وقوله تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : خالقهما على غير مثال سبق ، قال مجاهد والسدي : وهو مقتضى اللغة ، ومنه يقال للشيء المحدث : بدعة . كما جاء في الصحيح لمسلم : " فإن كل محدثة بدعة [ وكل بدعة ضلالة ]{[10]} " {[11]} . والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية ، كقوله : فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة . وتارة تكون بدعة لغوية ، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : نعْمَتْ البدعةُ هذه .
وقال ابن جرير : وبديع السماوات والأرض : مبدعهما . وإنما هو مُفْعِل فصرف إلى فَعيل ، كما صرف المؤلم إلى الأليم ، والمسمع إلى السميع . ومعنى المبدع : المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء{[12]} مثله وإحداثه أحد .
قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا ؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق{[13]} إليه غيره ، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم ، فإن العرب تسميه مبتدعا . ومن ذلك قول أعشى{[14]} ثعلبة ، في مدح هوذة بن علي الحَنفِي :
يُرعى إلى قَوْل سادات الرّجال إذا *** أبدَوْا له الحزْمَ أو ما شاءه ابتدَعا{[15]}
قال ابن جرير : فمعنى الكلام : فسبحان الله أنى يكون لله ولد ، وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه . وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح ، الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته .
وهذا من ابن جرير ، رحمه الله ، كلام جيد وعبارة صحيحة .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه إذا قَدَّر أمرًا وأراد كونه ، فإنما يقول له : كن . أي : مرة واحدة ، فيكون ، أي : فيوجد على وفق ما أراد ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[ يس : 82 ] وقال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }
[ القمر : 50 ] ، وقال الشاعر :
إذا ما أراد الله أمرًا فإنَّما*** يقول له كن قولة فيكونُ
ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة : كن ، فكان كما أمره الله ، قال [ الله ]{[16]} تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] .
{ بديع السماوات والأرض } مبدعهما ، ونظيره السميع في قوله :
أمن ريحانة الداعي السميع *** يؤرقني وأصحابي هجوع
أو بديع سمواته وأرضه ، من بدع فهو بديع ، وهو حجة رابعة . وتقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه ، والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها ، فاعل على الإطلاق ، منزه عن الانفعال ، فلا يكون والدا . والإبداع : اختراع الشيء لا عن الشيء دفعة ، وهو أليق بهذا الموضوع من الصنع الذي هو : تركيب الصور لا بالعنصر ، والتكوين الذي يكون بتغيير وفي زمان غالبا . وقرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في له . وبديع منصوبا على المدح .
{ وإذا قضى أمرا } أي أراد شيئا ، وأصل القضاء إتمام الشيء قوة كقوله تعالى : { وقضى ربك } ، أو فعلا كقوله تعالى : { فقضاهن سبع سماوات } . وأطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث إنه يوجبه . { فإنما يقول له كن فيكون } من كان التامة بمعنى أحدث فيحدث ، وليس المراد به حقيقة أمر وامتثال ، بل تمثيل حصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف . وفيه تقرير لمعنى الإبداع ، وإيماء إلى حجة خامسة وهي : أن اتخاذ الولد مما يكون بأطوار ومهلة ، وفعله تعالى مستغن عن ذلك . وقرأ ابن عامر { فيكون } بفتح النون . واعلم أن السبب في هذه الضلالة ، أن أرباب الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون الأب على الله تعالى باعتبار أنه السبب الأول ، حتى قالوا إن الأب هو الرب الأصغر ، والله سبحانه وتعالى هو الرب الأكبر ، ثم ظنت الجهلة منهم أن المراد به معنى الولادة ، فاعتقدوا ذلك تقليدا ، ولذلك كفر قائله ومنع منه مطلقا حسما لمادة الفساد .
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }( 117 )
و { بديع } مصروف( {[1172]} ) من مبدع كبصير من مبصر ، ومثله قول عمرو بن معديكرب : [ الوافر ] :
أَمِنْ ريحانة الداعي السميعِ( {[1173]} ) *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد المسمع ، والمبدع المخترع المنشيء ، ومنه أصحاب البدع( {[1174]} ) ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان : «نعمت البدعة هذه » .
وخص { السماوات والأرض } بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا ، و { قضى } ، معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى أمضى ، ويتجه في هذه الآية المعنيان ، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد .
والأمر واحد الأمور ، وليس هنا بمصدر أمر يأمر ، ويكون رفع على الاستئناف ، قال سيبويه : «معناه فهو يكون » ، قال غيره : «يكون » عطف على «يقول » ، واختاره الطبري وقرره( {[1175]} ) ، وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود( {[1176]} ) ، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية .
وقرأ ابن عامر «فيكونَ » بالنصب ، وضعفه أبو علي ، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ( {[1177]} ) ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر : «هذا لحن »( {[1178]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيها معنى الشرط ، تقول أكرم زيداً فيكرمك ، والمعنى إن تكرم زيداً يكرمك ، وفي هذه الآية لا يتجه هذا ، لأنه يجيء تقديره : إن تكن يكن ، ولا معنى لهذا( {[1179]} ) ، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان( {[1180]} ) فالأول أكرم زيداً فيكرمك والثاني أكرم زيداً فتسود .
وتلخيص المعتقد في هذه الآية ، أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات ، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل ، ومن جعل من المفسرين { قضى } بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد ، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها { كن }( {[1181]} ) ، إذ التأمل يقتضي ذلك ، على نحو قول الشاعر [ أبو النجم العجلي ] : [ الرجز ]
وقالتِ الأقرابُ للبطن الحق( {[1182]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يجري مع قول المعتزلة ، والمعنى الذي تقتضيه عبارة { كن } هو قديم قائم بالذات( {[1183]} ) ، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم نفسه، فقال: {بديع السماوات والأرض} ابتدعهما ولم يكونا شيئا.
{وإذا قضى أمرا} في علمه أنه كائن.
{فإنما يقول له كن فيكون}: لا يثنى قوله كفعل المخلوقين، وذلك أن الله عز وجل، قضى أن يكون عيسى صلى الله عليه وسلم في بطن أمه من غير أب، فقال له: كن، فكان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ": مبدعها... ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد، ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلاً أو قولاً لم يتقدّمه فيه متقدّم، فإن العرب تسميه مبتدعا...
فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقرّ له بالطاعة وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته...
"وَإِذَا قَضَى أمْرا": وإذا أحكم أمرا وحَتَمه. وأَصْلُ كل قضاء أمرٍ الإحكام والفراغ منه ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس: القاضي بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقَطْعه الحكم بينهم وفراغه منه. ومنه قيل للميت: قد قَضَى، يراد به قد فرغ من الدنيا وفصل منها... ومنه قول الله عز وجل: {وَقَضَى رَبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إيَاهُ} أي فصل الحكم فيه بين عباده بأمره إياهم بذلك...
{فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الأمر «كُنْ»، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده...
{وَإِذَا قَضَى أمْرا فإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: هو عامّ في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا: «كتاب البيان عن أصول الأحكام». وإذْ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: كُنْ في حال إرادته إياه مكوّنا، لا يتقدّم وجودَ الذي أراد إيجاده وتكوينه إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: {وَإِذَا قَضَى أمْرا فَإنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ تَقُومَ السمّاءُ والأرْض بأمْرِهِ ثُمّ إذَا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدّم دعاء الله، ولا يتأخر عنه...
فمعنى الآية إذا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له ولد بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كل ذلك مقرّ له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنّى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذّر عليه به شيء أراده، بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه: «كُنْ»، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه إذْ أراد خلقه من غير والد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه الحجة على هؤلاء الذين قالوا: {اتخذ الله ولدا} [البقرة: 116] بوجهين:
الأول: أن يقال: من قدر على خلق السماوات والأرض من غير شيء ولا سبب كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟
والثاني: أن يقال من له القدرة على خلق ما يصعب، ويعظم في أعينكم بأقل الأحرف عندكم، كيف لا يقدر على خلق عيسى من غير أب؟
وقوله: {وإذا قضى أمرا} قيل: وإذا حكم حكما: {فإنما يقول له...}...
{كن فيكون} لا يخلو التكوين: إما أن لم يكن، فحدث، وإما أن كان في الأزل... و... الله تعالى موصوف في الأزل أنه محدث مكون فيكون كل شيء في الوقت الذي أراد كونه فيه، وبالله التوفيق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
البديع عند العلماء مُوجِد العين لا على مِثْل، وعند أهل الإشارة الذي ليس له شيء مِثله. فهذا الاسم يشير إلى نفي المثل عن ذاته، ونفي المثال عن أفعاله، فهو الأحد الذي لا عدد يجمعه، والصمد الذي لا أَمَدَ يقطعه، والحق الذي لا وهم يصوِّره، والموجود الذي لا فهم يقدره. وإذا قضى أمراً فلا يعارض عليه مقدور، ولا ينفكُ من حكمه محظور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكوّن ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أنّ المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
وما أبدع كلية أمر كان أحرى أن يكون ما في طيه وإحاطته وإقامته من الأشياء المقامة به من مبدعه فكيف يجعل له شبيه منه؟ لأن الولد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه -...
