ولما كان الأمر بالقتال ، لو لم يقيد ، لشمل الأشهر الحرم وغيرها ، استثنى تعالى ، القتال في الأشهر الحرم فقال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا ، وقال بعض المفسرين : إنه لم ينسخ ، لأن المطلق محمول على المقيد ، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا ، ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم ، بل أكبر مزاياها ، تحريم القتال فيها ، وهذا إنما هو في قتال الابتداء ، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم ، كما يجوز في البلد الحرام .
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل ، لسرية عبد الله بن جحش ، وقتلهم عمرو بن الحضرمي ، وأخذهم أموالهم ، وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب ، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم ، وكانوا في تعييرهم ظالمين ، إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين ، قال تعالى في بيان ما فيهم : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله ، وفتنتهم من آمن به ، وسعيهم في ردهم عن دينهم ، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، الذي هو بمجرده ، كاف في الشر ، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام ؟ ! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي : أهل المسجد الحرام ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأنهم أحق به من المشركين ، وهم عماره على الحقيقة ، فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه ، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد ، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام ، فكيف وقد اجتمعت فيهم ؟ ! فعلم أنهم فسقة ظلمة ، في تعييرهم المؤمنين .
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين ، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم ، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم ، ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير ، فهم باذلون قدرتهم في ذلك ، ساعون بما أمكنهم ، { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }
وهذا الوصف عام لكل الكفار ، لا يزالون يقاتلون غيرهم ، حتى يردوهم عن دينهم ، وخصوصا ، أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، الذين بذلوا الجمعيات ، ونشروا الدعاة ، وبثوا الأطباء ، وبنوا المدارس ، لجذب الأمم إلى دينهم ، وتدخيلهم عليهم ، كل ما يمكنهم من الشبه ، التي تشككهم في دينهم .
ولكن المرجو من الله تعالى ، الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام ، واختار لهم دينه القيم ، وأكمل لهم دينه ، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام ، وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره ، ويجعل كيدهم في نحورهم ، وينصر دينه ، ويعلي كلمته .
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار ، كما صدقت على من قبلهم : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام ، بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا ، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام ، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ودلت الآية بمفهومها ، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته ، وكذلك من تاب من المعاصي ، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، حدثني الحَضْرَمي ، عن أبي السَّوار ، عن جُنْدَب بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطًا ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجَرّاح [ أو عبيدة بن الحارث ]{[3763]} فلما ذهب ينطلق ، بَكَى صَبَابة{[3764]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَجَلَس ، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابًا ، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : لا تُكْرِهَنّ أحدًا على السير معك من أصحابك . فلما قرأ الكتابَ استرجع ، وقال : سمعًا وطاعة لله ولرسوله . فخبَّرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ، وبقي بقيَّتُهم ، فلقوا ابن الحَضْرَمي فقتلوه ، ولم يَدْرُوا أن ذلك اليوم من رجب أو من جُمَادى . فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ! فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الآية .
وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيَّة ، وكانوا سَبْعَة نفر ، عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي ، وفيهم عَمَّار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وَقَّاص ، وعتبة بن غَزْوان السُّلمي - حليف لبني نَوْفل - وسُهَيل بن بيضاء ، وعامر بن فُهيرة ، وواقد بن عبد الله اليَرْبوعي ، حليف لعمر بن الخطاب . وكتب لابن جحش كتابًا ، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل{[3765]} فلما نزل بطن مَلَل{[3766]} فتح الكتاب ، فإذا فيه : أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة . فقال لأصحابه : مَنْ كان يريد الموت فَلْيمض ولْيوص ، فإنني مُوص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسار ، فتخلف عنه سعد بن أبي وقَّاص ، وعتبة ، وأضلا راحلة لهما فَأتيا بُحْران{[3767]} يطلبانها ، وسار ابنُ جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هو بالحكم بن كيسان ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي ، وعبد الله بن المغيرة . وانفلت [ ابن ]{[3768]} المغيرة ، [ فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة ]{[3769]} وقُتِل عَمْرو ، قتله واقد بن عبد الله . فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين{[3770]} وما أصابوا المال ، أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى ننظر ما فعل صاحبانا " فلما رجع سعد وصاحبه ، فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون وقالوا : إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله ، وهو أول من استحل الشهر الحرام ، وقتل صاحبنا في رجب . فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى - وقيل : في أول رجب ، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب . فأنزل الله يُعَيِّر أهل مكة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصدَدْتم عنه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه ، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه ، حين أخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وذلك أنّ المشركين صَدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وَرَدوه عن المسجد [ الحرام ]{[3771]} في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حَرَام من العام المقبل . فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام . فقال الله : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } من القتال فيه . وأنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا عَمْرو بن الحضرمي ، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ، وأوّل ليلة من رجب . وأنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه . وأنّ المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك . فقال الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } وغير ذلك أكبر منه : صَدّ عن سبيل الله ، وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراجُ أهله منه{[3772]} ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصابَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه .
وهكذا روى أبو سَعد{[3773]} البقَّال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنها أنزلت{[3774]} في سَريَّة عبد الله بن جحش ، وقتْل عمرو بن الحضرمي .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزل فيما كان من مصاب عَمْرو بن الحضرمي : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } إلى آخر الآية .
وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني ، رحمه الله ، في كتاب السيرة له ، أنَّه قال : وبعث - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جَحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مَقْفَله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابًا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يَسْتكره من أصحابه أحدًا . وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين . ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف : أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، ومن حلفائهم : عبد الله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعُكَّاشة بن محْصن بن حُرْثان ، أحد بني أسد ابن خزيمة ، حليف لهم . ومن بني نَوفل بن عبد مناف : عتبة بن غَزْوَان بن جابر ، حليف لهم . ومن بني زُهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص . ومن بني عدي بن كعب : عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عَنز بن وائل ، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عَرِين بن ثعلبة بن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم . وخالد بن البُكَير أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم . ومن بني الحارث بن فِهْر : سُهَيل بن بيضاء .
فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، ترصد بها قريشًا ، وتعلم لنا من أخبارهم " . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعًا وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشًا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادةَ ويرغب فيها فَلْيَنطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد .
فسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بِمَعْدن ، فوق الفُرْع ، يقال له : بُحْران{[3775]} أضلّ سعد بن أبي وقاص وعُتبة بن غزوان بعيرًا لهما ، كانا يَعْتقبانه ، فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارة من تجارة قريش ، فيها : عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، والحكم بن كَيسان ، مولى هشام بن المغيرة .
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنُوا وقالوا : عُمَّار ، لا بأس عليكم منهم . وتشاور القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلةَ ليدخلن الحرم ، فليمتنعنّ منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقْتُلنَّهم في الشهر الحرام . فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قَدروا عليه منهم ، وأخْذ ما معهم . فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي{[3776]} عمرَو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمانَ بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفلُ بن عبد الله فأعجزهم . وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .
قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش : أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس ، وذلك قبل أن يَفْرض الله الخمس من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه .
قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقَّف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا ، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه الشهرَ الحرام ، وسفكوا فيه{[3777]} الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . فقال من يَرُدّ عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان .
وقالت : يهودُ تَفَاءلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله : عمرو : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب . فجعل الله عليهم ذلك لا لهم .
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي : إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم {[3778]} منهم ، { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي : قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه{[3779]} فذلك أكبر عند الله من القتل :
{ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } أي : ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين .
قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نُفْديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة ابن غَزْوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم . فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم .
فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسُن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا . وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ، فمات بها كافرًا .
{ يسألونك عن الشهر الحرام } روي ( أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة -قبل بدر بشهرين- ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الخضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه وأسروا اثنين واستأنفوا العير وفيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش ) استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف ، وينذعر فيه الناس إلى معايشهم . وشق ذلك الآخرة على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام ) والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعا وتعييرا وقيل أصحاب السرية . { قتال فيه } بدل اشتمال من الشهر الحرام . وقرئ " عن قتال " بتكرير العامل . { قل قتال فيه كبير } أي ذنب كبير ، والأكثر أنه منسوخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } خلافا لعطاء وهو نسخ الخاص بالعام وفيه خلاف ، والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقا فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا يعم . { وصد } صرف ومنع . { عن سبيل } الله أي الإسلام ، أو ما يوصل العبد إلى الله سبحانه وتعالى من الطاعات . { وكفر به } أي بالله . { والمسجد الحرام } على إرادة المضاف أي وصد المسجد الحرام كقول أبي دؤاد :
أكل امرئ تحسبين امرأ *** ونار توقد بالليل نارا
ولا يحسن عطفه على { سبيل الله } لأن عطف قوله : { وكفر به } على { وصد } مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ولا على الهاء في { به } ، فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار . { وإخراج أهله منه } أهل المسجد الحرام وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون . { أكبر عند الله } مما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن ، وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش . وأفعل مما يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . { والفتنة أكبر من القتل } أي ما ترتكبونه من الإخراج والشرك أفظع مما ارتكبوه من قتلى الحضرمي . { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم } إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وإنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم ، وحتى للتعليل كقولك أعبد الله حتى أدخل الجنة . { إن استطاعوا } وهو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بقوته : على قرنه إن ظفرت بي فلا تبق علي ، وإيذان بأنهم لا يردونهم . { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ، والمراد بها الأعمال النافعة وقرئ { حبطت } بالفتح وهي لغة فيه . { في الدنيا } لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية . { والآخرة } بسقوط الثواب . { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } كسائر الكفرة .
من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهرَ الحرمَ إذ كان محجراً في العرب من عهد قديم ، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر ؛ لأنه من المصالح قال تعالى { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام .
روى الواحدي في « أسباب النزول » عن الزهري مرسلاً وروى الطبري عن عروة بن الزبير مرسلاً ومطوَّلاً ، أن هذه الآية نزلت في شأن سَريَّة عبد الله بن جَحْش ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقّى عيراً لقريش ببطن نَخْلَةَ في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة ، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحَضْرَمِيِّ ، فقتل رجل من المسلمين عَمْراً وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة ، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فعظم ذلك على قريش وقالوا : استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية . فقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين ، وقيل : رد الأسيرين وأخذ الغنيمة .
فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وآية { وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم } [ البقرة : 190 ] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه ، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالاً لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان ، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة . والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية { الشهر الحرام بالشهر الحرام } [ البقرة : 194 ] .
والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية ، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } . وهذا هو المناسب لقوله هنا { وصد عن سبيل الله } إلخ وقيل : سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش . فالجملة استئناف ابتدائي ، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية { كتب عليكم القتال } [ البقرة : 216 ] ظاهرة .
والتعريف في ( الشهر الحرام ) تعريف الجنس ، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله : { قتال فيه } ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة ، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله ( فيه ) يجعلها في قوة المعرفة .
فالمراد بيان أيِّ شهر كان من الأشهر الحُرم وأيِّ قتال ، فإن كان السؤال إنكارياً من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر ، وإن كان استفساراً من المسلمين فكذلك ، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر ، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهْوَ لا يختص بشهر دون شهر .
وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأَجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيهاً على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال ؟ لاَ لأَجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان ، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام ، وهذه نكتة لإبدال عطفِ البيان تنفع في مواقع كثيرة ، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقاً بارتكاب الإجمال ثم التفصيل .
وتنكير ( قتال ) مراد به العموم ، إذ ليس المسؤول عنه قتالاً معيناً ولا في شهر معين ، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس . و ( فيه ) ظرف صفة لقتال مخصصة له .
وقوله : { قل قتال فيه كبير } إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحاً حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير ، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانياً باللام مع تقدم ذكره في السؤال ، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف ( فيه ) ، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلاّ التنصيصَ على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها ، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد ، قال التفتازاني : فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن .
والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين ، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكاراً من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثَوِّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض .
والكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه ، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش ، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس ، شبه القوي في نوعه بعظيم الجثة في الأفراد ، لأنه مألوف في أنه قوى ، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام ، مثل تسمية الذنب كبيرة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « وما يعذَّبان في كبير وإنه لكبير » الحديثَ .
والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير ، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام ، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين ، ولا لقتل في شهر دون غيره ، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم ، لأن المسؤول عنه حُكْم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل ، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحاً هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسؤول عنه وهو الذي وقع التحرج منه ، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام ، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذٍ .
والآية دليل على تحريم القتال في الأشهر الحُرم وتقرير لما لتلك الأشهر من الحرمة التي جعلها الله لها منذ زمن قديم ، لعله من عهد إبراهيم عليه السلام فإن حرمة الزمان تقتضي ترك الإثم في مُدَّته .
وهذه الأشهر هي زمن للحج ومقدماته وخواتمه وللعمرة كذلك فلو لم يحرم القتال في خلالها لتعطل الحج والعمرة ، ولذلك أقرها الإسلام أيام كان في بلاد العرب مشركون لفائدة المسلمين وفائدة الحج ، قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] الآية .
وتحريم القتال في الشهر الحرام قد خصص بعد هذه الآية ثم نسخ ، فأما تخصيصه فبقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } إلى قوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } [ البقرة : 191 ، 194 ] . وأما نسخة فبقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } إلى قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 1 ، 5 ] فإنها صرحت بإبطال العهد الذي عاهد المسلمون المشركين على الهدنة ، وهو العهد الواقع في صلح الحديبية ؛ لأنه لم يكن عهداً مؤقتاً بزمن معين ولا بالأبد ، ولأن المشركين نكثوا أيمانهم كما في الآية الأخرى : { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول } [ التوبة : 13 ] . ثم إن الله تعالى أَجَّلهم أجلاً وهو انقضاء الأشهر الحرم من ذلك العام وهو تسعة من الهجرة في حجة أبي بكر بالناس ، لأن تلك الآية نزلت في شهر شوال وقد خرج المشركون للحج فقال لهم { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة ، ثم قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } أي تلك الأشهر الأربعة { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم ، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق ، ولذلك قاتل النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح . وأغزى أبا عامر إلى أَوْطاسَ في الشهر الحرام ، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين .
فإن قلت : إذا نُسخ تحريم القتال في الأشهر الحُرم فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع « إن دِماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حَرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا » .
فإن التشبيه يقتضي تقرير حُرمة الأشهر . قلت : إن تحريم القتال فيها تَبَع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها . والقتال الظلمُ محرم في كل وقت ، والقتال لأجل الحق عبادة فنُسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم .
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة ، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال : { قتال فيه كبير } واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الحجَّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس ؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة ، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم ؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة . وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلاّ للمسلمين وهم لا قتال بينهم ، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج ، فتسميته نسخاً تسامح ، وإنما هو انتهاء مورد الحكم ، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين ، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته ، وقد تعطل حينئذٍ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج . فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلَّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم .
إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكَّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو ، فإن المشركين استعظموا فعلاً واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه ، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر ، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة ، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه ، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها ، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيَّة بصد المسلمين ، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراماً وحَرَّم لأجل حجها الأشهرَ الحرم ، وأخرجوا أهل الحرم منه ، وآذوهم ، لأحْرِياء بالتحميق والمذمة ، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعاً لغيرها . وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه ، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما « عجباً لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض » .
أَتَغضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتا *** جِهارا ولم تغضَبْ لقتل ابن خازم
والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثماً عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام .
والعندية في قوله : { عند الله } عندية مجازية وهي عندية العِلم والحُكم .
والتفضيل في قوله : { أكبر } : تفضيل في الإثم أي كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثماً .
والمراد بالصد عن سبيل الله : منع من يريد الإسلام منه ونظيره قوله تعالى : { توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به } [ الأعراف : 86 ] .
والكفر بالله : الإشراك به بالنسبة للمشركين وهم أكثر العرب ، وكذلك إنكار وجوده بالنسبة للدهريين منهم ، وتقدم الكلام عن الكفر وضابطه عند قوله تعالى : { إن الذين كفروا سواء عليهم } [ البقرة : 6 ] إلخ .
وقوله { به } الباء فيه لتعدية { كُفْر } وليست للظرفية والضمير المجرور بالباء عائد إلى اسم الجلالة .
و { كُفر } معطوف على { صد } أي صد عن سبيل الله وكفر بالله أكبر من قتال الشهر الحرام وإن كان القتال كبيراً .
و ( المسجد الحرام ) معطوف على ( سبيل الله ) فهو متعلق ب ( صد ) تبعاً لتعلق متبوعه به .
وعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال : وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله ، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها ، بأن قُدم قوله ( وكفر به ) فجعل معطوفاً على ( صد ) قبل أن يستوفَى صد ما تعلق به وهو ( والمسجِد الحرام ) فإنه معطوف على ( سبيل الله ) المتعلق ب ( صد ) إذ المعطوف على المتعلَّق متعلِّقٌ فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلَّق به ، لأن المعطوف على المتعلَّق به أجنبي عن المعطوف عليه ، وأما المعطوف على المتعلِّق فهو من صلة المعطوف عليه ، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم ، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام ، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمِّ فالأهمِّ ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة ؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم ، وجحد لرسالة رسول الله ، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم { أجعل الآلهة إلهاً وَاحداً إنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجاب } [ ص : 5 ] فليس الكفر بالله إلا ركناً من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنَّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دَلَّ عليه الصدُّ عن سبيل الله بدلالة التضمن ، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه . ولا يصح أن يكون « والمسجد الحرام » عطفاً على الضمير في قوله ( به ) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يُعبد ومَا هو دين وما يتضمن ديناً ، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز .
وقوله : { وإخراج أهله منه } أي إخراج المسلمين من مكة ؛ فإنهم كانوا حول المسجد الحرام ؛ لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته الحمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم على أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكماً يخصه .
والأهل : الفريق الذين لهم مزيد اختصاص بما يضاف إليه اللفظ ، فمنه أهل الرجل عشيرته ، وأهل البلد المستوطنون به ، وأهل الكرم المتصفون به ، أراد به هنا المستوطنين بمكة وهم المسلمون ، وفيه إيماء إلى أنهم أحق بالمسجد الحرام ، لأنهم الذين اتبعوا ملة من بنى المسجد الحرام قال تعالى : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] .
وقوله : { والفتنة أكبر من القتل } تذييل مسوق مساق التعليل ، لقوله : { وإخراج أهله منه } ؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل ؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدِّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى ، لأن تلك أعظم جرماً من جريمة إخراج المسلمين من مكة .
والفتنة : التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم ، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل ، ومنعهم من إظهار عبادتهم ، وقطيعتهم في المعاملة ، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالىء على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت ، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحداً من رجال المشركين وهو عَمرو الحضرمي وأسِرهم رجلين منهم .
و ( أكبر ) أي أشد كِبَراً أي قوة في المحارم ، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير .
جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله : { والفتنة أكبر من القتل } لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولَها المسلمون والمشركون . إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلاّ بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } [ الحج : 39 ] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتَلين بفتح التاء ، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة ، لأنهم كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله { لا يزالون } وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال ، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك ، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه ، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل ، و ( حتى ) للغاية وهي هنا غاية تعليلية .
والمعنى : أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم .
وقوله : { إن استطاعوا } تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم ، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد تُوهِمُه الغاية في قوله : { حتى يردوكم عن دينكم } ولهذا جاء الشرط بحرف ( إن ) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه .
والرد : الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك ، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعَن ، وقد حذف هنا أحد المتعلِّقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه ، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } [ البقرة : 120 ] ، وقال : { ودوا لو تكفرون كما كفروا } [ النساء : 89 ] .
وتعليق الشرط بإن للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعدُ الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين ردَّ واحد من المسلمين عناء باطلاً .
اعتراض ثان ، أو عطف على الاعتراض الذي قبله ، والمقصدُ منه التحذير ، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقَّبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين ، أعقبه بالتحذير منه ، وجيء بصيغة { يرتدد } وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قُدر حصوله لا يكون إلاّ عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلاّ بعناء ، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا ؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيِّ دين ومن يومئذٍ صار اسم الردة لقباً شرعياً على الخروج من دين الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج .
وقوله ( فَيمُتْ ) معطوف على الشرط فهو كشرط ثان .
وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة ، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك ، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل ؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت ، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثراً بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط ، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل .
وحَبَطُ الأعمال : زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعاً ، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله : { في الدنيا والآخرة } .
فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حُرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين .
وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخُوَّة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلمين في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] .
وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم .
والمراد بالأعمال : الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير ؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكلام تحريضاً ، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلاّ غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة .
وقوله : { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } عطف على جملة الجزاء على الكفر ، إذ الأمور بخواتمها ، فقد ترتب على الكفر أمران : بطلان فضل الأعمال السالفة ، والعقوبة بالخلود في النار ، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله : { وأولئك أصحاب النار } .
وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة .
هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر ، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقط حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } [ المائدة : 5 ] وقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } [ الزمر : 65 ] وقوله : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] .
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام ، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام ، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلاّ ما لو فعله في الكفر أخذ به . وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه .
فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة{[182]} شرطاً ههنا ، لأنه عَلَّق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أَشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين اهـ يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعاً فقوله : { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } جواب لقوله : { ومن يرتدد منكم عن دينه } . وقوله : { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } جواب لقوله : { فيمت وهو كافر } ، ولعل في إعادة { وأولئك } إيذاناً بأنه جواب ثان ، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية .
وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد ، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفى فيها بالأدلة الظنية ، فإذا كان الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأَنه دليل ظني ، وغالب أدلة الفروع ظنية ، فأما في أصول الاعتقاد فأخَذَ من كل آية صريحَ حكمها ، وللنظر في هذا مجال ، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج .
والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية .
فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحِكيم بن حزام " أسْلَمْتَ على ما أسلمتَ عليه من خير " فهل يكون المرتد عن الإسلام أقلَّ حالاً من أهل الجاهلية ؟ فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خُلُو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها .
وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا إلى الإسلام مثل قُرة بن هبيرة العامري ، وعلقمة بن عُلاثة ، والأشعث بن قيس ، وعيينَةَ بن حصن ، وعَمْرو بن معديكرب ، وفي « شرح القاضي زكريا على ألفية العراقي » : وفي دخول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مُسلماً ثم ارتدَّ ثم أسلَم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اهـ قال حُلولو في « شرح جمع الجوامع » ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة ، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها ، لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم فضيلة عظيمة ، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر ، أما من ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الإسلام في حياته وصَحِبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح .
فإن قلت : ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين ، قلت : تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية { ومن يكفر بالإيمان } [ المائدة : 5 ] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [ الأنعام : 88 ] وآية { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبْط الأعمال ، ومن الخسارة بإجمال ، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتدادَ المسلمين المخاطبين بالآية ، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب ، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين ، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار .
وكانت هذه الآية من دلائل النبوة ، إذا وقع في عام الردة ، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حياً ، فلولا هذه الآية لأَيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار .
وقد أشار العطف في قوله : { فيمت } بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذٍ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية ، فتكون الآية بها دليلاً على وجوب قتل المرتد .
وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قُتل كافراً وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلاً أو امرأة ، وقال أبو حنيفة في الرجل مثلَ قولهم ، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق ، وقال أصحابه تحبس حتى تُسلم ، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمرو وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي يقتل المرتد ولا يستتاب ، وقيل يستتاب شهراً .
وحجة الجميع حديث ابن عباس مَن بدل دينه فاقتلوه وفعلُ الصحابة فقد قاتل أبوبكر المرتدين وأحرق علي السبائيَّة الذين ادَّعَوْا ألوهية عليّ ، وأجمعوا على أن المراد بالحديث مَن بدل دينه الذي هو الإسلامْ ، واتفق الجمهور على أن ( مَنْ ) شاملة للذكر والأنثى إلاّ من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شُبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تُقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنَهي رسول الله عن قتل النساء فخصوا به عمومَ مَن بَدَّل دينه ، وهو احتجاج عجيب ، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد ، والمرأةُ من شأنها ألا تقاتل ، فإنه نهي أيضاً عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء : إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل ؟
وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطال الكفر فقالا : يقتل ولا تقبل توبته إذا أُخذ قبل أن يأتي تائباً .
ومن سبَّ النبي قُتِل ولا تُقبل توبته .
هذا ، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور المسلمين ؛ والخروجُ من العقيدة وتركُ أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة ، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحه به بإقراره نصّاً أو ضمناً فالنص ظاهر ، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلاّ عن كافر مثل السجود للصنم ، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها .
وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، أي ما كان العلم به ضرورياً قال ابن راشد في « في التكفير بإنكار المعلوم ضرورةً خلاف » . وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف .
وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدينَ وجدَه غير صالح ووجد ما كان عليه قبلَ ذلك أصلحَ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به ، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة ، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت ، فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلاّ على بصيرة ، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه ، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى : { لا إكراه في الدين } [ البقرة : 256 ] على القول بأنها غير منسوخة ، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام .