{ 16 ْ } { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ }
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد ما أمرهم بالجهاد : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ْ } من دون ابتلاء وامتحان ، وأمر بما يبين به الصادق والكاذب .
{ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ْ } أي : علما يظهر مما في القوة إلى الخارج ، ليترتب عليه الثواب والعقاب ، فيعلم الذين يجاهدون في سبيله : لإعلاء كلمته { وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ْ } أي : وليا من الكافرين ، بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء .
فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم ، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه ، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين .
{ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ْ } أي : يعلم ما يصير منكم ويصدر ، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه ، ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها .
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف ، أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة ، مرهوبة الجانب ، عزيزة الجناب .
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة ، إلا وعدا واحدا : هو الجنة . ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا : هو الصبر . . فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب ، آتاها الله النصر ؛ وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة ، وأن تنبذ عهود المشركين كافة ؛ وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا . . لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا و الخبايا ، ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة ، والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب ، ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . . لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير ، وإعلان المفاصلة للجميع ، لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة ، ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين ، في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة : ( أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ، والله خبير بما تعملون ) .
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة ، وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة ، وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة ، مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة ، وكشفت المداخل والمسارب للأنظار .
وإنه لمن مصلحة الجماعة ، ومن مصلحة العقيدة ، أن تهتك الأستار وتكشف الولائج ، وتعرف المداخل ، فيمتاز المكافحون المخلصون ، ويكشف المداورون الملتوون ، ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته ، وإن كان الله يعلمهم من قبل :
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف ، وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ } أيها المؤمنون أن نترككم مهملين ، لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ؟ ولهذا قال : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي : بطانة ودخيلة{[13287]} بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله ، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر ، كما قال الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضا *** أريد الخير أيهما يليني
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : { [ الم ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } {[13288]} [ العنكبوت : 1 - 3 ] وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ]
وقال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [ آل عمران : 179 ]
والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة ، وهو اختبار{[13289]} عبيده : من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؟ فيعلم الشيء قبل كونه ، ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه .
{ أم حسبتم } خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال ، وقيل للمنافقين و{ أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان . { أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم ، نفى العلم وأراد نفي المعلوم لمبالغة فإن كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه . { ولم يتخذوا } عطف على { جاهدوا } داخل في الصلة . { من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم . وما في { لما } من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع . { والله خبير بما تعملون } يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله : { ولما يعلم الله } .
{ أم } في هذه الآية ليست المعادلة ، وإنما هي المتوسطة في الكلام ، وهي عند سيبويه التي تتضمن إضراباً عن اللفظ لا عن معناه ، واستفهاماً فهي تسد مسد بل وألف الاستفهام ، وهي التي في قولهم : «أنها لإبل أم شاء » التقدير بل أهي شاء ، وقوله { أن تتركوا } يسد عند سيبويه مسد مفعولي «حسب » ، وقال المبرد : «أن » وما بعدها مفعول أول والثاني محذوف .
قال القاضي أبو محمد : كان تقديره مهملين أو سدى ونحو ذلك ، وقوله { ولما } هي دخلت على لم وفيها مبالغة ، ومعنى الآية أظننتم أن تتركوا دون اختبار وامتحان ؟ ف { لما } في هذه الآية بمنزلة قول الشاعر [ الفرزدق ] : [ الطويل ]
بأيدي رجال لم َيشيموا سيوفهم*** ولم تكثر القتلى بها حين سُلَّتِ{[5552]}
قال القاضي أبو محمد : والمراد بقوله { ولما يعلم } لما يعلم ذلك موجوداً كما علمه أزلاً بشرط الوجود ولما يظهر فعلكم واكتسابكم الذي يقع عليه الثواب والعقاب ففي العبارة تجوز وإلا فحتم أنه قد علم الله في الأزل الذين وصفهم بهذه الصفة مشروطاً وجودهم ، وليس يحدث له علم{[5553]} تبارك وتعالى عن ذلك ، و { وليجة } معناه بطانة ودخيلة ، وقال عبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ]
ولائجهم في كل مبدىً ومحضر*** إلى كل من يرجى ومن يتخوفُ{[5554]}
وهو مأخوذ من الولوج ، فالمعنى أمراً باطناً مما ينكره الحق ، وهذه الآية مخاطبة للمؤمنين معناها أنه لا بد من اختبارهم فهي كقوله { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم }{[5555]} وكقوله { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }{[5556]} وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عندما فرض القتال ، وقرأ جمهور الناس «والله خبير بما تعملون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الحكاية عن الغائب .
{ أم } منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر .
والكلام بعد { أم } المنقطعة له حكم الاستفهام دائماً ، فقوله : { حسبتم } في قوة ( أحسبتم ) والاستفهام المقدّر إنكاري .
والخطاب للمسلمين ، على تفاوت مراتبهم في مدّة إسلامهم ، فشمل المنافقين لأنّهم أظهروا الإسلام .
وحسبتم : ظننتم . ومصدر حسب ، بمعنى ظنّ الحِسبان بكسر الحاء فأمّا مصدر حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء .
والترك افتقاد الشيء وتعهّدِه ، أي : أن يترككم الله ، فحُذف فاعل الترك لظهوره .
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلّق : من حال أو مجرور ، يدلّ على الحالة التي يفارق فيها التاركُ متروكه ، كقوله تعالى : { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 2 ] ومثل قول عنترة :
وقول كبشة بنت معد يكرب ، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صَعْدة من بلاد اليمن :
وأُتْرَك في بيتتٍ بصَعْدة مُظْلِم
وحذف متعلِّق { تتركوا } في الآية : لدلالة السَياق عليه ، أي أن تتركوا دون جهاد ، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة .
والمعنى : كيف تحسبون أن تتركوا ، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله .
وجملة { ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم } إلخ في موضع الحال من ضمير { تتركوا } أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلّق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد ، وحصول تثاقل من تثاقلوا ، وحصول ترك الجهاد من التاركين .
و { لمّا } حرف للنفي ، وهي أخت ( لم ) . وقد تقدّم بيانها ، والفرق بينها وبين ( لم ) عند قوله تعالى : { ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [ البقرة : 214 ] وقوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } في سورة آل عمران } ( 142 ) .
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا : علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم ، وهو من تعلّق العلم الإلهي بالأمور الواقعة ، وهو أخصّ من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع ، ويجدر أن يوصف بالتعلّق التنجيزي وقد تقدّم شيء من ذلك عند قوله تعالى : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } في سورة آل عمران ( 142 ) .
و ( الوليجة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي الدخيلة ، وهي الفَعلة التي يخفيها فاعلها ، فكأنّه يُولجها ، أي يُدخلها في مكمن بحيث لا تظهر ، والمراد بها هنا : ما يشمل الخديعة وإغراء العدوّ بالمسلمين ، وما يشمل اتّخاذ أولياء من أعداء الإسلام يُخلص إليهم ويفضَى إليهم بسر المسلمين ، لأنّ تنكير وليجة } في سياق النفي يعمّ سائر أفرادها .
و { من دون الله } متعلّق ب { وليجة } في موضع الحال المبيّنة .
و { من } ابتدائية ، أي وليجة كائِنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبْدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين .
وجملة { والله خبير بما تعملون } تذييل لإنكار ذلك الحسبان ، أي : لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأنّ الله خبير بكلّ ما تعملونه .