{ 34 } { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
قد تقرر أن اللّه تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة ، والظواهر والبواطن ، وقد يطلع اللّه عباده على كثير من الأمور الغيبية ، وهذه [ الأمور ]{[678]} الخمسة ، من الأمور التي طوى علمها عن جميع المخلوقات ، فلا يعلمها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فضلا عن غيرهما ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : يعلم متى مرساها ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } الآية .
{ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } أي : هو المنفرد بإنزاله ، وعلم وقت نزوله .
{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } فهو الذي أنشأ ما فيها ، وعلم ما هو ، هل هو ذكر أم أنثى ، ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه : هل هو ذكر أم أنثى ؟ فيقضي اللّه ما يشاء .
{ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } من كسب دينها ودنياها ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } بل اللّه تعالى ، هو المختص بعلم ذلك جميعه .
ولما خصص هذه الأشياء ، عمم علمه بجميع الأشياء فقال : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } محيط بالظواهر والبواطن ، والخفايا والخبايا ، والسرائر ، ومن حكمته التامة ، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد ، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك .
وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة ، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا ، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب . ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها ، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب .
( إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت . إن الله عليم خبير ) . .
والله - سبحانه - قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه ؛ ليبقى الناس على حذر دائم ، وتوقع دائم ، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها ، وهم لا يعلمون متى تأتي ، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة ، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد ، وكنز الرصيد .
والله ينزل الغيث وفق حكمته ، بالقدر الذي يريده ؛ وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله ؛ ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه . والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث ، لأنه سبحانه هو المنشىء للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه . فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة . كما هو ظاهر من النص . وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله . و إن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن . فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان .
( ويعلم ما في الأرحام ) . . اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر( الساعة )فهو سبحانه الذي يعلم وحده . علم يقين . ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور . من فيض وغيض . ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم . ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى ، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة . وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته . . فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى .
( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) . . ماذا تكسب من خير وشر ، ومن نفع وضر ، ومن يسر وعسر ، ومن صحة ومرض ، ومن طاعة ومعصية . فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه ؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة . و هو غيب مغلق ، عليه الأستار . والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب ، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار .
وكذلك : ( وما تدري نفس بأي أرض تموت )فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار .
وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة ، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود ، وعجزها الواضح ، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة . وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس . ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا ! بل ماذا يكون اللحظة التالية . وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله .
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة . .
رقعة فسيحة في الزمان والمكان ، وفي الحاضر الواقع ، والمستقبل المنظور ، والغيب السحيق . وفي خواطر النفس ، و وثبات الخيال : ما بين الساعة البعيدة المدى ، والغيث البعيد المصدر ، وما في الأرحام الخافي عن العيان . والكسب في الغد ، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول . . وموضع الموت والدفن ، وهو مبعد في الظنون .
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء . ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها ، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول ؛ ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة ، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ، ولانكشف القاصي منها والدان . . ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان ، لأنها فوق مقدور الإنسان ، و وراء علم الإنسان . تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره ، إلا بإذن منه وإلا بمقدار . ( إن الله عليم خبير )وليس غيره بالعليم ولا بالخبير . .
وهكذا تنتهي السورة ، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد . ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة ، الشاملة الشاسعة ، وئيد الخطى لكثرة ما طوف ، ولجسامة ما يحمل ، ولطول ما تدبر وما تفكر ، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات !
وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية . فتبارك الله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . .
وقوله تعالى : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث } ذكرالنقاش أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الخمس وروي أنه سأل عن بعضها عن جنين وعما يكسب ونحو هذا فنزلت الآية حاصرة لمفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ذكر ذلك مجاهد{[9393]} ولن تجد من المغيبات شيئاً إلا هذه أو ما يعيده النظر ، والتأويل إليها ، و { علم الساعة } مصدر مضاف إلى المفعول ، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه ، وكذلك نزول الغيث أمر قد استأثر الله تعالى بتفصيله وعلم وقته الخاص به ، وأمر الأجنة كذلك ، وأفعال البشر وجميع كسبهم كذلك وموضع موت كل بشر كذلك إلا الأصقاع والموضع الخاص بالجسد{[9394]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «بأيَّة أرض » فتح الياء وزيادة تاء تأنيث{[9395]} ، و { عليم خبير } صفتان متشابهتان لمعنى الآية ، وقال ابن مسعود : كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية{[9396]} ، وقرأ «وينزِل » خفيفة أهل الكوفة وأبو عمرو وعيسى ، وقرأ «وينزِّل » بالتثقيل نافع وأبو جعفر وعاصم وشيبة ، وذكر أبو حاتم في ترجيح التثقيل رأيا ( انتهى ) .
كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارةً على أنه غير واقع . قال تعالى : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يونس : 48 ] وقال : { وما يُدْرِيك لعلّ السَّاعة قريبٌ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 17 ، 18 ] ، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله .
فجملة { إن الله عنده علم الساعة } مستأنفة استئنافاً بيانياً لوقوعها جواباً عن سؤال مقدَّر في نفوس الناس . والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليماً للأمة . وقال الواحدي والبغوي : إن رجلاً من محارب خصفة من أهل البادية سماه في « الكشاف » الحارث بن عمرو ووقع في « تفسير القرطبي » وفي « أسباب النزول » للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : متى الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد ؟ وماذا أكسب غداً ؟ وبأي أرض أموت ؟ ، فنزلت هذه الآية ، ولا يُدرى سند هذا . ونُسب إلى عكرمة ومقاتل ، ولو صح لم يكن منافياً لاعتبار هذه الجملة استئنافاً بيانياً فإنه مقتضى السياق .
وقد أفاد التأكيد بحرف { إن } تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة ، وذلك يتضمن تأكيد وقوعها . وفي كلمة { عنده } إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن العندية شأنها الاستئثار . وتقديم { عند } وهو ظرف مسند على المسند إليه يُفيد التخصيص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوي .
وجملة { وينزل الغيث } عطف على جملة الخبر . والتقدير : وإن الله ينزل الغيث ، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث . والمقصود أيضاً عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نُظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة .
وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض . ولا التفاتَ إلى من قدروا : { ينزل الغيث } ، بتقدير ( أنْ ) المصدرية على طريقة قول طرفة :
للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة . وإذ قد جاء هذا نسقاً في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلاً خبراً عن مسند إليه مقدم مفيداً للاختصاص بالقرينة ؛ فالمعنى : وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت .
وعطف عليه { ويعلم ما في الأرحام } أي : ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكراً أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق . وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال . والمعنى : ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيداً للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى : { والله يقدّر الليل والنهار } .
وأما قوله { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سَداه نفي علم أيَّة نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها ، وكذلك مكانُ انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم ؛ فإذا كانوا بهذه المثابة في قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود . وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلمُ بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى ، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العِلْمين فكانا في ضميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما .
وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال : الله يدري كذا ، فيفيد : انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه . والمعنى : لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله { وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } . وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما ، أي ما تدري هذا السؤال ، أي جوابه . وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز .
ولقبت هذه الخمسة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } [ الأنعام : 59 ] . ففي « صحيح البخاري » من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَفاتح الغيب خمس " ثم قرأ : { إن الله عنده علم السَّاعة } الآية ، ومن حديث أبي هريرة : " . . . في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جواباً عن سؤال جبريل : متى الساعة ؟ . . . . " .
ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة : أنها هي الأمور المغيّبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأنَّ وقوعها فَتح لما كان مغلقاً وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد ، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل : يوم كذا مدخل الربيع ؛ فلا تجد مغيبات لا قِبَل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العَوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح عِلم في هذا العالم .
وجملة { إن الله عليم خبير } مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى : { إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا } [ لقمان : 33 ] كموقع قوله في قصة [ لقمان : 16 ] : { إن الله لطيف خبير } عقب قوله : { إنها إنْ تك مثقال حبة من خردل } الآية [ لقمان : 16 ] .
والمعنى : أن الله عليمٌ بمدى وعده خبيرٌ بأحوالكم مما جمعه قوله { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } الخ ولذا جمع بين الصفتين : صفة { عليم } وصفة { خبير } لأن الثانية أخص .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ، وَاخْشَوْا يَوْما لا يَجْزِي وَالدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئا" هو آتيكم علم إتيانه إياكم عند ربكم، لا يعلم أحد متى هو جائيكم، لا يأتيكم إلاّ بغتة، فاتقوه أن يفجأكم بغتة، وأنتم على ضلالتكم لم تنيبوا منها، فتصيروا من عذاب الله وعقابه إلى ما لا قِبل لكم به وابتدأ تعالى ذكره الخبر عن علمه بمجيء الساعة. والمعنى: ما ذكرت لدلالة الكلام على المراد منه، فقال: "إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ "التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره، "وينزّلُ الغَيْثَ" من السماء، لا يقدر على ذلك أحد غيره،
"وَيَعْلَمُ ما في الأرْحامِ" أرحام الإناث،
"وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدا" يقول: وما تعلم نفس حيّ ماذا تعمل في غد، "وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْض تَمُوتُ" يقول: وما تعلم نفس حيّ بأيّ أرض تكون منيتها. "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" يقول: إن الذي يعلم ذلك كله، هو الله دون كلّ أحد سواه، إنه ذو علم بكلّ شيء، لا يخفى عليه شيء، خبير بما هو كائن، وما قد كان... حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عمرو بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسَةٌ، ثم قرأ هؤلاء الآيات "إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ..." إلى آخرها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ويحتمل أن يكون قوله: {إن الله عنده علم الساعة} أي عنده علم بماهية الساعة وأهوالها ولم يذكر ماهيتها وحدها وقدرها، فأخبر أنه يعلم هو ذلك.
{ويعلم ما في الأرحام} من انتقال النطفة إلى العلقة وانتقال العلقة إلى المضغة وتحول ما في الرحم من حال إلى حال أخرى وقدر زيادة ما فيه في كل وقت وفي كل ساعة ونحو ذلك لا يعلمه إلا الله.
{وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت} جائز أن يكون كتم ذلك، وأخفاه، ليكونوا في كل حال على حذر وخوف وعلى يقظة، إذ لو كان أطلعهم على ذلك لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت، فيعلمون بكل ما يريدون ويشاؤون. فيكون في ذلك ارتفاع المحنة، فليس ذلك عليهم ليكونوا أبدا في كل وقت وكل حال على حذر وخوف ويقظة، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إن هذه الخمسة أشياء مما لا يعلمها غيره تعالى على التفصيل والتحقيق. "إن الله عليم "بتفصيل ذلك "خبير" به لا يخفي عليه شيء من ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار.
وجعل العلم لله والدراية للعبد، لما في الدراية من معنى الختل والحيلة. والمعنى: أنها لا تعرف -وإن أعملت حيلها- ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما، كان من معرفة ما عداهما أبعد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال ابن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الخمس ثم تلا الآية و {علم الساعة} مصدر مضاف إلى المفعول، أي كل ما شأنه أن يعلم من أمر الساعة ولكن الذي استأثر الله تعالى به هو علم الوقت وغير ذلك قد أعلم ببعض منه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وعلم: مصدر أضيف إلى الساعة، والمعنى: علم يقين ووقع الإخبار بأن الله استأثر بعلمه هذه الخمس، لأنها جواب لسائل سأل، وهو يستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية، ويأتي في آخر التي بعدها، إما تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب، لما في ذلك من الحكمة التي سيقت لها السورة، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَيُنَزّلُ الغيث} في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه {إِنَّ الله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ فلا يعزبُ عن علمِه شيءٌ من الأشياءِ التي من جُملتِها ما ذُكر.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وينزل الغيث} في وقته المقدر له، ومكانه المعين في علمه تعالى، والفلكيون وإن علموا الخسوف والكسوف، ونزول الأمطار بالأدلة الحسابية، فليس ذلك غيبا، بل بأمارات وأدلة تدخل في مقدور الإنسان، ولاسيما أن بعضها قد يكون أحيانا في مرتبة الظن، لا في مرتبة اليقين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... معنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة: أنها هي الأمور المغيّبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم، وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأنَّ وقوعها فَتح لما كان مغلقاً.
وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل: يوم كذا مدخل الربيع؛ فلا تجد مغيبات لا قِبَل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة، فأما في العَوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح عِلم في هذا العالم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ما في الأرحام}، لا يخص أرحام النساء وحدهن، بل يشمل أرحام الحوامل من كل الإناث، سواء في ذلك إناث الإنسان وإناث غيره من الحيوان، فعلم الله تعالى محيط شامل، وإحصاؤه لخلقه إحصاء كامل، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار} (8: 13)، وصدق الله العظيم إذ قال (32: 53): {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا تنتهي السورة، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد. ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة، الشاملة الشاسعة، وئيد الخطى لكثرة ما طوف، ولجسامة ما يحمل، ولطول ما تدبر وما تفكر، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات! وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية. فتبارك الله خالق القلوب، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين..