تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

وقوله { ذَلِكَ الْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة ، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم ، والحق المبين . ف { لَا رَيْبَ فِيهِ } ولا شك بوجه من الوجوه .

ونفي الريب عنه ، يستلزم ضده ، إذ ضد الريب والشك اليقين ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب . وهذه قاعدة مفيدة ، أن النفي المقصود به المدح ، لا بد أن يكون متضمنا لضده ، وهو الكمال ، لأن النفي عدم ، والعدم المحض لا مدح فيه .

فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } والهدى : ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه ، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة . وقال { هُدًى } وحذف المعمول ، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية ، ولا للشيء الفلاني ، لإرادة العموم ، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية ، ومبين للحق من الباطل ، والصحيح من الضعيف ، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم ، في دنياهم وأخراهم .

وقال في موضع آخر : { هُدًى لِلنَّاسِ } فعمم . وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق . فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا ، ولم يقبلوا هدى الله ، فقامت عليهم به الحجة ، ولم ينتفعوا به لشقائهم ، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر ، لحصول الهداية ، وهو التقوى التي حقيقتها : اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه ، بامتثال أوامره ، واجتناب النواهي ، فاهتدوا به ، وانتفعوا غاية الانتفاع . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية ، والآيات الكونية .

ولأن الهداية نوعان : هداية البيان ، وهداية التوفيق . فالمتقون حصلت لهم الهدايتان ، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق . وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ، ليست هداية حقيقية [ تامة ] .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

قال ابن جُرَيج : قال ابن عباس : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } : هذا الكتاب . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والسدي ومقاتل بن حيان ، وزيد بن أسلم ، وابن جريج : أن ذلك بمعنى هذا ، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر ، وهذا معروف في كلامهم .

و{ الْكِتَابُ } القرآن . ومن قال : إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل ، كما حكاه ابن جرير وغيره ، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق{[1161]} في النزع ، وتكلف ما لا علم له به .

والرّيب : الشك ، قال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود ، وعن أناس{[1162]} من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه .

وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد . وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافًا .

[ وقد يستعمل الريب في التهمة قال جميل :

بثينة قالت يا جميل أربتني *** فقلت كلانا يا بثين مريب

واستعمل - أيضًا - في الحاجة كما قال بعضهم{[1163]} :

قضينا من تهامة كل ريب *** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا ]{[1164]}

ومعنى الكلام : أن هذا الكتاب - وهو القرآن - لا شك فيه أنه نزل{[1165]} من عند الله ، كما قال تعالى في السجدة : { الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة : 1 ، 2 ] . [ وقال بعضهم : هذا خبر ومعناه النهي ، أي : لا ترتابوا فيه ]{[1166]} .

ومن القراء من يقف على قوله : { لا رَيْبَ } ويبتدئ بقوله : { فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } والوقف على قوله تعالى : { لا رَيْبَ فِيهِ } أولى للآية التي ذكرنا ، ولأنه يصير قوله : { هُدًى } صفة للقرآن ، وذلك أبلغ من كون : { فِيهِ هُدًى } .

و{ هُدًى } يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت ، ومنصوبًا على الحال .

وخصّت الهداية للمتَّقين . كما قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] . { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن ؛ لأنه هو في نفسه هدى ، ولكن لا يناله إلا الأبرار ، كما قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] .

وقد قال السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } يعني : نورًا{[1167]} للمتقين .

وقال الشعبي : هدى من الضلالة . وقال سعيد بن جبير : تبيان للمتَّقين . وكل ذلك صحيح .

وقال السدي : عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } قال : هم المؤمنون{[1168]} .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لِلْمُتَّقِينَ } أي : الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به .

وقال أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { لِلْمُتَّقِينَ } قال : المؤمنين الذين يتَّقون{[1169]} الشرك بي ، ويعملون بطاعتي .

وقال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الحسن البصري ، قوله : { لِلْمُتَّقِينَ } قال : اتَّقوا ما حرّم الله عليهم ، وأدوا ما افترض عليهم .

وقال أبو بكر بن عياش : سألني الأعمش عن المتَّقين ، قال : فأجبته . فقال [ لي ]{[1170]} سل عنها الكلبي ، فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال : فرجعت إلى الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك . ولم ينكره .

وقال قتادة { لِلْمُتَّقِينَ } هم الذين نعتهم الله بقوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } الآية والتي بعدها [ البقرة : 3 ، 4 ] .

واختار ابن جرير : أن الآية تَعُمّ ذلك كله ، وهو كما قال .

وقد روى الترمذي وابن ماجه ، من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل ، عن عبد الله بن يزيد ، عن ربيعة بن يزيد ، وعطية بن قيس ، عن عطية السعدي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس{[1171]} . ثم قال الترمذي : حسن غريب{[1172]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا إسحاق بن سليمان ، يعني الرازي ، عن المغيرة بن مسلم ، عن ميمون أبي حمزة ، قال : كنت جالسًا عند أبي وائل ، فدخل علينا رجل ، يقال له : أبو عفيف ، من أصحاب معاذ ، فقال له شقيق بن سلمة : يا أبا عفيف ، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال : بلى سمعته يقول : يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فينادي مناد : أين المتَّقون ؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرّحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر . قلت : من المتَّقون ؟ قال : قوم اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا لله العبادة ، فيمرون إلى الجنة{[1173]} .

وأصل التقوى : التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية . قال النابغة :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد

وقال الآخر :

فألقت قناعا دونه الشمس واتقت *** بأحسن موصولين كف ومعصم

وقد قيل : إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى ، فقال له : أما سلكت طريقًا ذا شوك ؟ قال : بلى قال : فما عملت ؟ قال : شمرت واجتهدت ، قال : فذلك التقوى .

وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :

خل الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر *** ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى

وأنشد أبو الدرداء يومًا :

يريد المرء أن يؤتى مناه *** ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي *** وتقوى الله أفضل ما استفادا

وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرًا من زوجة صالحة ، إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله »{[1174]} .

/خ20


[1161]:في جـ،: "أغرب".
[1162]:هو كعب بن مالك، والبيت في اللسان، مادة "ريب".
[1163]:هو كعب بن مالك، والبيت في اللسان، مادة "ريب".
[1164]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1165]:في جـ، ط، ب: "منزل".
[1166]:زيادة من جـ، ط.
[1167]:في جـ، ب: "نور".
[1168]:في جـ: "يعني نورا للمؤمنين".
[1169]:في جـ: "يتعوذون".
[1170]:زيادة من جـ، ط، ب.
[1171]:في ب: "البأس".
[1172]:سنن الترمذي برقم (2451) وسنن ابن ماجه برقم (4215).
[1173]:تفسير ابن أبي حاتم (1/33) وفي إسناده ميمون القصاب ضعيف.
[1174]:سنن ابن ماجة برقم (1857) من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال البوصيري في الزوائد (2/70): "هذا إسناد فيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وعثمان بن أبي العاتكة مختلف فيه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ }

قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى : ذَلِكَ الكِتَابُ : هذا الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ذلك الكتاب ) ، قال : هو هذا الكتاب .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم ابن ظهير ، عن السدّي في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) قال : هذا الكتاب .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب . قال : قال ابن عباس : ( ذِلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون «ذلك » بمعنى «هذا » ؟ و«هذا » لا شك إشارة إلى حاضر معاين ، و«ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ قيل : جاز ذلك لأن كل ما تقضّى وقَرُب تقضيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر ، فكالحاضر عند المخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الحديث ، فيقول السامع : إن ذلك والله لكما قلت ، وهذا والله كما قلت ، وهو والله كما ذكرت . فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ ، فكذلك ذلك في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل ( ذلك الكتاب ) ( الم ) التي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتابُ . ولذلك حسن وضع «ذلك » في مكان «هذا » ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله : ( الم ) من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه ، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب . وترجمه المفسرون أنه بمعنى «هذا » لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( واذْكُرْ إسمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأخْيار هَذَا ذِكْرٌ ) فهذا ما في «ذلك » إذا عنى بها «هذا » . وقد يحتمل قوله جل ذكره : ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه . ثم ترجمه المفسرون بأن معنى «ذلك » : «هذا الكتاب » ، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك . وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السلمي :

فإنْ تَكُ خَيْلي قَدْ أصِيبَ صَميمُها *** فَعَمْدا على عَيْنٍ تَيَمّمْتُ مالكا

أقُولُ لَهُ والرّمْحُ يَأطِرُ مَتْنَهُ *** تَأمّلْ خُفافا إنّني أنا ذَلكا

كأنه أراد : تأملني أنا ذلك . فرأى أن «ذلك الكتاب » بمعنى «هذا » نظير ما أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه ، فكذلك أظهر «ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد . والقول الأول أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل .

وقد قال بعضهم : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وجه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوله كذلك لأن «ذلك » يكون حينئذٍ إخبارا عن غائب على صحة .

القول في تأويل قوله تعالى : لا رَيْبَ فِيهَ .

وتأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ : «لا شك فيه » ، كما :

حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد لا رَيْبَ فِيهِ ، قال : لا شك فيه .

حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد عن عطاء : لا رَيْبَ فِيهِ قال : لا شك فيه .

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدّي ، قال : لا رَيْبَ فِيهِ : لا شك فيه .

حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) : لا شك فيه .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) قال : لا شك فيه .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول لا شك فيه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس قوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .

وهو مصدر من قولك : رابني الشيء يريبني ريبا . ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤذيّة الهذلي :

فَقَالُوا تَرَكْنا الحَيّ قَدْ حَصِرُوا بهِ *** فَلا رَيْبَ أنْ قَدْ كانَ ثمّ لَحِيمُ

ويروى : «حصروا » ، و«حَصِروا » ، والفتح أكثر ، والكسر جائز . يعني بقوله : «حصروا به » : أطافوا به ، ويعني بقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه ، وبقوله : «إن قد كان ثم لحيم » ، يعني قتيلاً ، يقال : قد لُحم إذا قتل . والهاء التي في «فيه » عائدة على الكتاب ، كأنه قال : لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين .

القول في تأويل قوله تعالى :

هُدًى .

حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : هُدًى قال : هدى من الضلالة .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدًى للمتّقِينَ ) يقول : نور للمتقين .

والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك : هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه ، ودللته عليه ، وبينته له أهديه هُدًى وهداية .

فإن قال لنا قائل : أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه ربنا عز وجل ، ولو كان نورا لغير المتقين ، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى ، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين ، وشفاء لما في صدور المؤمنين ، ووَقْرٌ في آذان المكذّبين ، وعمى لأبصار الجاحدين ، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد ، والكافر به محجوج .

وقوله : هُدًى يحتمل أوجها من المعاني ؛ أحدها : أن يكون نصبا لمعنى القطع من الكتاب لأنه نكرة والكتاب معرفة ، فيكون التأويل حينئذٍ : الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين . و«ذلك » مرفوع ب«الم » ، و«الم » به ، و«الكتاب » نعت ل«ذلك » . وقد يحتمل أن يكون نصبا على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في «فيه » ، فيكون معنى ذلك حينئذٍ : الم الذي لا ريب فيه هاديا . وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في «فيه » ، ومن الكتاب على أن «الم » كلام تام ، كما قال ابن عباس . إن معناه : أنا الله أعلم . ثم يكون «ذلك الكتاب » خبرا مستأنفا ، ويرفع حينئذٍ الكتاب ب«ذلك » و«ذلك » بالكتاب ، ويكون «هدى » قطعا من الكتاب ، وعلى أن يرفع «ذلك » بالهاء العائدة عليه التي في «فيه » ، والكتاب نعت له ، والهدى قطع من الهاء التي في «فيه » . وإن جعل الهدى في موضع رفع لم يجز أن يكون «ذلك الكتاب » إلا خبرا مستأنفا و«الم » كلاما تاما مكتفيا بنفسه إلاّ من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذٍ «هدى » بمعنى المدح كما قال الله جل وعز : { الم تِلْكَ آيَاتُ الكِتابِ الحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ } في قراءة من قرأ «رحمة » بالرفع على المدح للاَيات .

والرفع في «هدى » حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجه ، أحدها : ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف . والاَخر : على أن يجعل الرافع «ذلك » ، والكتاب نعت ل«ذلك » . والثالث : أن يجعل تابعا لموضع «لا ريب فيه » ، ويكون «ذلك الكتاب » مرفوعا بالعائد في «فيه » ، فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وَهَذَا كتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ ) .

وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين أن «الم » رافع «ذلك الكتاب » بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضَه ، وهدم ما بنى فأسرع هدمَه ، فزعم أن الرفع في «هدى » من وجهين والنصب من وجهين ، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون «الكتاب » نعتا ل«ذلك » ، و«الهدى » في موضع رفع خبر ل«ذلك » كأنك قلت : ذلك لا شك فيه . قال : وإن جعلت «لا ريب فيه » خبره رفعت أيضا «هدى » بجعله تابعا لموضع «لا ريب فيه » كما قال الله جل ثناؤه : { وَهَذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ } كأنه قال : وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا . قال : وأما أحد وجهي النصب ، فأن تجعل «الكتاب » خبرا ل«ذلك » وتنصب «هدى » على القطع لأن «هدى » نكرة اتصلت بمعرفة وقد تمّ خبرها فتنصبها ، لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة ، وإن شئت نصبت «هدى » على القطع من الهاء التي في «فيه » كأنك قلت : لا شكّ فيه هاديا .

قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصّله في «الم » وأنها مرفوعة ب«ذلك الكتاب » ونبذه وراء ظهره . واللازم له على الأصل الذي كان أصّله أن لا يجيز الرفع في «هدى » بحال إلا من وجه واحد ، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحا . فأما على وجه الخبر لذلك ، أو على وجه الإتباع لموضع «لا ريب فيه » ، فكان اللازم له على قوله إن يكون خطأ ، وذلك أن «الم » إذا رفعت «ذلك الكتاب » فلا شك أن «هدى » غير جائز حينئذٍ أن يكون خبرا ل«ذلك » بمعنى الرافع له ، أو تابعا لموضع لا ريب فيه ، لأن موضعه حينئذٍ نصب لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إياه عنه .

القول في تأويل قوله تعالى :

للْمُتّقِينَ .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قوله : ( للْمُتّقِينَ ) قال : اتقوا ما حرم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِينَ ) أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به .

حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدى للْمُتّقِينَ ) قال : هم المؤمنون .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : سألني الأعمش عن المتقين ، قال : فأجبته ، فقال لي : سل عنها الكلبي فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال : فرجعت إلى الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك ولم ينكره .

حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال : حدثنا عمر أبو حفص ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : ( هُدًى للْمُتّقِينَ ) هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِين ) قال : المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي .

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه : ( هُدًى للْمُتّقينَ ) تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه ، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها . وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسليم لها ، لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاصّ من معاني التقوى دون العام منها لم يَدَع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده ، إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى . فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو : الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين . إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه ، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا ، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين .