{ 16 - 17 } { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
أي : قال إبليس - لما أبلس وأيس من رحمة اللّه - { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي : للخلق { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : لألزمن الصراط ولأسعى غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه .
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث - وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل - أنه سيرد على تقدير الله له الغواية وإنزالها به ، بسبب معصيته وتبجحه ؛ بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله ، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده ! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه :
( لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) . .
إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم ، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه - والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً ، فالله سبحانه جل عن التحيز ، فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله –
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }{[11590]} واستوثق إبليس بذلك ، أخذ في المعاندة والتمرد ، فقال : { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : كما أغويتني .
قال ابن عباس : كما أضللتني . وقال غيره : كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : طريق الحق وسبيل النجاة ، ولأضلنهم{[11591]} عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي .
وقال بعض النحاة : الباء هاهنا قسمية ، كأنه يقول : فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم .
قال مجاهد : { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } يعني : الحق .
وقال محمد{[11592]} بن سوقة ، عن عون بن عبد الله : يعني طريق مكة .
قال ابن جرير : والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك [ كله ]{[11593]} .
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا أبو عَقِيل - يعني الثقفي عبد الله بن عقيل - حدثنا موسى بن المسيب ، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟ " . قال : " فعصاه وأسلم " . قال : " وقعد له بطريق{[11594]} الهجرة فقال : أتهاجر وتدع{[11595]} أرضك وسماءك ، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل ؟ فعصاه وهاجر ، ثم قعد له بطريق{[11596]} الجهاد ، وهو جهاد النفس والمال ، فقال : تقاتل فتقتل ، فتنكح المرأة ويقسم المال ؟ " . قال : " فعصاه ، فجاهد " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن فعل ذلك منهم{[11597]} فمات ، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان{[11598]} حقا على الله ، عز وجل ، أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو{[11599]} وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة " {[11600]} .
{ قال فبما أغويتني } أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية ، أو حملا على الغي ، أو تكليفا بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم : { لأقعدن لهم } ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة . { صراطك المستقيم } طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله :
الفاء للتّرتيب والتسبب على قوله : { إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 13 ] ثمّ قولِه { إنك من المنظرين } [ الأعراف : 15 ] .
فقد دلّ مضمون ذينك الكلامين أنّ الله خلق في نفس إبليس مَقدرة على إغواء النّاس بقوله : { إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 13 ] وإنّه جعله باقياً متصرّفاً بقواه الشرّيرة إلى يوم البعث ، فأحسّ إبليس أنّه سيكون داعية إلى الضّلال والكفر ، بجبلةٍ قَلَبه الله إليها قَلْباً وهو من المَسخ النّفساني ، وإنّه فاعل ذلك لا محالة مع علمه بأنّ ما يصدر عنه هو ضلال وفساد ، فصدور ذلك منه كصدور النّهش من الحيّة ، وكتحرّك الأجفان عند مرور شيء على العين ، وإن كان صاحب العين لا يريد تحريكهما .
والباء في قوله : { فبما أغويتني } سببيْة وهي ظرف مستقِر واقع موقع الحال من فاعل { لأقعدن } ، أي أقسم لهم حال كون ذلك مني بسبب إغوائك إياي . واللاّم في { لأقعدن } لام القسم : قصد تأكيد حصول ذلك وتحقيق العزم عليه .
وقدم المجرور على عامله لإفادة معنى التّعليل ، وهو قريب من الشّرط فلذلك استحقّ التّقديم فإنّ المجرور إذا قُدم قد يفيد معنى قريباً من الشرطيّة ، كما في قول النّبي صلى الله عليه وسلم " كما تكونوا يُوَلَّى عليكم " وفي رواية جزم تكونوا مع عدم معاملة عامله معاملة جواب الشّرط بعلامة الجزم فلم يرو « يولى » إلاّ بالألف في آخره على عدم اعْتبار الجزم . وذلك يحصل من الاهتمام بالمتعلِّق ، إذ كان هو السّبب في حصول المتعلَّق به ، فالتّقديم للاهتمام ، ولذلك لم يكن هذا التّقديم منافياً لتصدير لام القسم في جملتها ، على أنّا لا نلتزم ذلك فقد خولف في كثير من كلام العرب . وما مصدريّة ، والقعود كناية عن الملازمة كما في قول النّابغة :
قُعوداً لدى أبياتهم يَثْمدونهم *** رمَى اللَّهُ في تلك الأكُف الكوانع
أي ملازمين أبياتاً لغيرهم يُرِد الجلوس ، إذ قد يكونون يسألون واقفين ، وماشين ، ووجه الكناية هو أنّ ملازمة المكان تستلزم الإعياء من الوقوف عنده ، فيقعد الملازم طلباً للرّاحة ، ومن ثم أطلق على المستجير اسم القَعيد ، ومن إطلاق القعيد على الملازم قوله تعالى : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } [ ق : 17 ] أي ملازم إذ الملَك لا يوصف بقعود ولا قيام .
ولمّا ضمن فعل : { لأقعدن } معنى الملازمة انتصب { صراطك } على المفعولية ، أو على تقدير فعل تضمّنه معنى لأقعدن تقديره : فامْنَعَنّ صراطك أو فَأقْطَعَنّ عنهم صراطك ، واللاّم في لهم للأجل كقوله : { واقعدوا لهم كل مرصد } [ التوبة : 5 ] .
وإضافة الصّراط إلى اسم الجلالة على تقدير اللاّم أي الصّراط الذي هو لك أي الذي جعلته طريقاً لك ، والطّريق لله هو العمل الذي يحصل به ما يرضي الله بامتثال أمره ، وهو فعل الخيرات ، وترك السيّئات ، فالكلام تمثيلُ هيئة العازمين على فعل الخير ، وعزمهم عليه ، وتعرّض الشّيطان لهم بالمنع من فعله ، بهيئة السّاعي في طريق إلى مقصد ينفعه وسعيه إذا اعترضه في طريقه قاطع طريق منعه من المرور فيه .
والضّمير في { لهم } ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة ، التي اختصرت هنا اختصاراً دعا إليه الاقتصار على المقصود منها ، وهو الامتنان بنعمة الخلق ، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس ، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليَعْمر به وبنسله الأرضَ ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] فالأرض مخلوقة يومئذ ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكةَ فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا : وهو قوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } الآية وقد دلّت آية سورة الْحِجْر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواءَ أهل الأرض في قوله تعالى : { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة ، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين ، وإن كان آدم قد خُلق في جنّة من جنّات الأرض فالأمر ظاهر ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة .
وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس عَلِم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفععِ ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال ، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد ، فلذلك سُمِّيت أعمال الخير ، في حكاية كلام إبليس ، صراطاً مستقيماً ، وإضافه إلى ضمير الجلالة ، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه ، ولذلك أيضاً ألزم { لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم } .
وبهذا الاعتبار كان إبليس عدواً لبني آدم ، لأنّه يطلب منهم ما لم يُخلقوا لأجله وما هو مناففٍ للفطرة التي فطر الله عليها البشر ، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير ، وذلك ما أفصح عنه الجَعل الإلهي المشار إليه بقوله : { بعضكم لبعض عدو } [ البقرة : 36 ] ، وبه سيتّضح كيف انقلبت العداوة ولاية بين الشّياطين وبين البشر الذين استحبُّوا الضّلال والكفر على الإيمان والصّلاح .
قال الله تعالى : { إنك من المنظرين } أي إنّك من المخلوقات الباقية .