ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله ، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين ، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم ، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور ، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها ، من التعاون على البر والتقوى ، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه ، ولو أدى إلى الضرر العام ، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا ، ويأخذ بعضكم مال بعض ، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا ، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال ، وكانوا في شر عظيم ، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد ، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض ، ولهذا قال : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي : قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { كذلك يبين الله لكم آياته } أي : يوضحها ويفسرها ، ويبين لكم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل به ، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة ، وليزيدهم من فضله وإحسانه ، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها .
فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله ، على منهج الله ، لتحقيق منهج الله :
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) . .
فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى . . أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة !
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . .
هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية " أعداء " . . وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ، ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا .
وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله ، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .
( واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا )
ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها ، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا - الركيزة الثانية - :
( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) .
والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط : " القلب " . . فلا يقول : فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق : ( فألف بين قلوبكم ) فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب : ( وكنتم على شفا حفرة من النار ) . . وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة ، إذا بالقلوب ترى يد الله ، وهي تدرك وتنقذ ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب ! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة ، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال !
وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلا معه ، وأمره أن يجلس بينهم ، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم " بعاث " ! وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى " الحرة " . . فبلغ ذلك النبي [ ص ] فأتاهم ، فجعل يسكنهم ، ويقول : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم .
وكذلك بين الله لهم فاهتدوا ، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية :
( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) .
فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه ، القائمين على منهجه ، لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة ، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين ، الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .
على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة ، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ، ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم ، في كل مكان !
{ واعتصموا بحبل الله جميعا } بدين الإسلام ، أو بكتابه لقوله عليه السلام : " القرآن حبل الله المتين " . استعار له الحبل من حيث أن التمسك به سبب للنجاة من الردي ، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز . { جميعا } مجتمعين عليه { ولا تفرقوا } أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب ، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة . { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل . { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية متقاتلين . { فألف بين قلوبكم } بالإسلام . { فأصبحتم بنعمته إخوانا } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم . { وكنتم على شفا حفرة من النار } مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار . { فأنقذكم منها } بالإسلام ، والضمير للحفرة ، أو للنار أو للشفا . وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة ، وأصله شفو فقلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث . { كذلك } مثل ذلك التبيين . { يبين الله لكم آياته } دلائله . { لعلكم تهتدون } إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه .