{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا }
أي : فإذا فرغتم من صلاتكم ، صلاة الخوف وغيرها ، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم ، ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد . منها : أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه .
وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة ، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه .
ومنها : أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة . ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر بجبرها بالذكر بعدها .
ومنها : أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه ، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو ، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب .
ومنها : أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم .
وقوله : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاة } أي : إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرا وباطنا ، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها .
{ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أي : مفروضا في وقته ، فدل ذلك على فرضيتها ، وأن لها وقتا لا تصح إلا به ، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ودل قوله : { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } على أن الصلاة ميزان الإيمان وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل ، ويدل ذلك على أن الكفار وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة ، ولا يؤمرون بها ، بل ولا تصح منهم ما داموا على كفرهم ، وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الأحكام في الآخرة .
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك ، مما ليس يوجد في غيرها ، كما قال تعالى في{[8245]} الأشهر الحرم : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أي في سائر أحوالكم .
ثم قال : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أي : فإذا أمنتم وذهب الخوف ، وحصلت الطمأنينة { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أي : فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها ، وخشوعها ، وسجودها وركوعها ، وجميع شئونها .
وقوله : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال ابن عباس : أي مفروضا . وكذا روي عن مجاهد ، وسالم بن عبد الله ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، والحسن ، ومقاتل ، والسدي ، وعطية العوفي .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا{[8246]} كوقت الحج .
وقال زيد بن أسلم : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال : منجما ، كلما مضى نجم ، جاءتهم يعني : كلما مضى وقت جاء وقت .
{ فإذا قضيتم الصلاة } أديتم وفرغتم منها . { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم } فداوموا على الذكر في جميع الأحوال ، أو إذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف فأدوها كيفما أمكن ، قياما مسايفين ومقارعين ، وقعودا مرامين وعلى جنوبكم مثخنين . { فإذا اطمأننتم } سكنت قلوبكم من الخوف . { فأقيموا الصلاة } فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها وائتوا بها تامة . { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } فرضا محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال ، وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة وأنها واجبة الأداء حال المسايفة والاضطراب في المعركة ، وتعليل للأمر بالإيتاء بها كيفما أمكن . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يصلي المحارب حتى يطمئن .
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف ، على حد ما أمروا عند قضاء المناسك بذكر الله{[4264]} ، فهو ذكر باللسان ، وذهب إلى أن { قضيتم } بمعنى فعلتم ، أي إذا تلبستم بالصلاة فلتكن على هذه الهيئات بحسب الضرورات : المرض ، وغيره ، وبحسب هذه الآية رتب ابن المواز صلاة المريض فقال : يصلي قاعداً فإن لم يطق فعلى جنبه الأيمن ، فإن لم يطق فعلى الأيسر ، فإن لم يطق فعلى الظهر ، ومذهب مالك في المدونة التخيير ، لأنه قال : فعلى جنبه أو على ظهره ، وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه قال : يبتدىء بالظهر ثم بالجنب ، قال ابن حبيب : وهو وهم ، قال اللخمي : وليس بوهم ، بل هو أحكم في استقبال القبلة ، وقال سحنون : يصلي على جنبه الأيمن كما يجعل في قبره ، فإن لم يقدر فعلى ظهره ، و «الطمأنينة » في الآية : سكون النفس من الخوف ، وقال بعض المتأولين : المعنى : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً ، وقوله تعالى : { كتاباً موقوتاً } معناه : منجماً في أوقات ، هذا ظاهر اللفظ ، وروي عن ابن عباس : أن المعنى مفروضاً ، فهما لفظان بمعنى واحد كرر مبالغة .
القضاء : إتمام الشيء كقوله : { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءهم أو أشدّ ذكراً } [ البقرة : 200 ] . والظاهر من قوله : { فإذا قضيتم الصلاة } أنّ المراد من الذكر هنا النوافل ، أو ذكر اللسان كالتسبيح والتحميد ، ( فقد كانوا في الأمن يجلسون إلى أن يفرغوا من التسبيحِ ونحوه ) ، فرخّص لهم حين الخوف أن يذكروا الله على كلّ حال والمراد القيام والقعود والكون على الجنوب ما كان من ذلك في أحوال الحرب لا لأجل الاستراحة .
وقوله : { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } تفريع عن قوله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } [ النساء : 101 ] إلى آخر الآية . فالاطمئنان مراد به القفول من الغزو ، لأنّ في الرجوع إلى الأوطان سكوناً من قلاقل السفر واضطراب البدن ، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة ، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف لعدم مناسبته هنا ، وقد تقدّم القول في الاطمئنان عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئنّ قلبي } من سورة البقرة ( 260 ) .
ومعنى : { فأقيموا الصلاة } صلّوها تامّة ولا تقصروها ، هذا قول مجاهد وقتادة ، فيكون مقابل قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } [ النساء : 101 ] ، وهو الموافق لما تقدّم من كون الوارد في القرآن هو حكم قصر الصلاة في حال الخوف ، دون قصر السفر من غير خوف . فالإقامة هنا الإتيان بالشيء قائماً أي تامّاً ، على وجه التمثيل كقوله تعالى : { وأقيموا الوزن بالقسط } [ الرحمن : 9 ] وقوله : { أنْ أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه } [ الشورى : 13 ] . وهذا قول جمهور الأيّمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وسفيان . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لاَ يؤدّي المجاهد الصلاة حتّى يزول الخَوف ، لأنّه رأى مباشرة القتال فعلاً يفسد الصلاة . وقوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض إلى قوله : فإذا اطمأننتم } [ النساء : 101 103 ] يرجْح قول الجمهور ، لأنّ قوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } مسوق مساق التعليل للحرص على أدائها في أوقاتها .
والموقوت : المحدود بأوقات ، والمنجّم عليها ، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز . والأول أظهر هنا .