمنيته } في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام " وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله سبعين مرة " . { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون عليه والإرشاد إلى ما يزيحه . { ثم يحكم الله آياته } ثم يبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة . { والله عليم } بأحوال الناس . { حكيم } فيما يفعله بهم ، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت . وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة " والنجم " فأخذ يقرؤها فلما بلغ { ومناة الثالثة الأخرى } وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية . وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه ، وقيل تمنى قرأ كقوله :

تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل

وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } لأنه أيضا يحتمله ، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (52)

عطف على جملة { قل ياأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } [ الحج : 49 ] لأنه لما أفضى الكلام السابق إلى تثبيت النبي عليه الصلاة والسلام وتأنيس نفسه فيما يلقاه من قومه من التكذيب بأن تلك شنشنة الأمم الظالمة من قبلهم فيما جاء عقبَ قوله : { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة } [ الحج : 48 ] الخ . . وأنه مقصور على النّذارة فمن آمن فقد نجا ومن كفر فقد هلك ، أريد الانتقال من ذلك إلى تفصيل تسليته وتثبيته بأنه لقي ما لقيه سلفُه من الرسل والأنبياء عليهم السلام ، وأنه لم يسلم أحد منهم من محاولة الشيطان أن يفسد بعض ما يحاولونه من هدي الأمم وأنهم لقُوا من أقوامهم مكذّبين ومصدّقين سنةَ الله في رُسله عليهم السلام .

فقوله : { من رسول ولا نبيء } نص في العموم ، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل .

وعطف { نبي } على { رسول } دالّ على أنّ للنبي مَعنى غيرُ معنى الرسول :

فالرسول : هو الرجل المبعوث من الله إلى الناس بشريعة . والنبي : مَن أوحَى الله إليه بإصلاح أمر قوم بحملهم على شريعة سابقةٍ أو بإرشادهم إلى ما هو مستقر في الشّرائع كلها فالنبي أعمّ من الرسول ، وهو التحقيق .

والتمنّي : كلمة مشهورة ، وحقيقتها : طلب الشيء العسير حصولُه . والأمنية : الشيء المتمنّى . وإنما يتمنى الرسل والأنبياء أن يكون قومهم كلُّهم صالحين مهتدين ، والاستثناءُ من عموممِ أحوال تابعة لعموم أصحابها وهو { من رسول ولا نبيء } ، أي ما أرسلناهم في حال من الأحوال إلاّ في حاللِ إذا تمنّى أحدُهم أمنية ألقى الشيطان فيها الخ ، أي في حال حصول الإلقاء عند حصول التمني لأنّ أماني الأنبياء خيرٌ محض والشيطان دأبُه الإفساد وتعطيل الخير .

والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو قصر إضافي ، أي دون أن نرسل أحداً منهم في حال الخلو من إلقاء الشيطان ومكره .

والإلقاء حقيقته : رمي الشيء من اليد . واستعير هنا للوسوسة وتسويل الفساد تشبيهاً للتسويل بإلقاء شيء من اليد بين الناس . ومنه قوله تعالى : { فكذلك ألقى السامري } [ طه : 87 ] وقوله : { فألقوا إليهم القول } [ النحل : 86 ] وكقوله تعالى : { فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها } [ طه : 96 ] على ما حققناه فيما مضى .

ومفعول { ألقى } محذوف دل عليه المقام لأنّ الشيطان إنما يلقي الشر والفساد ، فإسناد التمني إلى الأنبياء دل على أنه تمنّي الهدى والصلاح ، وإسناد الإلقاء إلى الشيطان دلّ على أنه إلقاء الضلال والفساد . فالتقدير : أدخل الشيطان في نفوس الأقوام ضلالات تفسد ما قاله الأنبياء من الإرشاد .

ومعنى إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسول إلقاء ما يضادُّها ، كمن يمكر فيلقى السمّ في الدّسم ، فإلقاء الشيطان بوسوسته : أن يأمر الناس بالتكذيب والعصيان ، ويلقي في قلوب أيمّة الكفر مطاعن يبثونها في قومهم ، ويروّج الشبهات بإلقاء الشكوك التي تصرف نظر العقل عن تذكر البُرهان ، والله تعالى يُعيد الإرشاد ويكرّر الهدي على لسان النبي ، ويفضح وساوس الشيطان وسوءَ فعله بالبيان الواضح كقوله تعالى :

{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وقوله : { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } [ فاطر : 6 ] . فالله بهديهِ وبيانه ينسخ ما يُلقِي الشيطان ، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح ، ويزيد آيات دعوة رسله بياناً ، وذلك هو إحكام آياته ، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رِين على قلبه ، وقد تقدم معنى الآيات المحكمات في آل عمران .

وقد فسر كثيرٌ من المفسرين { تمنَى } بمعنى قَرَأ ، وتبعهم أصحاب كتب اللغة وذكروا بيتاً نسبوه إلى حسّان بن ثابت وذكروا قصة بروايات ضعيفة سنذكرها . وأيّا ما كان فالقول فيه هو والقول في تفسير التمني بالمعنى المشهور سواءٌ ، أي إذا قرأ على الناس ما أنزل إليه ليهتدوا به ألقَى الشيطان في أمنيته ، أي في قراءته ، أي وسوس لهم في نفوسهم ما يناقضه وينافيه بوسوسته للناس التكذيب والإعراض عن التدبر . فشبه تسويل الشيطان بوسوسته للكافرين عدمَ امتثال النبي بإلقاء شيء في شيء لخلطه وإفساده .

وعندي في صحة إطلاق لفظ الأمنية على القراءة شك عظيم ، فإنه وإن كان قد ورد تمنّى بمعنى قرأ في بيت نسب إلى حسّان بن ثابت إن صحت رواية البيت عن حسان على اختلاف في مصراعه الأخير :

تمنى كتاب الله أولَ ليله *** تمنيَ داوود الزبورَ على مَهل

فلا أظن أن القراءة يقال لها أمنية .

ويجوز أن يكون المعنى أن النبي إذا تمنّى هدْي قومه أو حرَص على ذلك فلقي منهم العناد ، وتمنّى حصول هداهم بكل وسيلة ألقى الشيطان في نفس النبي خاطر اليأس من هداهم عسى أن يُقْصر النبيءُ من حرصه أو أن يضجره ، وهي خواطر تلوح في النفس ولكن العصمة تعترضها فلا يلبث ذلك الخاطر أن ينقشع ويرسخ في نفس الرسول ما كلّف به من الدأب على الدعوة والحرص على الرشد . فيكون معنى الآية على هذا الوجه ملوّحاً إلى قوله تعالى : { وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سُلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] .

و { ثُمّ } في قوله : { ثم يحكم الله آياته } للترتيب الرتبي ، لأنّ إحكام الآيات وتقريرها أهمّ من نَسخ ما يُلقي الشيطان إذ بالإحكام يتضح الهُدى ويزدادُ ما يلقيه الشيطان نسخاً .

وجملة { والله عليم حكيم } معترضة .

ومعنى هذه الآية : أن الأنبياء والرسل يرجون اهتداء قومهم ما استطاعوا فيبلغونهم ما ينزل إليهم من الله ويعظونهم ويدعونهم بالحجة والمجادلة الحسنة حتى يظنوا أن أمنيتهم قد نجحت ويقترب القوم من الإيمان ، كما حكى الله عن المشركين قولهم : { أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 41 - 42 ] فيأتي الشيطان فلا يزال يوسوس في نفوس الكفار فينكصون على أعقابهم ، وتلك الوساوس ضروب شتى من تذكيرهم بحب آلهتهم ، ومن تخويفهم بسوء عاقبة نبذ دينهم ، ونحو ذلك من ضروب الضلالات التي حُكيت عنهم في تفاصيل القرآن ، فيتمسك أهل الضلالة بدينهم ويصدّون عن دعوة رسلهم ، وذلك هو الصبر الذي في قوله : { لولا أن صبرنا عليها } [ الفرقان : 42 ] وقوله : { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم } [ ص : 6 ] . وكلما أفسد الشيطان دعوة الرّسل أمرَ الله رسلَه فعاودوا الإرشاد وكرروه وهو سبب تكرر مواعظ متماثلة في القرآن ، فبتلك المعاودة يُنسخ ما ألقاه الشيطان وتُثبت الآيات السالفة . فالنسخ : الإزالة ، والإحكام : التثبيت . وفي كلتا الجملتين حذف مضاف ، أي ينسخ آثارَ ما يُلقي الشيطان ، ويُحكم آثارَ آياته .