تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

أي : { فمن } جادلك { وحاجك } في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية ، بل رفعه فوق منزلته { من بعد ما جاءك من العلم } بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه ، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني ، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو ، لأن الحق قد تبين ، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله ، قصده اتباع هواه ، لا اتباع ما أنزل الله ، فهذا ليس فيه حيلة ، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته ، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين ، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء ، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا ، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة ، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه ، وهذا غاية الفساد والعناد ، فلهذا قال تعالى { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

{ فمن حاجك } من النصارى . { فيه } في عيسى . { من بعد ما جاءك من العلم } أي من البينات الموجبة للعلم . { فقل تعالوا } هلموا بالرأي والعزم . { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها ، وإنما قدمهم على الأنفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم . { ثم نبتهل } أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا . والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار . { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } عطف فيه بيان روي { أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر ، فلما تخالوا قالوا للعاقب -وكان ذا رأيهم- ما ترى فقال : والله لقد عرفتم نبوته ، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا ، فقال أسقفهم يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ، فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا له الجزية ألفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد ، فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي نارا ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ) . وهو دليل على نبوته وفضل من أتى بهم من أهل بيته .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَمَنۡ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ فَقُلۡ تَعَالَوۡاْ نَدۡعُ أَبۡنَآءَنَا وَأَبۡنَآءَكُمۡ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمۡ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمۡ ثُمَّ نَبۡتَهِلۡ فَنَجۡعَل لَّعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلۡكَٰذِبِينَ} (61)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فمن حاجك فيه}: فمن خاصمك في عيسى، {من بعد ما جاءك من العلم}: يعني من البيان من أمر عيسى، يعني ما ذكر في هذه الآيات، {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل}: نخلص الدعاء إلى الله عز وجل، {فنجعل لعنة الله على الكاذبين}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{فَمَنْ حاجّكَ فِيهِ}: فمن جادلك يا محمد في المسيح عيسى ابن مريم، والهاء في قوله: {فِيهِ} عائدة على ذكر عيسى، وجائز أن تكون عائدة على الحقّ الذي قال تعالى ذكره: {الحَقّ مِنْ رَبّكَ}. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ}: من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بينته لك في عيسى أنه عبد الله. {فَقُلْ تَعَالَوْا}: هلموا فلندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم. {ثم نَبْتَهِلْ} يقول: ثم نلتعن، يقال في الكلام: ما له بَهَلَهَ الله! أي لعنه الله، وما له عليه بُهْلَة الله! يريد اللعن. {فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}: منا ومنكم في آية عيسى.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك خوفا منهم لخوف اللعنة، فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاموا، وكابروا، فلم يقروا بالحق. وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناء، وفي تخلفهم عن ذلك دليل علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وعدوا بالنزول عليهم، لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد، ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة. ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة، وإنما يكون بتوفير الحجة وقطع الشبهة، ففي ذلك بيان أنه كانت ثم محاجات حتى بلغ الأمر على ذلك: أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل، وإنما يكون عند ظهور معاندتهم وكثرة سفههم حتى هموا بالقتال، وأكثروا الأذى، وأكرهوا قوما على الكفر، وأخرجوا رسول رب العالمين من بين أظهرهم بما راموا قتله، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران، فأذن الله عند ذلك بالقتال وفتح الفتوح لتكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة، وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة والتوحيد والرسالة، لكن على ما قال الله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 135]... وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ذلك باللطف والرفق، يري المقصود به ليقرر به عنده الحجة، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده، ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد. فإذا رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، فتداويه بما جاء به التعليم من الضرب والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا فكف شره عن غيره وتطهير الأرض، فإنه النهاية في القمع، والغاية في ما يحق من معاملة السفهاء، والله أعلم. لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية، بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير، والله أعلم. لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولا ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا بالله...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

بعدما ظَهَرْتَ على صدق ما يُقال لك، وتَحقَّقْتَ بقلبك معرفة ما خاطبناك، فلا تحتشم من حملهم على المباهلة، وثقْ بأن لك القهر والنصرة، وأَنَّا توليناك، وفي كنف قُرْبنا آويناك،...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

والابتهال: الاجتهاد في دعاء اللعنة...واللعنة: الإبعاد والطرد عن الرحمة بطريق العقوبة،...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {تعالوا} تفاعلوا من العلو، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه وللبهيمة ونحو ذلك.. ودعاء النساء [والأبناء] للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي عليه السلام جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط...

.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم، ألزمهم على تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى: {فمن} أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك: من {حآجك فيه} أي خاصمك بإيراد حجة، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد.

ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال: {من} أي مبتدئاً المحاجة من، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة {بعدما جآءك من العلم} أي الذي أنزلناْه إليك وقصصناه عليك في أمره {فقل تعالوا} أي أقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل {ندع أبنآءنا وأبناءكم} أي الذين هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه {ونساءنا ونساءكم} أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي {وأنفسنا وأنفسكم} فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق. ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال: {ثم نبتهل} أي نتضرع -قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره. وقال الحرالي: الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود- انتهى. {فنجعل لعنت الله} أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجير ولا يجار عليه، أي إبعاده وطرده {على الكاذبين} و قال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه: ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام -يعني في البقرة- بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه، وأنذروا وحذروا؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام -يعني هنا- بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة -انتهى.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل} لهم قولا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل {تعالوا ندع أبناءنا وأبناءك ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل} يقال ابتهل الرجل دعا وتضرع، والقوم تلاعنوا. وفسر الابتهال هنا بقوله: {فنجعل لعنت الله على الكاذبين} وتسمى هذه الآية آية المباهلة، وقد ورد من عدة طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا نصارى نجران للمباهلة فأبوا. أخرج البخاري ومسلم:" أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا. فقال له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال: هذا أمين هذه الأمة".

وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس "إن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى: {قل تعالوا}. فقالوا أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة. فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم "وروي في الصلح غير ذلك. ومنها صالحوه على الجزية.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما عليهم السلام والرضوان وخرج بهم وقال: "إن أنا دعوت فأمِّنوا أنتم" وفي رواية لمسلم والترمذي وغيرهما عن سعد قال: "لما نزلت هذه الآية {قل تعالوا} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهلي" وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه {قل تعالوا ندع أبناءنا} قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده. والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.

قال الأستاذ الإمام: الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نساءنا على علي وفاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضيعها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة "نساءنا" لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك ان يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان. ثم إن وفد النجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم. وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته؟ وأي جراءة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا؟

قال: أما كون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: {من بعد ما جاءك من العلم} فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: {ندع أبناءنا وأبناءكم} إلخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم كذلك ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص.

أقول: وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل في الأمور العامة إلا ما استثني منها ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى. وقد علمنا ما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{من بعد ما جاءك من العلم} بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته،...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

و (ثم) هنا للتراخي الرتبي...

وهذه المباهلة لعلّها من طرق التناصف عند النصارى فدعاهم إليها النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الحجة عليهم. وإنما جمع في الملاعنة الأبناء والنساء: لأنه لمّا ظهرت مكابرتهم في الحق وحبّ الدنيا، عُلم أنّ من هذه صفته يكون أهله ونساؤه أحبّ إليه من الحق كما قال شعيب {أرَهْطِيَ أعَزُّ علَيكم من الله} وأنه يخشى سوء العيش، وفقدان الأهل، ولا يخشى عذاب الآخرة. والظاهر أنّ المراد بضمير المتكلم المشارَك أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، والذين يحضرهم لذلك وأبناء أهل الوفد ونساؤهم اللاّئي كُنَّ معهم. والنساء: الأزواج لا محالة، وهو إطلاق معروف عند العرب إذا أضيف لفظ النساء إلى واحد أو جماعة دون ما إذا وَرَد غير مضاف، قال تعالى: {يا نساء النبيء لستُنّ كأحدٍ من النساء} [الأحزاب: 32] وقال: {ونساء المؤمنين}... والأنفس أنفس المتكلمين وأنفس المخاطبين أي وإيانا وإياكم، وأما الأبناء فيحتمل أنّ المراد شبانهم، ويحتمل أنه يشمل الصبيان، والمقصود أن تعود عليهم آثار الملاعنة...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

