وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل أحد ، فمن ولايته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من الكافرين الرعب ، وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من مقاصدهم ، وقد فعل تعالى .
وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة " أحد " - تشاوروا بينهم ، وقالوا : كيف ننصرف ، بعد أن قتلنا منهم من قتلنا ، وهزمناهم ولما نستأصلهم ؟ فهموا بذلك ، فألقى الله الرعب في قلوبهم ، فانصرفوا خائبين ، ولا شك أن هذا من أعظم النصر ، لأنه قد تقدم أن نصر الله لعباده المؤمنين لا يخرج عن أحد أمرين : إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، وهذا من الثاني .
ثم ذكر السبب الموجب لإلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، فقال : { بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } أي : ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه من الأنداد والأصنام ، التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة ، من غير حجة ولا برهان ، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن ، فمن ثم كان المشرك مرعوبا من المؤمنين ، لا يعتمد على ركن وثيق ، وليس له ملجأ عند كل شدة وضيق ، هذا حاله في الدنيا ، وأما في الآخرة فأشد وأعظم ، ولهذا قال : { ومأواهم النار } أي : مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم عنها خروج ، { وبئس مثوى الظالمين } بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم .
ثم بشرهم بأنه سَيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم ، بسبب كفرهم وشركهم ، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنَّكال ، فقال : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } .
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً{[5812]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن سليمان - يعني التيمي - عن سَيّار ، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فَضَّلَني [ رَبِّي ]{[5813]} عَلَى الأنْبِيَاء - أو قال : عَلَى الأمَمِ - بأَرْبَعٍ " قال " أُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ كُلُّهَا وَلأمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأيْنَمَا أدْرَكَتْ{[5814]} رَجُلا مِنْ أُمَّتِي الصَّلاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ و{[5815]} طَهُوُرهُ ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْرٍ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي وأحَل لِيَ{[5816]} الغنائِم " .
ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي ، عن سَيَّار القُرَشي الأموي مولاهم الدمشقي - سكن البصرة - عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان ، رضي الله عنه ، به . وقال : حسن صحيح{[5817]} .
وقال سعيد بن منصور : أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث : أن أبا يونس حدثه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ " .
ورواه{[5818]} مسلم من حديث ابن وهب{[5819]} .
وروى الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي بُرْدَة ، عن أبيه{[5820]} أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ خَمْسًا : بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ ، وَجعلَتْ لِيَ الأرْض طَهُورًا ومَسْجِدًا ، وأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَلَمْ تَحِل لِمَنْ كَانَ قَبْلِي ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ{[5821]} شَهْرًا ، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إلا وَقَدْ سَأَل شَفَاعَتَهُ ، وإنِّي اخْتَبَأتُ شَفَاعَتِي ، ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا " .
تفرد به أحمد{[5822]} .
وروى العَوْفيّ ، عن ابن عباس في قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب ، فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفا ، وَقَدْ رَجَعَ ، وقَذَفَ الله فِي قَلْبِهِ الرُّعْبِ " . رواه ابن أبي حاتم .
{ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَىَ الظّالِمِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : سيلقى الله أيها المؤمنون في قلوب الذين كفروا بربهم ، وجحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ممن حاربكم بأُحد الرعب ، وهو الجزع والهلع بما أشركوا بالله ، يعني بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام ، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة ، وهي السلطان التي أخبر عزّ وجلّ أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم ، وهذا وعد من الله جلّ ثناؤه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائهم ، والفلج عليهم ما استقاموا على عهده ، وتمسكوا بطاعته ، ثم أخبرهم ما هو فاعل بأعدائهم بعد مصيرهم إليه ، فقال جلّ ثناؤه : { وَمأْوَاهُمُ النّارُ } يعني : ومرجعهم الذي يرجعون إليه يوم القيامة النار { وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ } يقول : وبئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم باكتسابهم ما أوجب لها عقاب الله النار . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { سَنُلْقِي في قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا باللّهِ ما لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطانا وَمأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثُوَى الظّالِمِينَ } إني سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب الذي به كنت أنصركم عليهم ، بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم به حجة ، أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ، ولا ظهور عليكم ما اعتصمتم واتبعتم أمري ، للمصيبة التي أصابتكم منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم ، خالفتم بها أمري ، وعصيتم فيها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا فقالوا : بئس ما صنعتم ، إنكم قتلتموهم ، حتى إذا لم يبق إلا الشرّير تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فقذف الله عزّ وجلّ في قلوبهم الرعب ، فانهزموا ، فلقوا أعرابيا ، فجعلوا له جُعْلاً ، وقالوا له : إن لقيت محمدا فأخبره بما قد جمعنا لهم ! فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك ، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما قذف في قلبه من الرعب ، فقال : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أشْرَكُوا باللّهِ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.