تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

{ وَلَا تَكُونُوا } ، في نقضكم للعهود بأسوأ الأمثال وأقبحها وأدلها على سفه متعاطيها ، وذلك { كَالَّتِي } ، تغزل غزلا قويا ، فإذا استحكم وتم ما أريد منه ، نقضته فجعلته : { أَنْكَاثًا } ، فتعبت على الغزل ثم على النقض ، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي ، فكذلك من نقض ما عاهد عليه ، فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة .

وقوله : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : لا تنبغي هذه الحالة منكم تعقدون الأيمان المؤكدة وتنتظرون فيها الفرص ، فإذا كان العاقد لها ضعيفا غير قادر على الآخر أتمها ، لا لتعظيم العقد واليمين بل لعجزه . وإن كان قويا يرى مصلحته الدنيوية في نقضها ، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه .

كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ، وتقديما لها على مراد الله منكم ، وعلى المروءة الإنسانية ، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى .

وهذا ابتلاء من الله وامتحان ، يبتليكم الله به حيث قيض من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي من الفاجر الشقي .

{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازي كلا بما عمل ، ويخزي الغادر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

وقوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا } ، قال عبد الله بن كثير ، والسدّي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه .

وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده .

وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا .

وقوله : { أَنْكَاثًا } ، يحتمل أن يكون اسم مصدر : نقضت غزلها أنكاثا ، أي : أنقاضا . ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من ناكث ؛ ولهذا قال بعده : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } ، أي : خديعة ومكرًا ، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : يحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم . فنهى الله عن ذلك ، لينبه بالأدنى على الأعلى ؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى .

وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة " الأنفال " {[16675]} قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمَدٌ ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عَبْسَة : الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدرًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها " . فرجع معاوية بالجيش ، رضي الله عنه وأرضاه .

قال ابن عباس : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ، أي : أكثر .

وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز . فنهوا عن ذلك . وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد نحوه .

وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ، قال سعيد بن جُبَير : يعني بالكثرة . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد .

{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، فيجازى كل عامل بعمله ، من خير وشر .


[16675]:عند تفسير الآية: 58.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

{ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } ، ما غزلته ، مصدر بمعنى المفعول . { من بعد قوة } ، متعلق ب : { نقضت } ، أي : نقضت غزلها من بعد إبرام وإحكام . { أنكاثا } ، طاقات نكث فتلها ، جمع نكث ، وانتصابه على الحال من : { غزلها } ، أو المفعول الثاني لنقضت ، فإنه بمعنى صيرت ، والمراد به : تشبيه الناقض بمن هذا شأنه . وقيل : هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشية ، فإنها كانت خرقاء تفعل ذلك . { تتّخذون أيمانكم دخَلاً بينكم } ، حال من الضمير في : { ولا تكونوا } ، أو في الجار الواقع موقع الخبر ، أي : لا تكونوا متشبهين بامرأة هذا شأنها ، متخذي أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم ، وأصل الدخل ما يدخل الشيء ولم يكن منه . { أن تكون أمّة هي أربى من أمّةٍ } ؛ لأن تكون جماعة أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة ، والمعنى : لا تغدروا بقوم لكثرتكم وقلتهم ، أو لكثرة منابذتهم وقوتهم كقريش ، فإنهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم . { إنما يبلوكم الله به } ، الضمير ل " أن تكون أمة " ؛ لأنه بمعنى المصدر ، أي : يختبركم بكونهم أربى لينظر . أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله ، أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم . وقيل : الضمير للرياء ، وقيل : للأمر بالوفاء . { وليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } ، إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (92)