المحاجة: تبادل الحجة،سواء أكانت الحجة قوية ام كانت حجة داحضة عند ربهم،... والمعنى على الأول يشير إلى ان المباهلة بين أهل الحق مجتمعين،وأهل الباطل مجتمعين،ثم يتجهون جميعا على رب العالمين؛ لأن الأمر يهم الجميع،فإما ان يذعن احد الفريقين للآخر،وإما انه يطرد من رحمة الله تعالى.وعلى الثاني يشير إلى ان المباهلة بين النبي وأسرته،وكبراء الفريق الآخر وأسرهم،... وفي الآيات الكريمة إشارة إلى عدة معان نفسية واجتماعية:

أولها:أن المجادل المماري لا تزيده الحجة القوية اقتناعا،ولا تحمله على الإذعان،إنما يحمله على الإذعان التوجيه النفسي،بأن يدرس مقدار اقتناعه هو بما يقول،وفي الابتهال وسط لجاجة أولئك الذين يحرفون الكلم عن مواضعه دعوة لهم إلى ان يفتشوا قلوبهم ويعرفوا مقدار إيمانهم بما يقولون،ومقدار الحق فيما يعدلون؛ ولذلك خروا صاغرين،ولم يستطيعوا جدالا.

وثانيها:أن الدعوة بالتي هي أحسن توجب على الداعي ألا يفرط في المجادلة،كما كان يقول الإمام مالك:بين الحق ولا تجادل فيه،فإن كل مجادلة توجب على الفريق الآخر ان يلتزم موقفه.

ثالثها:انه يجب ان تعلم الذرية والنساء شئون الدين؛ ولذلك كانوا مشتركين في تلك المنزلة بين الحق والباطل وهذه المعركة النفسية الفاصلة بين إيمان المؤمنين،وانحراف المنحرفين.

ورابعها:التعاون الفكري والنفسي بين المؤمنين؛ فإن تلك المباهلة كانت بين اهل الإيمان متعاونين على دعوة الحق،وأهل الباطل مدعوين إلى التعاون عليه فيها عن كانوا مؤمنين به،فلم يحيروا جوابا...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم...).

بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بألوهية عيسى بن مريم، يأمر الله نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره أن يقول لهم: إنّي سأدعو أبنائي، وأنتم ادعوا أبناءكم، وأدعو نسائي، وأنتم ادعوا نساءكم، وأدعو نفسي، وتدعون أنتم أنفسكم، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منّا (فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين).

ولا حاجة للقول بأنّ القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن، ثمّ ليتفرّقوا كلٌ إلى سبيله، لأنّ عملاً كهذا لن يكون له أيّ تأثير، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عياناً فيحيق بالكاذب عذاب فوري.

وبعبارة أخرى: فإنّ المباهلة وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها كانت بمثابة «السهم الأخير» بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال، فإنّ الدعاء وحده لم يكن المقصود بها، بل كان المقصود منها هو «أثرها الخارجي».

بحوث:

المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام:

لعلّ قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب، بل كانت أُسلوباً يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع. إذ كيف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان، فيطلب من معارضيه أن يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب، وأن يروا سرعة ما يحلّ بالكاذب من عقاب؟! لاشكّ أنّ دخول هذا الميدان خطر جدّاً، لأن المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أيّ أثر لعقاب الله على معارضيه، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدرك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئناً إلى أنّ النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة تعتبر واحداً من الأدلّة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.