والقضاء إنفاذ المقدر. والمقدر ما حدّ من مطلق المعلوم -...
{فإنما يقول له كن} من الكون وهو كمال البادي في ظاهره وباطنه {فيكون} فهو منزه عن حاجة التوالد وكل حاجة...
قال الحرالي: وصيغته تمادي الكائن في أطوار وأوقات وأسنان يمتد توالها في المكون إلى غاية الكمال -انتهى...
وفائدة التعبير به مضارعاً، تصوير الحال والإرشاد إلى أن التقدير: كن فكان، لأنه متى قضى شيئاً قال له: كن، فيكون، وجعل الأحسن عطفه على {كن} لأنه وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر أي يكون؛ وقال: إن ذلك أكثر اطراداً لانتظامه لمثل قوله: {ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حُدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القويِّ المطاعِ، وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ من يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مبادئ يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ، وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وهو إذا أراد شيئا، فقد فعل بلا مهلة. ولم يرد ب {إذا} حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان...
وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل، والأمر لكونه منطويا على اللفظ والفعل، والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجادا،
ولفظ {كن} لعموم معناه واختصار لفظه، ثم قال: {فيكون} تنبيها لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده، و {كن فيكون} وإن كان مخرجها مخرج شيئين، أحدهما مبني على الآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأما قوله {وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} فمعناه أنه إذا أراد إيجاد أمر وإحداثه فإنما يأمره أن يكون موجودا فيكون موجودا، فكن ويكون من كان التامة.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا ضرب من التمثيل أي أن تعلق إرادته تعالى بإيجاد الشيء يعقبه وجوده، كأمر يصدر فيعقبه الامتثال، فليس بعد الإرادة إلا حصول المراد.
وقال بعضهم بل هو قول حقيقي. قال الأستاذ الإمام وقد وقع هذا الخلاف من أهل السنة وغيرهم، وعجيب وقوعه منهم، فإن عندهم مذهبين من المتشابهات التي يستحيل حملها على ظاهرها وهما مذهب السلف في التفويض، ومذهب الخلف في التأويل، وظاهر أن هذا من المتشابه، والقاعدة في تأويل مثله معروفة ومتفق عليها وهي إرجاع [العقلي] إلى [النقلي] لأنه الأصل...
وأقول: إن الأمر بكلمة "كن "هنا هو الأصل فيما يسمونه أمر التكوين، ويقابله أمر التكليف، فالأول متعلق صفة الإرادة، والثاني متعلق صفة الكلام، وأمر التكليف يخاطب به العاقل فيسمى المكلف، ولا يخاطب به غيره فضلا عن المعدوم، وأمر التكوين يتوجه إلى المعدوم كما يتوجه إلى الموجود، إذ المراد به جعله موجودا، وإنما يوجه إليه لأنه معلوم فالله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده وأنه سيوجد في وقت كذا. فتتعلق إرادته بوجوده على حسب ما في علمه فيوجد.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يسميه الأمر القدري الكوني، ويسمي مقابله الأمر الشرعي... ذلك شأنه تعالى في الإيجاد والتكوين وهو أغمض أسرار الألوهية فمن عرف حقيقته فقد عرف حقيقة المبدع الأول وذلك ما لا مطمع فيه. وقد عبر عن هذا السر بهذا التعبير الذي يقر به من الفهم، بما لا يتشعب فيه الوهم، ولا يوجد في الكلام تعبير آخر أليق به من هذا التعبير: يقول للشيء "كن" فيكون
فالتوالد محال في جانبه تعالى لأن ما يعهد في حدوث بعض الأشياء وتولدها من بعض فهو لا يعدو طريقين – الاستعداد القهري الذي لا مجال للاختيار فيه كحدوث الحرارة من النور وتولد العفونة من الماء يتحد بغيره، والسعي الاختياري كتولد الناس بالازدواج الذي يساقون إليه مع اختياره والقصد إليه. وإذا كان كل واحد من الأمرين محالا على الله تعالى وكان تعالى هو المبدع لجميع الكائنات وهي بأسرها ملكه ومسخرة لإرادته فلا معنى لإضافة الولد إليه {37: 180 – 182 سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين}...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والإيجاد والتكوين من أسرار الألوهية، عبر عنهما بما يقربهما من الفهم وهو أن يقول للشيء "كن فيكون"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتوجه الإرادة يتم بكيفية غير معلومة للإدراك البشري، لأنها فوق طاقة الإدراك البشري. فمن العبث إنفاق الطاقة في اكتناه هذا السر، والخبط في التيه بلا دليل!...