{ 4 - 5 } { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
لما عظم تعالى أمر الزاني{[557]} بوجوب جلده ، وكذا رجمه إن كان محصنا ، وأنه لا تجوز مقارنته ، ولا مخالطته على وجه لا يسلم فيه العبد من الشر ، بين تعالى تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزنا فقال : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ْ } أي : النساء الأحرار العفائف ، وكذاك الرجال ، لا فرق بين الأمرين ، والمراد بالرمي الرمي بالزنا ، بدليل السياق ، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ْ } على ما رموا به { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ْ } أي : رجال عدول ، يشهدون بذلك صريحا ، { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ْ } بسوط متوسط ، يؤلم فيه ، ولا يبالغ بذلك حتى يتلفه ، لأن القصد التأديب لا الإتلاف ، وفي هذا تقدير حد القذف ، ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا ، وأما قذف غير المحصن ، فإنه يوجب التعزير .
{ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ْ } أي : لهم عقوبة أخرى ، وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة ، ولو حد على القذف ، حتى يتوب كما يأتي ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ } أي : الخارجون عن طاعة الله ، الذين قد كثر شرهم ، وذلك لانتهاك ما حرم الله ، وانتهاك عرض أخيه ، وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به ، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان ، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب .
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا ، ليس في هذا نزاع بين العلماء . فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله ، رُدّ عنه الحد ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ، فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على صحة ما قاله ثلاثة أحكام :
الثاني : أنه{[20796]} ترد شهادته دائما .
الثالث : أن يكون فاسقًا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس .
هذه الآية نزلت في القاذفين ، فقال سعيد بن جبير كان سببها ما قيل في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، وقيل نزلت بسبب القذفة عاماً لا في تلك النازلة ، وذكر الله تعالى في الآية قذف النساء من حيث هواهم ، ورميهن بالفاحشة أبشع وأنكى للنفوس ، وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى ، وإجماع الأمة على ذلك وهذا نحو نصه تعالى على لحم الخنزير ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع ، وحكى الزهراوي أن في المعنى الأنفس { المحصنات } فهي بلفظها الرجال والنساء ويدل على ذلك قوله تعالى : { والمحصنات من النساء }{[8596]} [ النساء : 24 ] ، والجمهور على فتح الصاد من «المحصَنات » ، وكسرها يحيى بن وثاب . و { المحصنات } العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف ، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام ، وفي هذه النازلة الحرية{[8597]} ومنه قول حسان : حصان رزان{[8598]} ، البيت ، ومنه قوله تعالى : { والتي أحصنت فرجها }{[8599]} [ الأنبياء : 91 ] ، وذكر الله من صفات النساء المنافية للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من النساء حسب الخلاف في ذلك وعبر عن القذف ب «الرمي » ، من حيث معتاد الرمي أَنه مؤذ كالرمي بالحجر والسهم فلما كان قول القاذف مؤذياً جعل رمياً ، وهذا كما قيل وجرح اللسان كجرح اليد{[8600]} ، والقذف والرمي معنى واحد ، وشدد الله تعالى على القاذف { بأربعة شهداء } رحمة بعباده وستراً لهم ، وقرأ جمهور الناس «بأربعةِ شهداء » على إضافة الأربعة إلى الشهداء ، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة وابن جريج «بأربعةٍ » بالتنوين و «شهداء » على هذا ، إما بدل وإما صفة للأربعة وإما حال وإما تمييز وفي هذين نظر إذ الحال من نكرة والتمييز مجموع ، وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر ، وقد حسن أبو الفتح هذه القراءة ورجحها على قراءة الجمهور{[8601]} ، وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد فإن اضطراب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أَنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع ، وقال الزهراوي عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم ، وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي ، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم يؤدها كاملة ، فجلد عمر الثلاثة المذكورين{[8602]} ، و «الجلد » الضرب والمجالدة المضاربة في الجلود ، أو بالجلود ، ثم استعير الجلد لغير ذلك من سيف وغيره ومنه قول قيس بن الخطيم : [ الطويل ]
أجالدهم يوم الحديقة حاسراً . . . كأن يدي بالسيف مخراق لاعب{[8603]}
ونصب { ثمانينَ } على المصدر و { جلدةً } على التمييز ، ثم أمر تعالى أن لا تقبل للقذفة المحدودين { شهادة أبداً } وهذا يقتضي مدة أَعمارهم ، ثم حكم عليهم بأنهم { فاسقون } أي خارجون عن طاعة الله عز وجل ، ثم استثنى عز وجل من تاب وأصلح بعد القذف فإِنه وعدهم بالرحمة والمغفرة ، فتضمنت الآية ثلاثة أحكام في القاذف : جلده ، ورد شهادته أبداً ، وفسقه ، فالاستثناء ، غير عامل في جلده بإجماع{[8604]} وعامل في فسقه بإجماع{[8605]} ، واختلف الناس في عمله في رد الشهادة ، فقال شريح القاضي وإبراهيم النخعي والحسن الثوري وأبو حنيفة لا يعمل الاستثناء في رد شهادته{[8606]} وإنما يزول فسقه عند الله تعالى ، وأما شهادة القاذف فلا تقبل البتة ولو تاب وأكذب نفسه ولا بحال من الأحوال ، وقال جمهور الناس الاستثناء عامل في رد الشهادة فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ثم اختلفوا في صورة فمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشعبي وغيره أن توبته لا تكون إلا بأَن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي حد فيه ، وهكذا فعل شبل بن معبد ونافع تابا عن القول في المغيرة وأكذبا أنفسهما فقبل عمر شهادتهما ، وأَبى أبو بكرة من إكذاب نفسه فرد عمر شهادته حتى مات ، وقال مالك رحمه الله وغيره توبته أن يصلح ويحسن حاله وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب ، واختلف فقهاء المالكيين متى تسقط شهادة القاذف ، فقال ابن الماجشون بنفس قذفه ، وقال ابن القاسم وأشهب وسحنون لا تسقط حتى يجلد فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي شهادته في مدة الأَجل في الإثبات موقوفة ، ورجح القول بأن التوبة إنما تكون بالتكذيب في القذف ، وإلا فأي رجوع لعدل إن قذف وحد وبقي على عدالته .