شبهت هذه الآية الذي يحلف أو يعاهد أو يبرم عقدة ، بالمرأة التي تغزل غزلها وتفتله محكماً ، وشبه الذي ينقض عهده بعد الإحكام ، بتلك الغازلة إذا نقضت قوى ذلك الغزل ، فحلته بعد إبرامه ، ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة ، تسمى ريطة بنت سعد ، كانت تفعل ذلك ، فبها وقع التشبيه ، قاله عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة ، وقيل : كانت امرأة موسوسة تسمى خطية ، تغزل عند الحجر وتفعل ذلك ، وقال مجاهد وقتادة ، ذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة ، و { أنكاثاً } ، نصب على الحال ، والنكث النقض ، و «القوة » في اللغة واحدة قوى ، الغزل والحبل ، وغير ذلك مما يظفر ، ومنه قول الأغلب الراجز :

حبل عجوز فتلت سبع قوى{[7407]} . . . ويظهر لي أن المراد ب : «القوة » ، في الآية الشدة التي تحدث من تركيب قوى الغزل ، ولو قدرناها واحدة القوى ، لم يكن معها ما ينقض ، { أنكاثاً } ، والعرب تقول : أنكثت الحبل إذا انتقضت قواه ، أما إن عرف الغزل أنه قوة واحدة ، ولكن لها أجزاء كأنها قوة كثيرة له ، قال مجاهد : المعنى : من بعد إمرار قوة ، و «الدخل » ، الدغل بعينه ، وهي الذرائع إلى الخدع والغدر ، وذلك أن المحلوف له مطمئن ، فيتمكن الحالف من ضره بما يريده ، وقوله : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في العرب ، الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت الأخرى ثم جاءت إحداهما قبيلة كبيرة ، قوية فداخلتها ، غدرت الأولى ونقضت معها ورجعت إلى هذه الكبرى ، فقال الله تعالى{[7408]} ولا تنقضوا العهود من أجل أن تكون قبيلة أزيد من قبيلة في العدد والعزة . و «الربا » الزيادة ، ويحتمل أن يكون القول معناه : لا تنقضوا الأيمان من أجل أن تكونوا أربى من غيركم ، أي : أزيد خيراً ، فمعناه لا تطلبوا الزيادة بعضكم على بعض بنقض العهود ، و { يبلوكم } ، معناه يختبركم ، والضمير في : { به } ، يحتمل أن يعود على الوفاء الذي أمر الله به ، ويحتمل أن يعود على الربا ، أي : أن الله تعالى ابتلى عباده بالتحاسد ، وطلب بعضهم الظهور على بعض ، واختبرهم بذلك ليرى من يجاهد نفسه ممن يتبعها هواها ، وباقي الآية وعيد بين بيوم القيامة ، وقوله : { هي أربى } ، موضع { أربى } ، عند البصريين رفع ، وعند الكوفيين نصب ، وهي عماد ولا يجوز العماد هنا عند البصريين ؛ لأنه لا يكون مع النكرة ، و { أمة } نكرة ، وحجة الكوفيين أن : { أمة } ، وما جرى مجراها من أسماء الأجناس تنكيرها قريب من التعريف ، ألا ترى أن إدخال الألف واللام عليها لا يخصصها كبير تخصيص ، وفي هذا نظر .


[7407]:الأغلب الراجز، هو الأغلب بن جشم العجلي، من سعد بن عجل، كان جاهليا إسلاميا، عاش تسعين سنة، وقتل بنهاوند، وهو أول من شبه الرجز بالقصيد وأطاله بعد أن كان قبله مجرد بيت أو بيت أو بيتين يقولهما الراجز، وهذا عجز البيت، وهو كاملا: كأن عـــــــــــرق أيره إذا ودى حبل عجوز فتلت سبع قوى وهو من أرجوزة في سجاح، قالها حين تزوجت من مسيلمة الكذاب، ويروى "ضفرت" بدلا من "فتلت"، و "خمس" بدلا من "سبع"، ووروى: خرج منه الودي، وقوي: جمع قوة، وهي الخصلة الواحدة من قوى الحبل، أو الطاقة الواحدة من طاقات الحبل، وفي حديث ابن الديلمي: (ينقض الإسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة)، ويجمع قوة على قوى، كما جمعت صوة على صوى، وهوة على هوى.
[7408]:يريد: كأن الله تعالى قال ما معناه كذا وكذا.