{ 1 - 4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يقول تعالى : هذا { كِتَابٌ } عظيم ، ونزل كريم ، { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي : أتقنت وأحسنت ، صادقة أخبارها ، عادلة أوامرها ونواهيها ، فصيحة ألفاظه بهية معانيه .
{ ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي : ميزت وبينت بيانا في أعلى أنواع البيان ، { مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ } يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها ، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته ، { خَبِيرٌ } مطلع على الظواهر والبواطن . فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير ، فلا تسأل بعد هذا ، عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة ، وسعة الرحمة .
سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
هذه السورة مكية بجملتها ، خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات ( 12 ، 17 ، 114 ) فيها مدنية . ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من السياق ، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء . فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة ، وموقف مشركي قريش منها ، وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والقلة المسلمة معه ، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار . .
فالآية 12 مثلا هذا نصها : " فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، إنما أنت نذير ، والله على كل شيء وكيل " . . وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد الذي يضيق به صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحيث يحتاج إلى التسرية عنه ، والتثبيت على ما يوحى إليه ؛ إنما كان في مكة ، وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة ، حادث الإسراء ، وجرأة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوقف حركة الدعوة تقريبا ؛ وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة .
والآية 17 هذا نصها : ( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه ، إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم ، بأنه إنما يوحى إليه من ربه ؛ وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب مسوسى ؛ وبتصديق بعض أهل الكتاب به- وهذا ما كان في مكة من أفراد أهل الكتاب- واتخاذ هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين . و تهديد الأحزاب منهم بالنار ، مع تثبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحق الذي هو معه ، في وجه توقف الدعوة ، وعناد الأكثرية الغالبة في مكة وما حولها من القبائل . . وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية ، فهي ليست خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم- كما هو العهد في القرآن المدني- ولكنها استشهاد بموقف تصديق من بعهضهم ؛ وبتصديق كتاب موسى ، عليه السلام- لما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة ، ومقتضياتها الواضحة .
والآية 114 واردة في سياق تسرية عن الرسول [ ص ] بما كان من الاختلاف على موسى من قبل . وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن تاب معه ، وعدم الركون إلى الذين ظلموا [ أي أشركوا ] والاستعانة بالصلاة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة . . وتتوارد الآيات هكذا : ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ، وإنهم لفي شك منه مريب [ 110 ] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير [ 111 ] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير [ 112 ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون [ 113 ] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين [ 114 ] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [ 115 ] . . وواضح أن الآية قطعة من السياق المكي ، موضوعا وجوا وعبارة . .
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس . ونزلت يونس بعد الإسراء . وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها ؛ وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة . فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة ؛ وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب - وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته ، واستهزاء المشركين به ، وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله - مع وحشة رسول الله [ ص ] من خديجة - رضي الله عنها - في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته ؛ وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها ؛ وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها . . وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية . .
قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله [ ص ] المصائب بهلك خديجة - وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها - وبهلك عمه أبي طالب - وكان له عضدا وحرزا في أمره ، ومنعة وناصرا على قومه - وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين . فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [ ص ] من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا .
قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، قال : لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله [ ص ] ذلك التراب ، دخل رسول الله [ ص ] بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي . ورسول الله [ ص ] يقول لها : " لاتبكي يا بنية ، فإن الله مانع أباك " قال : ويقول بين ذلك : " ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " .
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع : فعظمت المصيبة على رسول الله [ ص ] بموتهما وسماه " عام الحزن " وقال : " ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب " لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره .
ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها ، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحملطابع هذه الفترة ؛ وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها .
وآثار هذه الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها ! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله [ ص ] والذين معه على الحق ؛ والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي .
وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها :
فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشري كله ، من لدن نوح - عليه السلام - إلى عهد محمد - عليه الصلاة والسلام - وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة : هي الدينونة لله وحده بلا شريك ، والعبودية له وحده بلا منازع ؛ والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ . مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء ؛ وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة ؛ وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء .
ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) . . أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو : ( ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير . وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير ) . . .
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق . . لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، إني لكم نذير مبين . أن لا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) . . ( وإلى عاد أخاهم هودا قال : يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون . يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني ، أفلا تعقلون ؟ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويزدكم قوة إلى قوتكم . . ولا تتولوا مجرمين ) . . ( وإلى ثمود أخاهم صالحا ، قال : يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب ) . . ( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال . يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، ولا تنقصوا المكيال والميزان ، إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط . ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ) . .
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة . .
ومن ذلك عرض مواقف الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وهم يتلقون الإعراض والتكذيب ، والسخرية والاستهزاء ، والتهديد والإيذاء ، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق ، وفي نصر الله الذي لا شك آت ؛ ثم تصديق العواقب في الدنيا - وفي الآخرة كذلك - لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم ، بالتدمير على المكذبين ، وبالنجاة للمؤمنين :
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد : ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا ، وما نراك )( اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ، وما نرى لكم علينا من فضل ، بل نظنكم كاذبين . . قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ، إن أجري إلا على الله ، وما أنا بطارد الذين آمنوا ، إنهم ملاقو ربهم . ولكني أراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ؟ أفلا تذكرون ؟ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ، ولا أعلم الغيب ، ولا أقول : إني ملك ، ولا أقول للذين تزدري أعينكم : لن يؤتيهم الله خيرا ، الله أعلم بما في أنفسهم ، إني إذن لمن الظالمين . قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال : إنما يأتيكم به الله - إن شاء - وما أنتم بمعجزين ) . . ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين .
وفي قصة هود نجد هذا المشهد : ( قالوا : يا هود ما جئتنا ببينة ، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين . إن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء . . قال : إني أشهد الله ، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون . إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم ، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . . ثم تجيء العاقبة : ( ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ . وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ، ألا إن عادا كفروا ربهم ، ألا بعدا لعاد قوم هود ! ) .
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد : ( قالوا : يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب . قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير ) . . ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ، إن ربك هو القوي العزيز ، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا إن ثمود كفروا ربهم ، ألا بعدا لثمود ! . .
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد : قالوا : يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ؟ إنك لأنت الحليم الرشيد ! قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب . ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ، وما قوم لوط منكم ببعيد . واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، إن ربي رحيم ودود . قالوا : يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفا ، ولولا رهطك لرجمناك ، وما أنت علينا بعزيز . قال : يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ؟ إن ربي بما تعملون محيط . ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل ، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب ، وارتقبوا إني معكم رقيب . . ثم تجيء الخاتمة : ( ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا ، وأخذت الذين ظلموا الصيحة ، فأصبحوا في ديارهم جاثمين . كأن لم يغنوا فيها ، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود ! ) . .
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله [ ص ] إلى دلالته : والتسريةعنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله ؛ وبما أولاهم الله من رعايته ونصره ؛ وتوجيهه [ ص ] إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به . . وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة .
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب : ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ، فاصبر ، إن العاقبة للمتقين ) .
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد . وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم ، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ، وما زادوهم غير تتبيب . وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ، إن أخذه أليم شديد ) . . . ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ؛ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ، وإنهم لفي شك منه مريب . وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير . فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ، ولا تطغوا ، إنه بما تعملون بصير . ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون . وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، ذلك ذكرى للذاكرين . واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . . . ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحق ، وموعظة وذكرى للمؤمنين . وقل للذين لا يؤمنون : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون . وانتظروا إنا منتظرون . ولله غيب السماوات والأرض ، وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده ، وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ) . .
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني ؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافيء للموقف ؛ وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة ، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها ؛ ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها ، متوافيا مع أهدافها ، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية .
ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر :
" ولقد كان آخر عهدنا - في هذه الظلال - بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف - وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول - ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة - فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا . . والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين ، في الموضوع ، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك ! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها ؛ وتفند هذه الجاهلية ، عقيدة وشعورا ، وعبادة وعملا . بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض ، وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ . وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود . . في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا . . إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع ، وسرعة وقوة في النبض ، ولألاء شديد في التصوير والحركة . . بينما تمضي سورة يونسفي إيقاع رخي ، ونبض هادئ ، وسلاسة وديعة ! . . فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا . . ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، بعد كل هذا التشابه والاختلاف " . .
فالآن نفصل هذه الإشارة المجملة :
إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل . . إشارة إلى قصة نوح ، وإشارة إلى الرسل من بعده ، وشيء من التفصيل في قصة موسى ، وإشارة مجملة إلى قصة يونس . . ولكن القصص إنما يجيء في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفها السورة .
أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة . وهو إن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفها ؛ إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز
لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة :
القطاع الأول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا .
والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة .
والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود . .
وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يستهدفها سياق السورة كله ؛ وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق . وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه
وهذه الحقائق الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي :
أن ما جاء به النبي [ ص ] وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من الله - سبحانه - وهي تقوم على الدينونة لله وحده بلا شريك . والتلقي في هذه الدينونة عن رسل الله وحدهم كذلك . والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة :
ففي مقدمة السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول الله - [ ص ] :
ألر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير . . ( أم يقولون : افتراه ؟ قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأن لا إله إلا هو ، فهل أنتم مسلمون ؟ ) .
وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم ؛ وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة :
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ، إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) .
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم ، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ ) . .
( ونادى نوح ربه فقال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين . قال : يا نوح )( إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فلا تسألن ما ليس لك به علم ، إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) .
( وإلى عاد أخاهم هودا قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون . . )
( وإلى ثمود أخاهم صالحا ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب . . )
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من الله إن عصيته ؟ فما تزيدونني غير تخسير . . )
( وإلى مدين أخاهم شعيبا ، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . ) .
( قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا . . . ) .
وفي التعقيب ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها :
( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون ) . .
( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، فاعبده وتوكل عليه ، وما ربك بغافل عما تعملون ) .
وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة .
ولكي يدين الناس لله وحده بالربوبية ، فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه ، وتقرر كذلك أنهم في قبضته في هذه الدنيا ؛ وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير . . وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك .
( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين ، وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، ولئن قلت : إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين . ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . . )
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون ) . .
وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات :
( إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . .
( وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ، فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب . . )
( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة . إن أخذه أليم شديد ) . .
( وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم ، إنه بما يعملون خبير ) .
( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون . ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم ، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . . وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها . وهي لا تستهدف إثبات وجود الله - سبحانه - إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده في حياة البشر ، كما أنها مقررة في نظام الكون . . فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف ؛ إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات ؛ وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة . إنها قضية الدينونة لله وحده بلا شريك ؛ والخضوع لله وحده بلا منازع . ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره . كما هو واضح من هذه المقتطفات من قطاعات السورة جميعا .
وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر ، وتثبيتها في النفوس ، وتعميقها في الكيان البشري ، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية ، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات . . في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة ، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها . .
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب . . الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك ، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء . . والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة ؛ وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي ، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم ، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا ؛ ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى . وهذه نماذج من الترهيب والترغيب :
( . . . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله . وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم ، وهو على كل شيء قدير ) . .
( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ، وهم فيها لا يبخسون . أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار ، وحبط ما صنعوا فيها ، وباطل ما كانوا يعملون ) . .
( أفمن كان على بينة من ربه ، ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ؟ أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب ، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون . أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ، هل يستويان مثلا ؟ أفلا تذكرون ؟ ) .
( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ، ولا تتولوا مجرمين ) . . . ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ، ويستخلف ربي قوما غيركم ، ولا تضرونه شيئا ، إن ربي على كل شيء حفيظ ) . .
( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وملئه ، فاتبعوا أمر فرعون ، وما أمر فرعون برشيد . يقدم قومه يوم القيامة ، فأوردهم النار ، وبئس الورد المورود . واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ! . . . )
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ ؛ من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين - على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات - ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة ؛ ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد :
( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون . ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ، قال : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويحل عليه عذاب مقيم . حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا : احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن ، وما آمن معه إلا قليل . وقال : اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه - وكان في معزل - يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين . قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ! قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين . وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء ، وقضي الأمر واستوت على الجودي ، وقيل : بعدا للقوم الظالمين . . . الخ . . . الخ . . . الخ . . . )
ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء ؛ فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب ، المتحدين للنذر في استهتار . . يرفع لهم صورأنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم ؛ وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم ؛ وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم ؛ وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد :
( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم . وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ، ثم نزعناها منه ، إنه ليئوس كفور . ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن : ذهب السيئات عني ، إنه لفرح فخور . إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير . . . )
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة ؛ وصور المكذبين فيها ؛ ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله ؛ وما يجدونه يومئذ من خزي ؛ لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء :
( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ أولئك يعرضون على ربهم ، ويقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ! ألا لعنة الله عى الظالمين ! الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم بالآخرة هم كافرون . أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء ، يضاعف لهم العذاب ، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، أولئك الذين خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ، ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - عطاء غير مجذوذ ) .
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور ؛ بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه ، ولا علمه المحيط ؛ ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا ، وهم - الذين يكذبون - في قبضته كسائر الخلائق ؛ من حيث لا يشعرون : ( إلى الله مرجعكم ، وهو على كل شيء قدير . ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ! ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ، إنه عليم بذات الصدور . وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين ) . .
( إني توكلت على الله ربي وربكم ، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، إن ربي على صراط مستقيم ) .
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك ، استعراض موكب الإيمان . بقيادة الرسل الكرام ، على مدار الزمان . وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة ، في صراحة وفي صرامة ، وفي ثقة وطمأنينة ويقين . . وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة ، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة . ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام ، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان ؛ ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة . . يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء . .
وحسبنا في تقديم السورة هذه الإشارات المجملة حتى نلتقي بنصوص السورة مفصلة . .
( آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير ، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير . إلى الله مرجعكم . وهو على كل شيء قدير ) . .
إنها جملة الحقائق الاعتقاديه الأساسية :
جزاء الله في الدنيا والآخرة لمن يهتدون بهداه ويتبعون منهجه للحياة .
جزاء الله في الآخرة للمكذبين ، وعودة الجميع إلى الله عصاة وطائعين .
قدرته المطلقة وسلطانه غير المحدود .
ألف . لام . راء : مبتدأ ، خبره : ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) . . وهذا الكتاب المؤلف من مثل هذه الأحرف هو الذي يكذبون به . وهم عن شيء من مثله عاجزون !
( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) . .
أحكمت آياته ، فجاءت قوية البناء ، دقيقة الدلالة ، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة ، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب ، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم . متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب ، ومنسقة ذات نظام واحد . ثم فصلت . فهي مقسمة وفق أغراضها ، مبوبة وفق موضوعاتها ، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه .
أما من أحكمها ، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق ؟ فهو الله سبحانه ، وليس هو الرسول : ( من لدن حكيم خبير ) . .
يحكم الكتاب عن حكمة ، ويفصله عن خبرة . . هكذا جاءت من لدنه ، على النحو الذي أنزل على الرسول ، لا تغيير فيها ولا تبديل .
بسم الله الرحمن الرحيم سورة هود عليه السلام{[1]}
هذه سورة مكية إلا قوله تعالى ' فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك ' وقوله ' أولئك يؤمنون به ' ونزلت في ابن سلام وأصحابه وقوله «إن الحسنات يذهبن السيئات »{[2]} نزلت في شأن الثمار . وهذه الثلاثة مدنية قاله مقاتل{[3]} على أن الأولى تشبه المكي . وإذا أردت بهود اسم السورة لم ينصرف ، كما تفعل إذا سميت امرأة ب ( عمرو ) و( زيد ) وإذا أردت سورة هود صرفت{[4]} .
تقدم استيعاب القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتختص هذه بأن قيل : إن الرحمن فرقت حروفه فيها وفي { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] وفي { ن والقلم } [ القلم : 1 ] .
و { كتاب } مرتفع على خبر الابتداء ، فمن قال : الحروف إشارة إلى حروف المعجم ، كانت الحروف المبتدأ ، ومن تأول الحروف غير ذلك كان المبتدأ «هذا كتاب » ؛ والمراد بالكتاب القرآن .
و { أحكمت } معناه أتقنت وأجيدت شبه تحكم الأمور المتقنة الكاملة ، وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة ف { ثم } على بابها ، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية ، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له ، والكتاب بأجمعه محكم مفصل والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك . وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب ؛ وعن بعضهم : أحكمت من الباطل ، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ ، وقال قوم : { فصلت } معناه فسرت ، وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير - فيما روي عنه - : «ثم فَصَلَت » بفتح الفاء والصاد واللام ، ويحتمل ذلك معنيين : أحدهما : «فَصَلَت » أي نزلت إلى الناس كما تقول فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى ، والثاني فَصَلَت بين المحق والمبطل من الناس .
و { من لدن } معناها من حيث ابتدئت الغاية ، كذا قال سيبويه وفيها لغات : يقال : لدُن ولدْن بسكون الدال وقرىء بهما . { من لدن } ، ويقال : «لَدُ » : بفتح اللام وضم الدال دون نون ، ويقال «لدا » بدال منونة مقصورة . ويقال «لَدٍ » بدال مكسورة منونة ، حكى ذلك أبو عبيدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة هود مكية كلها، غير هذه الآيات الثلاث، فإنهن نزلن بالمدينة، فالأولى قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} [آية:12]، [و] قوله تعالى: {أولئك يؤمنون به...} [آية:17]، نزلت في ابن سلام وأصحابه، وقوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات...} [آية:114]، نزلت في رهبان النصارى، والله أعلم...
الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب 437 هـ :
روى مسروق عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، أنه قال: قلت يا رسول الله! لقد أسرع إليك الشيب، فقال: "شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية وهي قوله "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل"...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت! قال: (شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت). قال: هذا حديث حسن غريب، وقد روي شيء من هذا مرسلا...
ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه، فتذهل منه النفوس، وتشيب منه الرؤوس...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سورة هود أضيفت إليه لتضمُّنها نبأه مع قومه، وتمييزاً لها، وإن تضمَّنت أنباء غيره من الأنبياء عليهم السلام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هي مكية حتما كالتي قبلها، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات: الأولى {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} [هود: 12] الخ، والثانية {أفمن كان على بينة من ربه} [هود: 17] الخ، والثالثة {وأقم الصلاة طرفي النهار} [هود:114] الخ. قيل: إن هذه الثلاث مدنية، وهو خلاف الظاهر، ولا يقوم عليه دليل، إلا ما روي في سبب نزول الثالثة من حديث أبي اليسر وغيره، وسيأتي بيانه في تفسيرها.
وهي في معناها وموضوعها الذي بينا في تفسيرها، وهو أصول عقائد الإسلام في الإلهيات والنبوات والبعث والجزاء وعمل الصالحات، وقد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل عليهم السلام، وهي مناسبة لها كل المناسبة ببراعة المطلع في فاتحتها، والمقطع في خاتمتها، وتفصيل الدعوة في أثنائها، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد [الر]، ومثلهما في هذا ما بعدهما من السور الأربع إلا الرعد فأولها [المر]، وذكر رسالة النبي المبلغ له عن الله تعالى، وبيان وظيفته فيها، وهو الإنذار والتبشير، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره في الأولى بالصبر حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين، وفي الثانية بالانتظار، أي انتظار هذا الحكم منه تعالى مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه.
وذكر في أثناء كل منهما التحدي بالقرآن، ردا على الذين زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد افتراه، ولكن هذا الموضوع في الأولى أوفى منه في الثانية، وكذا محاجة المشركين في أصول الدين كلها، فقد أجمع في كل منهما ما فصل في الأخرى مع فوائد انفردت بها كل منهما، فهما باتفاق الموضوع، واختلاف النظم والأسلوب، آيتان من آيات الإعجاز، تخر لتلاوتهما الوجوه للأذقان، ساجدة للرحمان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة مكية بجملتها، خلافا لما ورد في المصحف الأميري من أن الآيات (12، 17، 114) فيها مدنية. ذلك أن مراجعة هذه الآيات في سياق السورة تلهم أنها تجيء في موضعها من السياق، بحيث لا يكاد يتصور خلو السياق منها بادئ ذي بدء. فضلا على أن موضوعاتها التي تقررها هي من صميم الموضوعات المكية المتعلقة بالعقيدة، وموقف مشركي قريش منها، وآثار هذا الموقف في نفس رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والقلة المسلمة معه، والعلاج القرآني الرباني لهذه الآثار..
فالآية 12 مثلا هذا نصها:"فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، إنما أنت نذير، والله على كل شيء وكيل".. وواضح أن هذا التحدي وهذا العناد من قريش إلى الحد الذي يضيق به صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحيث يحتاج إلى التسرية عنه، والتثبيت على ما يوحى إليه؛ إنما كان في مكة، وبالذات في الفترة التي تلت وفاة أبي طالب وخديجة، حادث الإسراء، وجرأة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقف حركة الدعوة تقريبا؛ وهي من أقسى الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة.
والآية 17 هذا نصها: (أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة؟ أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه، إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) وواضح كذلك أنها من نوع القرآن المكي واتجاهه في مواجهة مشركي قريش بشهادة القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم، بأنه إنما يوحى إليه من ربه؛ وبشهادة الكتب السابقة وبخاصة كتاب موسى؛ وبتصديق بعض أهل الكتاب به- وهذا ما كان في مكة من أفراد أهل الكتاب- واتخاذ هذا قاعدة للتنديد بموقف المشركين. و تهديد الأحزاب منهم بالنار، مع تثبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحق الذي هو معه، في وجه توقف الدعوة، وعناد الأكثرية الغالبة في مكة وما حولها من القبائل.. وليس ذكر كتاب موسى بشبهة على مدنية الآية، فهي ليست خطابا لبني إسرائيل ولا تحديا لهم- كما هو العهد في القرآن المدني- ولكنها استشهاد بموقف تصديق من بعضهم؛ وبتصديق كتاب موسى، عليه السلام- لما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- وهذا أشبه بالموقف في مكة في هذه الفترة الحرجة، ومقتضياتها الواضحة.
والآية 114 واردة في سياق تسرية عن الرسول [صلى الله عليه وسلم] بما كان من الاختلاف على موسى من قبل. وتوجيهه للاستقامة كما أمر هو ومن تاب معه، وعدم الركون إلى الذين ظلموا [أي أشركوا] والاستعانة بالصلاة وبالصبر على مواجهة تلك الفترة العصيبة.. وتتوارد الآيات هكذا: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب [110] وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم، إنه بما يعملون خبير [111] فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير [112] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون [113] وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين [114] واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [115].. وواضح أن الآية قطعة من السياق المكي، موضوعا وجوا وعبارة..
لقد نزلت السورة بجملتها بعد يونس. ونزلت يونس بعد الإسراء. وهذا يحدد معالم الفترة التي نزلت فيها؛ وهي من أحرج الفترات وأشقها كما قلنا في تاريخ الدعوة بمكة. فقد سبقها موت أبي طالب وخديجة؛ وجرأة المشركين على ما لم يكونوا ليجرؤوا عليه في حياة أبي طالب -وخاصة بعد حادث الإسراء وغرابته، واستهزاء المشركين به، وارتداد بعض من كانوا أسلموا قبله- مع وحشة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من خديجة -رضي الله عنها- في الوقت الذي تجرأت فيه قريش عليه وعلى دعوته؛ وبلغت الحرب المعلنة عليه وعلى دعوته أقسى وأقصى مداها؛ وتجمدت حركة الدعوة حتى ما كاد يدخل في الإسلام أحد من مكة وما حولها.. وذلك قبيل أن يفتح الله على رسوله وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية..
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] المصائب بهلك خديجة -وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها- وبهلك عمه أبي طالب -وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه- وذلك قبل مهاجرته إلى المدينة بثلاث سنين. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، قال: لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذلك التراب، دخل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول لها: "لا تبكي يا بنية، فإن الله مانع أباك "قال: ويقول بين ذلك:"ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب".
وقال المقريزي في إمتاع الأسماع: فعظمت المصيبة على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بموتهما وسماه "عام الحزن "وقال: "ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب" لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حاميا له ولا ذابا عنه غيره.
ففي هذه الفترة نزلت سورة هود ويونس قبلها، وقبلهما سورة الإسراء وسورة الفرقان وكلها تحمل طابع هذه الفترة؛ وتحدث عن مدى تحدي قريش وتعديها.
وآثار هذه الفترة وجوها وظلالها واضحة في جو السورة وظلالها وموضوعاتها! وبخاصة ما يتعلق بتثبيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والذين معه على الحق؛ والتسرية عنه مما يساور قلبه من الوحشة والضيق والغربة في المجتمع الجاهلي.
وقد برز طابع هذه الفترة ومقتضياتها في السورة في سمات عدة نشير إلى بعض منها:
فمن ذلك استعراض السورة لحركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشري كله، من لدن نوح -عليه السلام- إلى عهد محمد -عليه الصلاة والسلام- وتقرير أنها قامت على حقائق أساسية واحدة: هي الدينونة لله وحده بلا شريك، والعبودية له وحده بلا منازع؛ والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ. مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء؛ وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة؛ وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء.
ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير).. أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو: (ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير. وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير)...
ولكن هذه لم تكن دعوة مبتدعة ولا قولا غير مسبوق.. لقد قالها من قبل نوح وهود وصالح وشعيب وموسى وغيرهم: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه، إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم).. (وإلى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون. يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون؟ وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويزدكم قوة إلى قوتكم.. ولا تتولوا مجرمين).. (وإلى ثمود أخاهم صالحا، قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب).. (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال. يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ)..
فكلهم إذن قال هذه الكلمة الواحدة ودعا بهذه الدعوة الثابتة..
ومن ذلك عرض مواقف الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وهم يتلقون الإعراض والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والتهديد والإيذاء، بالصبر والثقة واليقين بما معهم من الحق، وفي نصر الله الذي لا شك آت؛ ثم تصديق العواقب في الدنيا -وفي الآخرة كذلك- لظن الرسل الكرام بوليهم القادر العظيم، بالتدمير على المكذبين، وبالنجاة للمؤمنين:
ففي قصة نوح نجد هذا المشهد: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما نراك إلا بشرا مثلنا، وما نراك) (اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين.. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ ويا قوم لا أسألكم عليه مالا، إن أجري إلا على الله، وما أنا بطارد الذين آمنوا، إنهم ملاقو ربهم. ولكني أراكم قوما تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم؟ أفلا تذكرون؟ ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول: إني ملك، ولا أقول للذين تزدري أعينكم: لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم، إني إذن لمن الظالمين. قالوا: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا، فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال: إنما يأتيكم به الله -إن شاء- وما أنتم بمعجزين).. ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.
وفي قصة هود نجد هذا المشهد: (قالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول: إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.. قال: إني أشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ).. ثم تجيء العاقبة: (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ. وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة، ألا إن عادا كفروا ربهم، ألا بعدا لعاد قوم هود!).
وفي قصة صالح نجد هذا المشهد: (قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا، أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير).. ثم تجيء العاقبة بعد عقر الناقة والتكذيب: فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها، ألا إن ثمود كفروا ربهم، ألا بعدا لثمود!..
وفي قصة شعيب نجد هذا المشهد: قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد! قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا؟ وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إن ربي رحيم ودود. قالوا: يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفا، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز. قال: يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا؟ إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إني معكم رقيب.. ثم تجيء الخاتمة: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا، وأخذت الذين ظلموا الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود!)..
ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى دلالته: والتسرية عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله؛ وبما أولاهم الله من رعايته ونصره؛ وتوجيهه [صلى الله عليه وسلم] إلى مفاصلة المكذبين من قومه كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به.. وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة.
فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر، إن العاقبة للمتقين).
وفي نهاية القصص الوارد في السورة نجد هذا التعقيب الطويل إلى ختام السورة: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد)... (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه؛ ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب. وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم، إنه بما يعملون خبير. فاستقم كما أمرت ومن تاب معك، ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)... (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق، وموعظة وذكرى للمؤمنين. وقل للذين لا يؤمنون: اعملوا على مكانتكم إنا عاملون. وانتظروا إنا منتظرون. ولله غيب السماوات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده، وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون)..
وهكذا يتجلى لنا الجانب الحركي في التوجيه القرآني؟ وهكذا نرى القرآن يواجه واقع الدعوة والحركة في كل مرحلة بالتوجيه المكافئ للموقف؛ وهكذا نجد القصص في القرآن يواجه مقتضيات الحركة والمعركة مع الجاهلية في مراحلها المختلفة مواجهة حية فاعلة، شأنه شأن بقية السورة التي يجيء فيها؛ ونجده في الوقت ذاته متناسقا مع سياق السورة وجوها وموضوعها، متوافيا مع أهدافها، مصدقا في عالم الواقع لما تقرره من توجيهات وأحكام وإيحاءات تقريرية.
ولقد جاء في التعريف بسورة يونس من قبل في الجزء الحادي عشر:
" ولقد كان آخر عهدنا -في هذه الظلال- بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف -وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول- ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة -فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا.. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وهاتين، في الموضوع، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها وتواجه الجاهلية بها؛ وتفند هذه الجاهلية، عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض، وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود.. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا.. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس بارتفاع وضخامة في الإيقاع، وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة.. بينما تمضي سورة يونسفي إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة!.. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا.. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف"..
فالآن نفصل هذه الإشارة المجملة:
إن سورة يونس تحتوي على جانب من القصص مجمل.. إشارة إلى قصة نوح، وإشارة إلى الرسل من بعده، وشيء من التفصيل في قصة موسى، وإشارة مجملة إلى قصة يونس.. ولكن القصص إنما يجيء في السورة شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها السورة.
أما سورة هود فالقصص فيها هو جسم السورة. وهو إن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقادية التي تستهدفها؛ إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز
لذلك نجد تركيب السورة يحتوي على ثلاثة قطاعات متميزة:
القطاع الأول يتضمن حقائق العقيدة في مقدمة السورة ويشغل حيزا محدودا.
والقطاع الثاني يتضمن حركة هذه الحقيقة في التاريخ ويشغل معظم سياق السورة.
والقطاع الثالث يتضمن التعقيب على هذه الحركة في حيز كذلك محدود..
وواضح أن قطاعات السورة بجملتها تتعاون وتتناسق في تقرير الحقائق الاعتقادية الأساسية التي يستهدفها سياق السورة كله؛ وأن كل قطاع منها يقرر هذه الحقائق وفق طبيعته وطريقة تناوله لهذه الحقائق. وهي تختلف بين التقرير والقصص والتوجيه
وهذه الحقائق الأساسية التي تستهدف السورة تقريرها هي:
أن ما جاء به النبي [صلى الله عليه وسلم] وما جاء به الرسل من قبله حقيقة واحدة موحى بها من الله- سبحانه -وهي تقوم على الدينونة لله وحده بلا شريك. والتلقي في هذه الدينونة عن رسل الله وحدهم كذلك. والمفاصلة بين الناس على أساس هذه الحقيقة:
ففي مقدمة السورة تجيء هذه الآيات عن حقيقة دعوة رسول الله- [صلى الله عليه وسلم]:
الر. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير.. (أم يقولون: افتراه؟ قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو، فهل أنتم مسلمون؟).
وفي قصص الرسل يرد عن حقيقة دعوتهم؛ وعن المفاصلة بينهم وبين قومهم وأهلهم على أساس العقيدة:
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه، إني لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم).
(قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟)..
(ونادى نوح ربه فقال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح) (إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين).
(وإلى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون..)
(وإلى ثمود أخاهم صالحا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب..)
(قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير..)
(وإلى مدين أخاهم شعيبا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...).
(قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا...).
وفي التعقيب ترد هذه الآيات عن حقيقة الدعوة وعن المفاصلة بين الناس على أساسها:
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء، ثم لا تنصرون)..
(ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله، فاعبده وتوكل عليه، وما ربك بغافل عما تعملون).
وهكذا تلتقي قطاعات السورة الثلاثة على تقرير هذه الحقيقة.
ولكي يدين الناس لله وحده بالربوبية، فإن السورة تتولى تعريفهم به سبحانه، وتقرر كذلك أنهم في قبضته في هذه الدنيا؛ وأنهم راجعون إليه يوم القيامة ليجزيهم الجزاء الأخير.. وتتوافى مقاطع السورة الثلاثة في تقرير هذه الحقيقة كذلك.
(ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه، ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، إنه عليم بذات الصدور. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين، وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا، ولئن قلت: إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين. ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن: ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون..)
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون)..
وفي قصص الرسل تجيء أمثال هذه التعريفات:
(إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ)..
(وإلى ثمود أخاهم صالحا. قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب..)
(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة. إن أخذه أليم شديد)..
(وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم، إنه بما يعملون خبير).
(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم، وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين).. وهكذا تتوافى قطاعات السورة الثلاثة كذلك على التعريف بحقيقة الألوهية وحقيقة الآخرة في سياقها. وهي لا تستهدف إثبات وجود الله -سبحانه- إنما تستهدف تقرير ربوبية الله وحده في حياة البشر، كما أنها مقررة في نظام الكون.. فقضية الألوهية لم تكن محل خلاف؛ إنما قضية الربوبية هي التي كانت تواجهها الرسالات؛ وهي التي كانت تواجهها الرسالة الأخيرة. إنها قضية الدينونة لله وحده بلا شريك؛ والخضوع لله وحده بلا منازع. ورد أمر الناس كلهم إلى سلطانه وقضائه وشريعته وأمره. كما هو واضح من هذه المقتطفات من قطاعات السورة جميعا.
وفي سبيل إنشاء تلك الحقائق الاعتقادية في الضمائر، وتثبيتها في النفوس، وتعميقها في الكيان البشري، وبث الحياة النابضة الدافعة فيها بحيث تستحيل قوة إيجابية موحية، مكيفة للمشاعر والتصورات والأعمال والحركات.. في سبيل إنشاء تلك الحقائق على هذا النحو وفي هذا المستوى يحتوي سياق السورة على شتى المؤثرات الموحية والإيقاعات التي تلمس أوتار الكيان البشري كلها في عمق واستجاشة، وهو يعرض هذه الحقائق ويفصلها..
يحتوي الكثير من الترغيب والترهيب.. الترغيب في خير الدنيا والآخرة لمن يستجيب لداعي الدينونة لله وحده بلا شريك، وما تحمله للبشرية من خير وصلاح ونماء.. والترهيب بالحرمان من خير الدنيا أو الآخرة؛ وبالعذاب في الدنيا أو في الآخرة لمن يعرضون عن هذا الداعي، ويسلكون طريق الطواغيت حيث يسلمونهم في الآخرة إلى جهنم، التي يقودون لها أتباعهم في الآخرة جزاء ما استسلم لقيادتهم هؤلاء الأتباع في الدنيا؛ ورضوا بالدينونة لهم دون الدينونة لله تعالى. وهذه نماذج من الترهيب والترغيب:
(...ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير، وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله. وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير. إلى الله مرجعكم، وهو على كل شيء قدير)..
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها، وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون)..
(أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة؟ أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون. أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء، يضاعف لهم العذاب، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون. أولئك الذين خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع، هل يستويان مثلا؟ أفلا تذكرون؟).
(ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين)... (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا، إن ربي على كل شيء حفيظ)..
(ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وملئه، فاتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد. يقدم قومه يوم القيامة، فأوردهم النار، وبئس الورد المورود. واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود!...)
ويحتوي السياق ذلك القصص الطويل الذي يصدق ذلك الترغيب والترهيب في حركة العقيدة على مدار التاريخ؛ من مصارع المكذبين ونجاة المؤمنين -على النحو الذي سبق في بعض المقتطفات- ويبرز مشهد الطوفان بصفة خاصة؛ ويبلغ نبض السورة أعلى مستواه في ثنايا هذا المشهد الكوني الفريد:
(وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، قال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه، ويحل عليه عذاب مقيم. حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك -إلا من سبق عليه القول- ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل. وقال: اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم. وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه -وكان في معزل- يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء! قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين. وقيل: يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء، وقضي الأمر واستوت على الجودي، وقيل: بعدا للقوم الظالمين... الخ... الخ... الخ...)
ويحتوي بعض صور النفس البشرية في مواجهة الأحداث الجارية بالنعماء والبأساء؛ فيرفع للمكذبين المستعجلين بالعذاب، المتحدين للنذر في استهتار.. يرفع لهم صور أنفسهم وهم في مواجهة ما يستعجلون به حين يحل بهم؛ وفي الحسرات التي تصيب أنفسهم على تقلب الأحداث بهم؛ وفوت النعمة وإفلاتها من أيديهم؛ وفي البطر والغرور والانخداع بكشف الضر وفيض النعمة من جديد:
(ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن: ما يحبسه؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم. وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة، ثم نزعناها منه، إنه ليئوس كفور. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن: ذهب السيئات عني، إنه لفرح فخور. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرة وأجر كبير...)
ويحتوي شيئا من مشاهد القيامة؛ وصور المكذبين فيها؛ ومواجهتهم لربهم الذي كذبوا بوحيه وتولوا عن رسله؛ وما يجدونه يومئذ من خزي؛ لا ينصرهم منه أرباب ولا شفعاء:
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم! ألا لعنة الله عى الظالمين! الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون. أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء، يضاعف لهم العذاب، ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، أولئك الذين خسروا أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون).
(إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود. وما نؤخره إلا لأجل معدود. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض -إلا ما شاء ربك- إن ربك فعال لما يريد. وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض -إلا ما شاء ربك- عطاء غير مجذوذ).
ومن المؤثرات التي ترتجف لها القلوب ما يصوره السياق من حضور الله سبحانه واطلاعه على ما يخفي البشر من ذوات الصدور؛ بينما هم غارون لا يستشعرون حضوره سبحانه، ولا علمه المحيط؛ ولا يحسون قهره للخلائق وإحاطته بها جميعا، وهم -الذين يكذبون- في قبضته كسائر الخلائق؛ من حيث لا يشعرون: (إلى الله مرجعكم، وهو على كل شيء قدير. ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه! ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، إنه عليم بذات الصدور. وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين)..
(إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم).
ومن المؤثرات الموحية في سياق السورة كذلك، استعراض موكب الإيمان. بقيادة الرسل الكرام، على مدار الزمان. وكل منهم يواجه الجاهلية الضالة بكلمة الحق الواحدة الحاسمة الجازمة، في صراحة وفي صرامة، وفي ثقة وطمأنينة ويقين.. وقد مر جانب من هذا الاستعراض في المقتطفات السابقة، والبقية ستأتي في موضعها في تفسير السورة. ومما لا شك فيه أن وحدة موقف الرسل الكرام، ووحدة الحقيقة التي يواجهون بها الجاهلية على مدار الزمان؛ ووحدة العبارات المحكية عنهم التي تتضمن هذه الحقيقة.. يحمل في طياته ما يحمل من قوة وإيقاع وإيحاء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يعرف لها اسم غير ذلك، وكذلك وردت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال: يا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت. رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة. وروي من طرق أخرى بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض.
وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله {ألا بعدا لعاد قوم هود}، وقد تقدم في تسمية سورة يونس وجه آخر للتسمية ينطبق على هذه وهو تمييزها من بين السور ذوات الافتتاح ب {الر}...
والأصح أنها كلها مكية وأن ما روي من أسباب النزول في بعض آيها توهم لاشتباه الاستدلال بها في قصة بأنها نزلت حينئذ كما يأتي، على أن الآية الأولى من هذه الثلاث واضح أنها مكية.
نزلت هذه السورة بعد سورة يونس وقبل سورة يوسف... ونقل ابن عطية في أثناء تفسير هذه السورة أنها نزلت قبل سورة يونس لأن التحدي فيها وقع بعشر سور وفي سورة يونس وقع التحدي بسورة، وسيأتي بيان هذا...
وأغراضها: ابتدأت بالإيماء إلى التحدي لمعارضة القرآن بما تومئ إليه الحروف المقطعة في أول السورة.
وبِاتِّلائها بالتنويه بالقرآن.
وبالنهي عن عبادة غير الله تعالى.
وبأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير للمشركين بعذاب يوم عظيم وبشير للمؤمنين بمتاع حسن إلى أجل مسمى.
والإعلام بأن الله مطلع على خفايا الناس.
وأن الله مدبر أمور كل حي على الأرض.
وأن مرجع الناس إليه، وأنه ما خلقهم إلا للجزاء.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته عما يقوله المشركون وما يقترحونه من آيات على وفق هواهم {أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك}.
وأن حسبهم آية القرآن الذي تحداهم بمعارضته فعجزوا عن معارضته فتبين خذلانهم فهم أحقاء بالخسارة في الآخرة.
وضرب مثل لفريقي المؤمنين والمشركين.
وذكر نظرائهم من الأمم البائدة من قوم نوح وتفصيل ما حل بهم وعاد وثمود، وإبراهيم، وقوم لوط، ومدين، ورسالة موسى، تعريضا بما في جميع ذلك من العبر وما ينبغي منه الحذر فإن أولئك لم تنفعهم آلهتهم التي يدعونهم.
وأن في تلك الأنباء عظة للمتبعين بسيرهم.
وأن ملاك ضلال الضالين عدم خوفهم عذاب الله في الآخرة فلا شك في أن مشركي العرب صائرون إلى ما صار إليه أولئك.
وانفردت هذه السورة بتفصيل حادث الطوفان وغيضه.
ثم عرض باستئناس النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته باختلاف قوم موسى في الكتاب الذي أوتيه فما على الرسول وأتباعه إلا أن يستقيم فيما أمره الله وأن لا يركنوا إلى المشركين، وأن عليهم بالصلاة والصبر والمضي في الدعوة إلى الصلاح فإنه لا هلاك مع الصلاح.
وقد تخلل ذلك عظات وعبر والأمر بإقامة الصلاة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومما ينبغي التنبيهُ إليه في هذا المقام أن كتاب الله لا يتناول الموضوع الواحد، ولاسيما قصص الأنبياء، عدة مرات لمجرد التَّكرار، بل إن عودته ما بين الحين والحين إلى تناول تلك القصص تتضمن عرض جانب جديد من جوانبها لم يسبق عرضه من قبلُ، مما يتناسب مع السياق والموضوع الجديد الذي وردت فيه القصة. قال أبو القاسم بن جزي صاحب "القوانين الفقهية "في كتابه {التسهيل لعلوم التنزيل}: "فإن قيل ما الحكمة في تَكرار قصص الأنبياء في القرآن، فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما فائدةٌ زائدة على الأخرى. الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضعَ على طريقة الإطناب، وفي مواضع على طريقة الإيجاز، لتَظهَر فصاحة القرآن في الطريقتين. الثالث: أن أخبار الأنبياء قُصِدَ بذِكرها مقاصدُ، فتعدُّد ذِكرها بتعدُّد تلك المقاصد، فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة ذكرت في مواضع كثيرة، "ولكل مقام مقال "انتهى...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} من الباطل، يعني آيات القرآن، {ثُمَّ فُصِّلَتْ}، يعني بَيّنتْ أمرَه ونهيَه وحدودَه وأمرَ ما كان وما يكون، {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ}، يقول: من عند حكيمٍ لأمره، {خَبِيرٍ} بأعمال الخلائق...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله:"الر" والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: "كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ "يعني: هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن. ورفع قوله: «كتابٌ» بنية: هذا كتاب...
وأما قوله: "أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالثواب والعقاب... وقال آخرون: معنى ذلك: أحكمت آياته من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام... وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدّخل والخلل والباطل، ثم فصلها بالأمر والنهي؛ وذلك أن إحكام الشيء إصلاحه وإتقانه، وإحكام آيات القرآن إحكامها من خلل يكون فيها أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قبله. وأما تفصيل آياته فإنه تمييز بعضها من بعض بالبيان عما فيها من حلال وحرام وأمر ونهي. وكان بعض المفسرين يفسر قوله: "فُصّلَتْ" بمعنى: فسرت، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول... وأما قوله: "مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" فإن معناه: حكيم بتدبير الأشياء وتقديرها، خبير بما يؤول إليه عواقبها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)... وقال بضعهم (أحكمت آياته) حتى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يملك أحد التبديل (ثم فصلت) بينت ما يؤتى، وما يتقى، أو بينت ما لهم، وما عليهم، وما لله عليهم...
وقيل: (فصلت) أي فرقت في الإنزال؛ أنزل شيء بعد شيء على قدر النوازل والأسباب؛ فلم ينزل جملة لأنه لو أنزل جملة لاحتاجوا أن يعرفوا لكل سببه وشأنه وخصوصه وعمومه، فإذا أنزل متفرقا في أوقات مختلفة على النوازل والأسباب عرفوا ذلك على غير إعلام ولا بيان. والتفصيل اسم التفريق واسم التبيين. وذلك يحتمل المعنيين جميعا، والله أعلم...
ثم الآيات تحتمل وجوها: أحدها: العبر، والثاني: الحجج، الثالث: العلامات. ثم الآية كل كلمة في القرآن تمت، فهي عبرة أو حجة أو علامة لا تخلو من أحد هذه الوجوه الثلاثة.
وقوله تعالى: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) من عند حكيم خبير جاءت هذه الآيات.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} قال ابن عباس: أُحْكِمَتْ آياتُه: لم تُنْسَخْ بكتابٍ كما نُسِخَت الكتبُ والشرائعُ بها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... قال مجاهد "أُحْكِمَتْ آياتُه "على وجه الجملة "ثم فُصِّلَتْ" أي بُيِّنَتْ بذِكرها آيةً آيةً.
والإحكام: منعُ الفعل من الفساد...
والحكمة: المعرفةُ بما يَمنع الفعل من الفساد والنقصِ وبها يُمَيَّزُ القبيحُ من الحَسَن والفاسدُ من الصحيح...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ومعنى {أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ}: أي حُفِظَتْ عن التبديل والتغيير،ثم فُصِّلتْ ببيان نُعوتِ الحقِّ فيما يَتّصف به من جلال الصَّمَدِيّة، وتَعَبَّد به الخَلْق من أحكام العبودية.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أُحْكِمَتْ ءاياتُه} نُظِمَتْ نَظْماً رصيناً مُحْكَماً لا يقع في نقْضٍ ولا خَلَلٍ، كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ... {ثُمّ فُصّلَتْ} كما تُفصل القلائد بالفرائد، من دلائل التوحيد، والأحكام، والمواعظ، والقصص. أو جُعلت فصولاً، سورةً سورةً، وآيةً آيةً، وفرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة...
فإن قلتَ: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول: هي مُحْكَمةٌ أحسَنَ الإِحكامِ، ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيلِ. وفلانٌ كريمُ الأصلِ، ثم كريمُ الفعلِ...
وقوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}...أي: من عنده إحكامها وتفصيلها... المعنى: أحكمها حكيم وفصلها: أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {أحكمت} معناه أتقنت وأجيدت... وبهذه الصفة كان القرآن في الأزل ثم فصل بتقطيعه وتنويع أحكامه وأوامره على محمد صلى الله عليه وسلم في أزمنة مختلفة ف {ثم} على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له. والكتاب بأجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب؛ وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى ولكن لا يقتضيه اللفظ... وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وابن كثير -فيما روي عنه -: «ثم فَصَلَت» بفتح الفاء والصاد واللام، ويحتمل ذلك معنيين: أحدهما: «فَصَلَت» أي نزلت إلى الناس كما تقول: فصل فلان لسفره ونحو هذا المعنى، والثاني فَصَلَت بين المحق والمبطل من الناس...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومعنى الإحكام: نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لَمّا خُتمت السورة التي قبلها... بالحَثّ على اتباع الكتاب ولزومِه والصبرِ على ما يَتعقَّب ذلك من مَرائر الضَّيْرِ المؤدية إلى مَفاوز الخَيْر اعتماداً على المتّصف بالجلال والكبرياء والكمال. ابتُدئت هذه بوصفه بما يُرغِّب فيه، فقال بعد الإشارة إلى إعادة القرَعْ بالتحدي على ما سلف في البقرة: {كِتَابٌ} أي عظيمٌ جامعٌ لكل خيرٍ، ثم وصفه بقوله: {أُحْكِمَتْ} بناه للمفعول بياناً لأن إحكامه أمرٌ قد فُرِغَ منه على أيسَر وجهٍ عنه سبحانه وأُتقِن إتقاناً لا مَزيد عليه {آياتُه}... ولَمّا كان للتفصيل رُتبةٌ هي في غاية العظمة، أتي بأداة التراخي فقال: {ثُمَّ} أي وبعد هذه الرتبة العالية التي لم يشاركه في مجموعها كتابٌ جُعلت له رتبةٌ أعلى منها جدّاً بحيث لم يشاركه في شيء منها كتابٌ وذلك أنه {فُصِّلَتْ} أي جُعلت لها... فواصلُ ونهاياتٌ تكون بها مُفارقة لِما بعدها وما قبلها، يُفهَم منها علومٌ جَمّةٌ ومعارفُ مهمّةٌ وإشاراتٌ إلى أحوالٍ عالية، ومواردَ عذبةٍ صافية، ومقاماتٍ من كل عِلّةٍ شافية...، وهذا التفصيل لم يشاركه في شيءٍ منه شيءٌ من الكتب السالفة، بل هي مُدمَجة إدماجاً لا فواصلَ لها كما يَعرف ذلك من طالَعها...
وما أنسَبَ ختامَ هذه الآية للإحكام والتفصيل بقوله: {مِنْ لَدُنْ} أي نَزلتْ آياتُه مُحْكَمةً مُفصَّلةً حالَ كونِها مبتدئِةً من حَضْرةٍ هي أغربُ الحَضَرات الكائنة من إلهٍ {حَكِيمٍ خَبِيرٍ} منتهيةً إليك وأنت أعلى الناسِ في كل وصفٍ فلذلك لا يُلحَق إحكامُها ولا تفصيلُها...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي إحكامُها وتفصيلُها من لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ بَناها على عِلمٍ وحِكمةٍ، لا يمكن أحسنُ منها، وأشدُّ إحكاماً. وخبيرٍ بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في تقديرها وتوقيتها وترتيبها قاله القاشاني...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{كتاب أحكمت آياته} أي هذا كتاب عظيم الشأن [كما أفاده التنوين] جعلت آياته محكمة النظم والتأليف، واضحة المعاني بليغة الدلالة والتأثير، فهي كالحصن المنيع، والقصر المشيد الرفيع، في إحكام البناء، وما يقصد به من الحفظ والإيواء مع حسن الرواء، فهي لظهور دلالتها على معانيها ووضوحها لا تقبل شكا ولا تأويلا، ولا تحتمل تغييرا ولا تبديلا، {ثم فصلت} أي جعلت فصولا متفرقة في سورة ببيان حقائق العقائد، والأحكام والحكم والمواعظ، وسائر ما أنزل الكتاب له من الفوائد، كما يفصل الوشاح أو العقد بالفرائد، فالأحكام والتفصيل فيه مرتبتان من مراتب البيان مجتمعتان، لا نوعان منه متفرقان يختلفان في الزمان، أو فصلت بعد الإجمال، كما ترى في القصص القصار والطوال، وقد أبهما ببناء فعليهما للمفعول، ثم بينا بجعلهما {من لدن حكيم خبير} وهو أبلغ من إسنادهما إليه ابتداء، أي من عند حكيم كامل الحكمة هو الذي أحكمها، وخبير تام الخبرة هو الذي فصلها، ولدن طرف مكان أخص من "عند "وأبلغ. وهو بفتح فضم [كعضد] مبني على السكون.
هذا ما يتبادر إلى فهم العربي القح من عبارة الآية، فإذا عرضته على ما جاء في القرآن من حرفي الأحكام والتفصيل وجدت فيه من الحرف الأول ثلاثة كلمات: الأولى قوله تعالى في سورة الحج {فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته} [الحج: 5]، والثانية: قوله تعالى في سورة القتال ويقولون {لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال} [محمد: 20] الآية، والثالثة قوله تعالى في سورة آل عمران {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] ووجدت الإحكام في كل منهن بالمعنى اللغوي الذي بيناه آنفا. وقد حمل المقلدون المحكم في الآية الثانية على ما يقابل المنسوخ في اصطلاحهم، فقالوا سورة محكمة غير منسوخة، وهذا الحمل غير صحيح وإن كان المراد منه صحيحا، فإن هذا الاصطلاح ليس من أصل اللغة ولا من عرف القرآن، بل وضع بعد عصر نزوله، والآية الأولى حجة على هذا، فإن النسخ فيها غير النسخ الأصولي، ولا يصح أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة غير منسوخة لا كلها ولا بعضها، لأن إنزال سورة منسوخة محال في نفسه، فلا معنى إذا لنفيه، وحملوه في الثالثة على ما يقابل المتشابه وهو صحيح، ولكنهم اختلفوا في معنى كل منهما وأشهر الأقوال عند أهل الكلام والأصول فيهما مخالف لمدلول اللغة وللمروي عن جمهور السلف الذي هو الحق.
قال السيد الجرجاني في الأول: المحكم ما أحكم المراد به عن التبديل والتغيير أي التخصيص والتأويل والنسخ، مأخوذ من قولهم: بناء محكم، أي متقن مأمون الانتقاض، وذلك مثل قوله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم} [التوبة: 115] والنصوص الدالة على ذات الله وصفاته لأن ذلك لا يحتمل النسخ، فإن اللفظ إذا ظهر منه المراد فإن لم يحتمل النسخ فهو محكم، وإلا فإن لم يحتمل التأويل فمفسر، وإلا فإن سيق الكلام لأجل ذلك المراد فنص، وإلا فظاهر، وإذا خفي لعارض أي لغير الصيغة فخفي، وإن خفي لنفسه أي لنفس الصيغة وأدرك عقلا فمشكل، أو نقلا فمجمل، أو لم يدرك أصلا فمتشابه اه. وقال في الثاني: المتشابه ما خفي بنفس اللفظ ولا يرجى دركه أصلا، كالمقطعات في أول السور، وقال التاج السبكي في جمع الجوامع: والمتشابه ما استأثر الله بعلمه وقد يطلع عليه بعض أصفيائه. اه.
وكلا القولين خطأ كما يعلم مما فسرنا به الآية في الجزء الثاني.
وقال السيد في تعريف التأويل: هو في الأصل الترجيح وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقا بالكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {يخرج الحي من الميت} [الأنعام: 95] إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلا اه. وقال التاج السبكي: الظاهر ما دل دلالة ظنية، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل لدليل أو لما يظن دليلا ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل. ه.
هذا الاصطلاح المفصل لهذه الكلمات فيه ما ترى –في كتب الأصول- من قيل وقال، ومذاهب وجدال، وهو ما لم يكن يخطر في بال أحد من العرب عند قراءتها في كتاب الله تعالى، بل كانوا يفهمونها بمدلولها اللغوي المحض، فأما المحكم فهو ما تقدم.
وأما التفصيل في الآية فقد جاء مكررا في أكثر من عشرين موضعا من عشر سور مكية، وفي موضع واحد من سورة التوبة المدنية، وأكثر في تفصيل الآيات القرآنية والعقلية، وبعضها في تفصيل الكتاب، وبعض آخر في تفصيل الأحكام، ونوع آخر أعم وهو [تفصيل كل شيء] أي ما يتعلق بهداية الدين، وإصلاح أمور المكلفين، وكلها داخل في المعنى اللغوي الذي حررناه.
بقي علينا المأثور في الكلمتين عن مفسري السلف، وهو قليل مختصر، فعن ابن زيد في هذه السورة [قال]: إنها كلها مكية محكمة، وإن التفصيل فيها هو الحكم بين محمد صلى الله عليه وسلم ومن خالفه في قوله تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم} [هود: 24] الآية، ثم ذكر قوم نوح وقوم هود قال: فكان هذا تفصيل ذلك وكان أوله محكما اه بالمعنى وحاصله أن المحكم المجمل وأن المفصل ما يقابله بالمعنى اللغوي فيهما...
والقول الجامع أن تفصيل الإجمال في القرآن قسمان: الأول تفصيل أصول العقائد وكليات التشريع العامة، وأكثره في السور المكية، كما بيناه متفرقا ثم مجملا في تفسير ما تقدم تفسيره منها، وهو الأنعام والأعراف ويونس، والثانية ما يعم تفصيل الأحكام العملية من العبادات والمعاملات السياسية والمدنية والحربية كما بيناه في السور المدنية الطوال المتقدمة أيضا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
"مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ" يَضع الأشياءَ مَواضعَها، ويُنزلها مَنازلَها، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمتُه، {خَبِيرٌ} مُطَّلِعٍ على الظواهر والبواطن. فإذا كان إحكامُه وتفصيلُه من عند الله الحكيم الخبير، فلا تَسألْ بعد هذا، عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحِكمة، وسَعةِ الرَّحمة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... أحكمت آياته، فجاءت قوية البناء، دقيقة الدلالة، كل كلمة فيها وكل عبارة مقصودة، وكل معنى فيها وكل توجيه مطلوب، وكل إيماءة وكل إشارة ذات هدف معلوم. متناسقة لا اختلاف بينها ولا تضارب، ومنسقة ذات نظام واحد. ثم فصلت. فهي مقسمة وفق أغراضها، مبوبة وفق موضوعاتها، وكل منها له حيز بمقدار ما يقتضيه.
أما من أحكمها، ومن فصلها على هذا النحو الدقيق؟ فهو الله سبحانه، وليس هو الرسول: (من لدن حكيم خبير)..
يحكم الكتاب عن حكمة، ويفصله عن خبرة.. هكذا جاءت من لدنه، على النحو الذي أنزل على الرسول، لا تغيير فيها ولا تبديل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإحكام: إتقان الصنع، مشتق من الحِكْمة بكسر الحاء وسكون الكاف. وهي إتقان الأشياء بحيث تكون سالمة من الأخلال التي تعرض لنوعها، أي جعلت آياته كاملة في نوع الكلام بحيث سلمت من مخالفة الواقع ومن أخلال المعنى واللفظ. وتقدم عند قوله تعالى: {منه آيات محكمات} في أول سورة [آل عمران: 7]. وبهذا المعنى تنبىء المقابلة بقوله: {من لدن حكيم}.
وآيات القرآن: الجمل المستقلة بمعانيها المختتمة بفواصل. وقد تقدم وجه تسمية جمل القرآن بالآيات عند قوله تعالى: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} في أوائل سورة [البقرة: 39]، وفي المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
والتفصيل: التوضيح والبيان. وهو مشتق من الفَصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه، فصار كناية مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} في سورة [الأنعام: 55].
ونظيره: الفرق، كنى به عن البيان فسمي القرآن فُرقاناً. وعن الفصل فسمي يوم بَدر يوم الفرقان، ومنه في ذكر ليلة القدر {فيها يُفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4].
و (ثُم) للتراخي في الرتبة كما هو شأنها في عطف الجمل لما في التفصيل من الاهتمام لدى النفوس لأن العقول ترتاح إلى البيان والإيضاح.
و {من لدن حكيم خبير} أي من عند الموصوف بإبداع الصنع لحكمته، وإيضاح التبيين لقوة علمه. والخبير: العالم بخفايا الأشياء، وكلما كثرت الأشياء كانت الإحاطة بها أعز، فالحكيم مقابل ل {أحْكمتْ}، والخبير مقابل ل {فُصّلتْ}. وهما وإن كانا متعلّق العلم ومتعلّق القدرة إذ القدرة لا تجري إلا على وفق العلم، إلا أنه روعي في المقابلة الفعلُ الذي هو أثرُ إحدى الصفتين أشدُّ تبادُراً فيه للناس من الآخر وهذا من بليغ المزاوجة.
... الإحكام لا يتناقض مع التفصيل؛ لأن الحق سبحانه هو الذي أحكم، وهو سبحانه الذي فصّل، وهو سبحانه حكيم بما يناسب الإحكام، وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل، بطلاقة غير متناهية.
وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء محكما لا يتطرق إليه فساد، وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا الأمور.
...إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}: يبين لنا أن القرآن كلام الله القدير الذي بني على الإحكام، ونزل محكما جملة واحدة، ثم جاءت الأحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجوما مفصلة تناسب كل حدث. وإحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية، هي الغاية من المنهج كله، ويبيّنها الحق سبحانه في الآية التالية: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير}...