تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا } فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه ، وألقي شبهه على غيره ، فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه ، وباؤوا بالإثم العظيم بنيتهم أنه رسول الله ، قال الله { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } وفي هذه الآية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة ، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة بالقبول والإيمان والتسليم ، وكان الله عزيزا قويا قاهرا ، ومن عزته أن كف بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه السلام ، كما قال تعالى { وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } حكيم يضع الأشياء مواضعها ، وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل ، فوقعوا في الشبه كما قال تعالى { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا } ثم قال تعالى : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } وتقدم أن الله أيد المؤمنين منهم على الكافرين ، ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلام لم يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود ، حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة ، فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار ، وإنما يحصل في بعض الأزمان إدالة الكفار من النصارى وغيرهم على المسلمين ، حكمة من الله وعقوبة على تركهم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم { ثم إلي مرجعكم } أي : مصير الخلائق كلها { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } كل يدعي أن الحق معه وأنه المصيب وغيره مخطئ ، وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

33

لقد أرادوا صلب عيسى - عليه السلام - وقتله . وأراد الله أن يتوفاه ، وأن يرفعه إليه ، وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس ، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . وكان ما أراده الله . وأبطل الله مكر الماكرين :

( إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) .

فأما كيف كانت وفاته ، وكيف كان رفعه . . فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله . ولا طائل وراء البحث فيها . لا في عقيدة ولا في شريعة . والذين يجرون وراءها ، ويجعلونها مادة للجدل ، ينتهي بهم الحال إلى المراء ، وإلى التخليط ، وإلى التعقيد . دون ما جزم بحقيقة ، ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله .

وأما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . فلا يصعب القول فيه . فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح . . الإسلام . . الذي عرف حقيقته كل نبي ، وجاء به كل رسول ، وآمن به كل من آمن حقا بدين الله . . وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله . . كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان ، وحقيقة الأتباع . . ودين الله واحد . وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول . والذين يتبعون محمدا [ ص ] هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم . من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر الزمان .

وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة ، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق .

فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين ، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام :

( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

قال الطبري : العامل في { إذ } قوله تعالى { ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] وقال غيره من النحاة : العامل فعل مضمر تقديره اذكر .

قال القاضي أبو محمد : هذا هو الأصوب ، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم ، و { عيسى } اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية - ايسوع - عدلته العرب إلى { عيسى } واختلف المفسرون في هذا التوفي ، فقال الربيع : هي وفاة نوم ، رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق{[3205]} ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء : المعنى أني قابضك من الأرض ، ومحصلك فى السماء فهو توفى قبض وتحصيل ، وقال ابن عباس هى وفاة موت ، معناه أنى مميتك ، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك ، عنده في السماء وفي بعض الكتب ، سبع ساعات ، وقال الفراء : هي وفاة موت ولكن المعنى ، { إني متوفيك } في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، وقال مالك في جامع العتبية : مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة{[3206]} ، ووقع في كتاب مكي عن قوم : أن معنى { متوفيك } متقبل عملك ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ .

قال القاضي أبو محمد : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة ، وقيل أربعين سنة ، ثم يميته الله تعالى{[3207]} .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فقول ابن عباس رضي الله عنه : هي وفاة موت لا بد أن يتمم ، إما على قول وهب بن منبه ، وإما على قول الفراء ، وقوله تعالى : { ورافعك إليّ } عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله { إلى } إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة ، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة ، وقوله تعالى : { ومطهرك } حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه ، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم ، تشبيهاً لذلك كله بالأدناس ، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له ، وقوله تعالى : { وجاعل } اسم فاعل للاستقبال ، وحذف تنوينه تخفيفاً ، وهو متعد إلى مفعولين ، لأنه بمعنى مصيَّر فأحدهما { الذين } والآخرة في قوله : { فوق الذين كفروا } وقال ابن زيد : الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود ، والآية مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة .

قال القاضي أبو محمد : فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكماً دنيوياً لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط ، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى ، نص على ذلك قتادة وغيره ، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين ، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة ، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله ، وقوله تعالى { ثم إليّ مرجعكم } الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له : { ثم إلي } ، أي إلى حكمي وعدلي ، يرجع الناس ، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى ، وفي قوله تعالى : { فأحكم } إلى آخر الآية ، وعد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين .


[3205]:- هو مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء الخراساني السلمي، مولى علي، سكن البصرة وروى عن أنس وعكرمة وعطاء وحميد بن هلال وغيرهم، وعنه إبراهيم بن طهمان، وابنه هلال الراسبي، وعبد الله بن شوذب، ومعمر الدستوائي، وغيرهم، روي أن المنصور قتله (تهذيب التهذيب 10/167).
[3206]:-وأخرج ابن سعد، وأحمد في الزهد، والحاكم- عن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وأخرج ابن عساكر، عن وهب مثله. "فتح القدير للشوكاني" 1/315.
[3207]:- أخرجه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد، وأبو داود، وابن جرير-عن أبي هريرة. وبوّب ابن كثير لنزوله في تفسيره عند قوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} الآية، والحديث ورد بطرق. وذكر في فتح القدير للشوكاني: 1/497 أنه أفرد للأحاديث الواردة في نزول عيسى عليه السلام مؤلفا مستقلا.