{ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ }
أي : لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون ، وإذا لم يكن فيه خير ، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح ، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه .
ثم استثنى تعالى فقال : { إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ } من مال أو علم أو أي نفع كان ، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، وفي بضع أحدكم صدقة " الحديث .
{ أَوْ مَعْرُوفٍ ْ } وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه ، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر ، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف ، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر . وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور ، والمنكر بترك المنهي .
{ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ } والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين ، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره ، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض ، بل وفي الأديان كما قال تعالى : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ } وقال تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ } الآية .
وقال تعالى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ } والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة ، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله .
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ } . فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير ، كما دل على ذلك الاستثناء .
ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص ، ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ } فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير ، ليحصل له بذلك الأجر العظيم ، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين ، وليتم له الأجر ، سواء تم مقصوده أم لا ، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل .
{ لا خير في كثير من نجواهم } من متناجيهم كقوله تعالى : { وإذ هم نجوى } أو من تناجيهم فقوله : { إلا من أمر بصدقة أو معروف } على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل . وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به . { أو إصلاح بين الناس } أو إصلاح ذات البين . { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه ، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى ، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجرا . ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا . وقرأ حمزة وأبو عمرو " يؤتيه " بالياء .
الضمير في { نجواهم } عائد على الناس أجمع ، وجاءت هذه الآيات عامة التناول ، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة ، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة ، والنجوى : المسارَّة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا{[4280]} ، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه ، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل ، كأنه قال : لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من ، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه ، كأنه قال : لا خير في كثير من تناجيهم ، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف ، كأنه قال : إلا نجوى من ، قال بعض المفسرين : النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سراً أو جهراً .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : انفراد الجماعة من الاستسرار ، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه ، و «المعروف » : لفظ يعم الصدقة والإصلاح ، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما ، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد ، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم » على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى . و { ابتغاء } نصب على المصدر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي { فسوف نؤتيه } بالنون وقرأ أبو عمر وحمزة «يؤتيه » بالياء والقراءتان حسنتان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا خير في كثير من نجواهم}، يعني قوم طعمة قيس بن زيد، وكنانة بن أبي الحقيق، وأبو رافع، وكلهم يهود، حين تناجوا في أمر طعمة، ثم استثنى، فقال: {إلا من أمر بصدقة أو معروف}، يعني القرض، {أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما}: جزاء عظيما...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}: لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا. {إلاّ مَنْ أمَرَ بصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ}؛ والمعروف: هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البرّ والخير.
{أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاسِ}: وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به. ثم أخبر جلّ ثناؤه بما وعد من فعل ذلك، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله، يعني طلب رضا الله بفعله ذلك¹ {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما}: فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما، ولا حدّ لمبلغ ما سمى الله عظيما يعلمه سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فكأنه قال {لا خير في كثير} منهم إلا من يرجع أمره إلى ما ذكر، فيصير إلى خير. وقد يحتمل أن قوما يرجع نجواهم إلى خير، وهم أقلهم. ومن فعل النجوى على أن الفعل ربما يكون فعل خير، وإن كانوا أهل النفاق والكفر. لكن بين أنه غير مقبول إلا أن يبتغي مرضاة الله. وذلك لا يكون إلا أن يؤمنوا...
النَّجْوَى هو: الإسرار؛ فأبان تعالى أنه لا خير في كثير مما يتسارّون به إلا أن يكون ذلك أمراً بصدقة أو أمراً بمعروف أو إصلاح بين الناس، وكلّ أعمال البِرِّ معروف لاعتراف العقول بها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أفضل الأعمال ما كانت بركاته تتعدى صاحبَه إلى غيره؛ ففضيلة الصَدَقَة يتعدى نفعها إلى من تصل إليه،... وأمّا المعروف: فكلُّ حَسَنٍ في الشرع فهو معروف،... {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ} غيرَ سائلٍ به مالاً أو حائزٍ لنفسه به حالاً فعن قريب يبلغ رتبة الإمامة في طريق الله، وهذا هو الأجر الموعود في هذه الآية...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف} ومعناه: أن لا تتكلم فيما لا يعنيك، وتقتصر على المهم، ففيه النجاة. [كتاب الأربعين في أصول الدين: 83-84]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} من تناجي الناس {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} إلا نجوى من أمر، على أنه مجرور بدل من كثير، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوباً على الانقطاع، بمعنى: ولكن من أمر بصدقة، ففي نجواه الخير. وقيل: المعروف: القرض. وقيل إغاثة الملهوف. وقيل هو عامّ في كل جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة: الواجب، وبالمعروف: ما يتصدق به على سبيل التطوّع... وشرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوي فاعل الخير عبادة الله والتقرّب به إليه، وأن يبتغي به وجهه خالصاً. لأن الأعمال بالنيات.
فإن قلت: كيف قال: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك}؟ قلت: قد ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله، لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل. ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم، ويجوز أن يراد: ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر الأفعال.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في {نجواهم} عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة،... و «المعروف»: لفظ يعم الصدقة والإصلاح، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
هَذِهِ الْآيَةُ آيَةٌ بِكْرٌ لَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ فِيهَا ذِكْرٌ.
وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ.
وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بِصِفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَالسَّعْيِ فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَفِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى مَصْدَرًا، كَالْبَلْوَى وَالْعَدْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلْمُنْتَجِينَ كَمَا قَالَ: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}.
فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُنْتَجِينَ فَقَوْلُهُ: {إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} اسْتِثْنَاءُ شَخْصٍ مِنْ شَخْصٍ، وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى حَذْفِ تَقْدِيرِهِ: إلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ النَّجْوَى:
ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ».
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ، وَهُوَ ضَرَرٌ؛ وَالضَّرَرُ لَا يَحِلُّ بِإِجْمَاعٍ، وَبِالنَّصِّ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَمُنَافِقٍ وَمُخْلِصٍ، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ حَيْثُ يَتَوَقَّعُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَجَمِيلِ الْأَدَبِ؛ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ.
وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ النَّهْيِ وَتَمَادِي الْأَمْرِ وَعُمُومُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ. «مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ». وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَدَعَا رَابِعًا، وَأَوْقَفَهُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ رَيْثَمَا تَكَلَّمَ الرَّجُلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ يَعْنِي أَرْبَعٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إذَا عُلِمَتْ بِالنَّظَرِ اطَّرَدَتْ حَيْثُمَا وُجِدَتْ، وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهَا أَيْنَمَا كَانَتْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ تَحْزِينُ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَكُلَّمَا كَثُرَ الْعَدَدُ كَانَ التَّحْزِينُ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْمَنْعُ آكَدَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّلٌ بِتَحْزِينِ الْوَاحِدِ فَإِذَا اسْتَأْذَنَهُ فَأَذِنَ لَهُ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله {إلا من أمر بصدقة} وإما أن يكون من الخيرات الروحانية، وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله {أو معروف} وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة بقوله {أو إصلاح بين الناس} فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية...
[والآية] من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} أي نجوى جميع المناجين {إلا من} أي نحوى من {أمر بصدقة} ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله: {أو معروف} أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها. ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله: {أو إصلاح بين الناس} أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً... ولما كان التقدير: فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله: {من يفعل ذلك} أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء {ابتغاء مرضاة الله} الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية {فسوف نؤتيه} أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه {أجراَ عظيماً}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والحكمة في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر هي أن العادة الغالبة وسنة الفطرة المتبعة هي استحباب إظهار الخير والتحدث به في الملأ، وإن الشر والإثم هو الذي يخفى، ويذكر في السر والنجوى، وفي الحديث الشريف: (الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس) وقلما يكتم الناس شيئا من الخير المطلق المتفق على كونه خيرا، وإنما الغالب في كتمان بعض الخير وإسراره وجعل الحديث فيه نجوى أن يكون ذلك الخير خيرا للمتناجين وشرا لغيرهم أو مؤذيا له ولو من بعض الوجوه...
وهنالك أمور من الخير تتوقف خيريتها أو كمال الخير فيها وخلوه من الشوائب على كتمانه وجعل التعاون عليه سرا والحديث فيه نجوى، وهو ما ذكره الله تعالى من هذه الأمور الثلاثة. فما استثناها الله تعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها إلا لأنها يحتاج فيها إلى النجوى...
وأما المعروف فقد يخفى وجه استثنائه...
ولما كان الشرع مهذبا للنفوس ومرشدا للعقول، ومقوما لما مال وانْآد من أحكام الفطرة البشرية بسوء اجتهاد الناس، صار أعرف المعروف ما أرشد إليه أو أقره واستحسنه، وأنكر المنكر ما نهى عنه وذمه وكرهه، فالذي يؤمر بالمعروف على مسمع من الناس يستاء في الغالب من الآمر، ولا سيما إذا كان من أقرانه حقيقة أو ادعاء، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل، واتهاما له بالتقصير أو الجهل، وإشرافا عليه بالتعليم والتهذيب، من أجل هذا كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، وأقرب إلى القبول والإمضاء، وكان من هداية اللطيف الخبير أن يدخله في هذا الاستثناء، ليكف عنه محبو الاستعلاء، ولا يتأثم به من يعرفون فائدة الإخفاء...
وأما الإصلاح بين الناس فهو أيضا من الخير الذي قد يترتب على إظهاره والتحدث به في الملأ شر كبير، وضرر مستطير، فينقلب الإصلاح المطلوب إفسادا،...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة. فهو أولا نزلت بعض آياته تعليقا وتعقيبا على الأحداث التي تلت حادث اليهودي. من ارتداد "بشير
ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية؛ بتفوقها التربوي والتنظيمي؛ وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي؛ وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها.. وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله..
(لا خير في كثير من نجواهم. إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله، فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا)..
لقد تكرر في القرآن النهي عن النجوى؛ وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمرا.. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبى صلى الله عليه وسلم مسارة إن كان أمرا شخصيا لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس. أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص.
والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون "جيوب "في الجماعة المسلمة؛ وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها. وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل، وتواجه به الجماعة أمرا مقررا من قبل؛ أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها -وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول.
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها..
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة. وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحا؛ تعرض مشكلاته- التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيره؛ والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن -عرضا عاما. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء. لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتأمرون عليه! أو على مبدأ من مبادئه- من المنافقين غالبا -وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.
وهذه حقيقة تنفعنا. فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات!
والنص القرآني هنا يستثني نوعا من النجوى.. هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها:
(إلا من أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس)..
وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له: هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين. أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه. أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعا.. وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سرا على النهوض بهذا الأمر. فهذا ليس نجوى ولا تآمرا. ومن ثم سماه "أمرًا "وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له..
على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله:
(ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما)..
فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان. ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه- والله رجل طيب -! يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير. فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به. والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم تَخْلُ الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذّرت منها، من تناج وتحاوُر، سِرّا وجهراً، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقاً بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأنّ في ذلك تعليماً وتربية وتشريعاً، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشياً لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكّا، أي خوفاً، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهلِ الكتاب، فلذلك تكرّر النهي عن النجوى في القرآن نحو {ألَمْ تَرَ إلى الذين نُهوا عن النجوى} [المجادلة: 8] الآيات، وقوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] وقوله: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} [البقرة: 14]، فلذلك ذمّ الله النجوى هنا أيضاً، فقال: {لا خير في كثير من نجواهم}. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لإفادة حكم النجوى، والمناسبةُ قد تبيّنت...
وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإنّ شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأنّ الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلّم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا يصير إلى المناجاة إلاّ في أحوال شاذّة يناسبها إخفاء الحديث. فمَن يناجي في غير تلك الأحوال رُمي بأنّ شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التفسير العام لكلمة الصدقة نقول: كل ما يقدم من معونة إنسانية بالبدن أو المال عطاء أو تركا، وكل ما يتسامح فيه الإنسان: تأليفا لقلب محب يكون صدقة بل إن بعض العلماء جعلها تعم كل أبواب الخير، ومن ذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم:"كل معروف صدقة"...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تبين [الآية] أن أكثر ما يتناوله الناس في أحاديثهم من القيل والقال لا خير فيه، ولا فائدة من ورائه، وأن أحسن الحديث الذي ينبغي أن يشغل المسلمون أنفسهم به هو حديث البر والمعروف وإصلاح ذات البين، وذلك بقصد حضهم على الاتجاه وجهة الخير، وتنفيرهم من الاتجاه وجهة الشر، فيما يتبادلونه من آراء وأفكار، حيث إن الفكر عادة هو الذي يدفع إلى العمل، فإذا كانت أحاديث الناس ومحاوراتهم تنحو نحو الهدم اتجهت أعمالهم للهدم لا محالة، وعلى العكس من ذلك إذا كانت مشاغلهم الفكرية تنحو نحو البناء اتجهت أعمالهم إلى البناء بدل الهدم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لقد كانت حادثة السرقة، التي تقدم الحديث عنها، منطلقاً للحديث عن عدة مبادئ تتصل بخصوصياتها وترتبط بالقضايا العامة للناس؛ ومن هذه المبادئ موضوع التناجي الذي يمثل الحديث بين شخصين أو أكثر، والذي يأخذ طابع السريّة والتخفّي حذراً من اطلاع أحد آخر عليه. وقد جاءت هذه الآية لتتحدث عن الموضوع في مستوى القاعدة، فأطلقت الحكم في البداية على سبيل العموم: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ}، لأن السرية في الحديث في المجتمع الذي يرتكز على أسس العصبية أو يخضع لبعض أعراف الجاهلية ورواسبها، قد تلتقي غالباً بالأفكار الشريرة التي يخشى أصحابها من اطّلاع الناس عليها، فيحاولون أن يستفيدوا من أجواء السرية التي تشعرهم بالأمن والطمأنينة في الحديث عن كل ما يريدون من أوضاع التآمر على الإسلام والمسلمين. أما الذين يفكرون بالخير، فإنهم لا يخافون من تحمُّل مسؤوليته، ولا يحاذرون من الإعلان عنه أمام الناس، لأنه يلتقي بالجانب المشرق من حياة الأمة، وبالأجواء الطاهرة من قضاياها وأمانيها. فليست هناك أية مشكلة طبيعية من هذه الناحية، إلا في بعض الحالات التي يحتاج فيها الإنسان إلى الإسرار، حذراً من أعداء الأمة الذين يريدون تعطيل فرص الصلاح والإصلاح للناس. وهذا هو ما استثناه القرآن في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ...}
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أشارت الآيات السابقة إِلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى هذا الأمر بشيء من التفصيل، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً، لأنّها مشتقة من المادة «نجوة» أي بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى.
ويرى بعضهم أنّ كلمة «النجوى» مشتقة من مادة «النجاة» أي التحرر، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الاجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.
والآية هنا تذكر أنّ أغلب الاجتماعات السرّية التي يعقدها أولئك تهدف إِلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إِذ تقول: (لا خير في كثير من نجواهم).
ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا مذموماً أو حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإِنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: (إِلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إِصلاح بين الناس).
فإِذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الاجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة الله، فإِنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).
وقد عرف القرآن النجوى والهمس والاجتماعات السرّية من حيث المبدأ بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: (إِنّما النجوى من الشيطان...) والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالباً ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أنّ عمل الخير والشيء النافع والإِيجابي لا يحتاج في العادة إِلى أن يكون أو يبقى سرّياً أو مكتوماً عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرّية.
ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإِنسان على الاستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الاستثناء بصورة مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرّسول وتناجوا بالبرّ والتقوى...).
والنجوى إِذا حصلت ابتدأ في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأفضل أن لا يبادر الإِنسان إِلى النجوى إِلاّ إِذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.
وبديهي أنّ سمعة الإِنسان تستلزم أحياناً اتباع أُسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات.
والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحياناً بصورة علنية لأصبح سبباً في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سبباً في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف.
والحالة الأخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإِصلاح بين الناس، الذي يقتضي أن يكون سرياً أحياناً لضمان تحقيقه، إِذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإِصلاح، لذلك يجب أن يتمّ الإِصلاح بالتحدث إِلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى.
إِذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة.
والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى «الصدقة» وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إِنّما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى في إِصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس.
وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «إِنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم».