تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

{ 4 - 5 } { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لما عظم تعالى أمر الزاني{[557]}  بوجوب جلده ، وكذا رجمه إن كان محصنا ، وأنه لا تجوز مقارنته ، ولا مخالطته على وجه لا يسلم فيه العبد من الشر ، بين تعالى تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزنا فقال : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ْ } أي : النساء الأحرار العفائف ، وكذاك الرجال ، لا فرق بين الأمرين ، والمراد بالرمي الرمي بالزنا ، بدليل السياق ، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا ْ } على ما رموا به { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ْ } أي : رجال عدول ، يشهدون بذلك صريحا ، { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ْ } بسوط متوسط ، يؤلم فيه ، ولا يبالغ بذلك حتى يتلفه ، لأن القصد التأديب لا الإتلاف ، وفي هذا تقدير حد القذف ، ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصنا مؤمنا ، وأما قذف غير المحصن ، فإنه يوجب التعزير .

{ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ْ } أي : لهم عقوبة أخرى ، وهو أن شهادة القاذف غير مقبولة ، ولو حد على القذف ، حتى يتوب كما يأتي ، { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ْ } أي : الخارجون عن طاعة الله ، الذين قد كثر شرهم ، وذلك لانتهاك ما حرم الله ، وانتهاك عرض أخيه ، وتسليط الناس على الكلام بما تكلم به ، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان ، ومحبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ، وهذا دليل على أن القذف من كبائر الذنوب .


[557]:- في أ: الزنا، وفي ب: الكلمة مشطوبة.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

لذلك يعقب على حد الزنا بعزل الزناة عن جسم الأمة المسلمة . ثم يمضي في الطريق خطوة أخرى في استبعاد ظل الجريمة من جو الجماعة ؛ فيعاقب على قذف المحصنات واتهامهن دون دليل أكيد :

( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا . وأولئك هم الفاسقون ) . .

إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات - وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا - بدون دليل قاطع ، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء ؛ ثم يمضي آمنا ! فتصبح الجماعة وتمسي ، وإذا أعراضها مجرحة ، وسمعتها ملوثة ؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام ؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه ، وكل رجل فيها شاك في أصله ، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار . . وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق .

ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث ؛ وأن الفعلة فيها شائعة ؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها ، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها ، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها !

ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه ؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء .

لهذا ، وصيانة للأعراض من التهجم ، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم . . شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف ، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا . . ثمانين جلدة . . مع إسقاط الشهادة ، والوصم بالفسق . . والعقوبة الأولى جسدية . والثانية أدبية في وسط الجماعة ؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة ، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام ! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم . . ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل ، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه . فيكون قوله إذن صحيحا . ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة .

والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه ، وعدم التحرج من الإذاعة به ، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها ، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة . وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء ؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا ، ليس في هذا نزاع بين العلماء . فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله ، رُدّ عنه الحد ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ، فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على صحة ما قاله ثلاثة أحكام :

أحدها : أن يجلد ثمانين جلدة .

الثاني : أنه{[20796]} ترد شهادته دائما .

الثالث : أن يكون فاسقًا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس .


[20796]:- في ف : "أن".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .

يقول تعالى ذكره : والذين يَشْتُمون العفائف من حرائر المسلمين ، فيرمونهنّ بالزنا ، ثم لم يأتوا على ما رمَوْهن به من ذلك بأربعة شهداء عُدول يشهدون عليهنّ أنهنّ رأوهنّ يفعلن ذلك ، فاجلدوا الذين رمَوْهنّ بذلك ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها .

وذُكر أن هذه الآية إنما نزلت في الذين رموا عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رموها به من الإفك . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب وإبراهيم بن سعيد ، قالا : حدثنا ابن فضيل ، عن خَصِيف ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : الزنا أشدّ ، أو قذف المحصنة ؟ قال : لا ، بل الزنا . قلت : إن الله يقول : والّذِين يَرْمُونَ المُحْصَناتِ قال : إنما هذا في حديث عائشة خاصة .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . الآية في نساء المسلمين .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأُولَئكَ هُمُ الفاسقونَ قال : الكاذبون .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

{ والذين يرمون المحصنات } يقذفونهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإحصان ، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } والقذف بغيره مثل يا ( . . . ) يا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن ، والإحصان ها هنا بالحرية والبلوغ والعقل والإسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى ، وتخصيص { المحصنات } لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع ، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الآداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافا لأبي حنيفة ، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده ، { ولا تقبلوا لهم شهادة } أي شهادة كانت لأنه مفتر ، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافا لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جوابا للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة ، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده . { أبدا } ما لم يتب ، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره . { وأولئك هم الفاسقون } المحكوم بفسقهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والذين يرمون المحصنات} يعني: نساء المؤمنين بالزنا، {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} من الرجال على قولهم، {فاجلدوهم ثمانين جلدة} يجلد بين الضربين على ثيابه {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} ما دام حيا {وأولئك هم الفاسقون}، يعني: العاصين في مقالتهم.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

يحيى: عن مالك، أنه بلغه عن سليمان بن يسار وغيره، أنهم سئلوا: عن رجل جلد الحد أتجوز شهادته؟ فقالوا: نعم. إذا ظهرت منه التوبة...

قال مالك: فالأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الحد ثم تاب وأصلح. تجوز شهادته. وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك...

ابن أبي زيد قال مالك: والإحصان: إحصان عفاف في الإسلام بالحرية، وإحصان نكاح وقول الله تعالى: {يرمون المحصنات ثم لم يأتوا} فهذا إحصان في الحرائر المسلمات، فمن قذفهن من مسلم أو ذمي ذكر أو أنثى جلد ثمانين جلدة، وعلى العبد أربعين، ذكرا أو أنثى مسلما أو ذميا، ولا يحصن إلا وطء صحيح..

تفسير الشافعي 204 هـ :

فكانت الآية عامة على رامي المحصنة. فكان سواء قال الرامي لها: رأيتها تزني، أو رماها ولم يقل رأيتها تزني، فإنه يلزمه اسم الرامي...

المحصنات ههنا: البوالغ الحرائر...

قال الله تبارك وتعالى: {وَالذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فكان بينا أن المأمور بجلد ثمانين هو: من قَصَدَ قَصْدَ محصنة بقذف، لا من وقع قذفه على محصنة بحال..

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين يَشْتُمون العفائف من حرائر المسلمين، فيرمونهنّ بالزنا، ثم لم يأتوا على ما رمَوْهن به من ذلك بأربعة شهداء عُدول يشهدون عليهنّ أنهنّ رأوهنّ يفعلن ذلك، فاجلدوا الذين رمَوْهنّ بذلك ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها...

قال ابن زيد، في قوله:"وأُولَئكَ هُمُ الفاسقونَ" قال: الكاذبون.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

الإحصان على ضربين، أحدهما: ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني، وهو أن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً قد تزوج امرأة نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما كذلك، والآخر: الإحصان الذي يوجب الحدَّ على قاذفه، وهو أن يكون حرّاً بالغاً عاقلاً مسلماً عفيفاً. ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء في هذا المعنى...

{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}... حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يَأْتِ بأربعة شهداء على ما قذفه به بثلاثة أحكام، أحدها: جَلْد ثمانين، والثاني: بطلان الشهادة، والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب...

قد خصّ الله تعالى المحصنات بالذكر، ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحدَّ وجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة. واتفق الفقهاء على أن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} قد أُريد به الرمي بالزنا... {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يعني:... أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا،... قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، ومعلوم أن مراده جَلْدُ كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة، فكان تقدير الآية: ومن رمى محصناً فعليه ثمانون جلدة، وهذا يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يُجلد أكثر من ثمانين.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لئلا يستبيحوا أعراضَ المسلمين، ولئلا يهتكوا أستارَ الناس أمَرَ بتأديبِهم، وإقامةِ الحدِّ عليهم إذا لم يأتوا بالشهداء.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

القذف يكون بالزنى وبغيره... والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زاني، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنا... والقذف بغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودي، يا مجوسي.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {المحصنات} العفائف في هذا الموضع لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف، والعفة أعلى معاني الإحصان إذ في طيه الإسلام، وفي هذه النازلة الحرية... ومنه قوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها} [الأنبياء: 91]، وذكر الله من صفات النساء المنافية للرمي بالزنا ولتخرج من ذلك من ثبت عليها الزنى وغير ذلك ممن لم تبلغ الوطء من النساء حسب الخلاف في ذلك، وعبر عن القذف ب «الرمي»، من حيث معتاد الرمي أَنه مؤذ كالرمي بالحجر والسهم، فلما كان قول القاذف مؤذياً جعل رمياً... والقذف والرمي معنى واحد، وشدد الله تعالى على القاذف {بأربعة شهداء} رحمة بعباده وستراً لهم، وقرأ جمهور الناس «بأربعةِ شهداء» على إضافة الأربعة إلى الشهداء... وحكم شهادة الأربعة أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد فإن اضطرب منهم واحد جلد الثلاثة والقاذف كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر المغيرة بن شعبة وذلك أَنه شهد عليه بالزنى أبو بكرة نفيع بن الحارث وأخوه نافع، وقال الزهراوي عبد الله بن الحارث وزياد أخوهما لأم، وهو مستلحق معاوية وشبل بن معبد البجلي، فلما جاؤوا لأداء الشهادة توقف زياد ولم يؤدها كاملة، فجلد عمر الثلاثة المذكورين.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} كَثَّرَ اللَّهُ عَدَدَ الشُّهُودِ فِي الزِّنَا عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ رَغْبَةً فِي السَّتْرِ عَلَى الْخَلْقِ، وَحَقَّقَ كَيْفِيَّةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى رَبَطَ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْت ذَلِكَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؛ أَيْ الْمِرْوَدَ فِي الْمُكْحُلَةِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأَحَادِيثِ من قَبْلُ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي به رموا المحصنات وذكر الرمي لا يدل على الزنا، إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر، بل لابد من قرينة دالة على التعيين، وقد أجمع العلماء على أن المراد الرمي بالزنا وفي الآية أقوال تدل عليه أحدها: تقدم ذكر الزنا.

وثانيها: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميهن بضد العفاف.

وثالثها: قوله: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} يعني على صحة ما رموهن به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا.

ورابعها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا.

إذا عرفت هذا فالكلام في هذه الآية يتعلق بالرمي والرامي والمرمي.

البحث الأول: في الرمي... ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك،أما الكنايات فمثل أن يقول يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو امرأتي لا ترد يد لامس، وبالعكس فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما نفر سبحانه من نكاح من اتصف بالزنا من رجل أو امرأة، وبدأ -لأن نكاح المرأة للزاني مظنة لزناها- بتنفير الإناث بما يوهم جواز إطلاق الزنا عليهن بمجرد نكاح من علم زناه، وذلك بعد أن ابتدأ في حد الزنا بالأنثى أيضاً لأن زناها أكبر شراً، وأعظم فضيحة وضراً، عطف على ذلك تحريم القذف بما يوجب تعظيم الرغبة في الستر وصيانة الأعراض وإخفاء الفواحش، فقال ذاكراً الجمع لأن الحكم بإقامة الحد عليه يفهم إقامة الحد على الواحد من باب الأولى ولا إيهام فيه لأن الجمع إذا قوبل بالجمع أفهم التوزيع: {والذين يرمون} أي بالزنا {المحصنات} جمع محصنة، وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة، والمراد القذف بالزنا بما أرشد إليه السياق سابقاً ولاحقاً، ذكوراً كان الرامون أو إناثاً بما أفهمه الموصول، وخص الإناث وإن كان الحكم عاماً للرجال تنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولأن الكلام في حقهن أشنع.

ولما كان إقدام المجترئ على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر -بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم لم يأتوا} أي إلى الحاكم {بأربعة شهداء} ذكور {فاجلدوهم} أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم {ثمانين جلدة} لكل واحد منهم، لكل محصنة، إن لم يكن القاذف أصلاً، إن كانوا أحراراً، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] فهذه الآية مخصوصة بتلك، إذ لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حد الزنا وحد القذف. {ولا تقبلوا لهم} أي بعد قذفهم على هذا الوجه {شهادة} أي شهادة كانت {أبداً} للحكم بافترائهم، ومن ثبت افتراؤه سقط الوثوق بكلامه.

ولما كان التقدير: فإنهم قد افتروا، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت: {وأولئك} أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً {هم الفاسقون} أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفاً، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهنّ بالذكر لأن قذفهنّ أشنع، والعار فيهنّ أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات -وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكارا- بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئا بتلك التهمة النكراء؛ ثم يمضي آمنا! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار.. وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق. ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث؛ وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها! ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء. لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهما لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحا. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة. والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الاتهام والترخص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثيرين من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنونها ممنوعة في الجماعة أو نادرة. وذلك فوق الآلام الفظيعة التي تصيب الحرائر الشريفات والأحرار الشرفاء؛ وفوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} لم يقل بالزنى، بل لم يذكر المرمي به تحصنا وإبعادا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وحرصا على حفظ عرض المؤمنات المحصنات، حتى لا يلطخ بسوء، هدد كتاب الله من يتجرأ على قذفهن بالزنى ولم يشهد معه أربعة شهود، بعقوبة الجلد ثمانين جلدة، وبرفض شهادته باستمرار، وباعتباره من الفساق غير العدول، تغليظا لشأن القذف، وردعا عنه بكل حزم وشدة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والمعنى: يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزنا،

{ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} وهذا يسمى حد القذف، أن ترمي حرة بالزنا وتتهمها بها، ففي هذه الحالة عليك أن تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميتها به، فإن لم تفعل يقام عليك أنت حد القذف ثمانين جلدة، ثم لا ينتهي الأمر عند الجلد، إنما لا تقبل منك شهادة بعد ذلك أبدا. {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} لماذا؟ لأنه لم يعد أهلا لها، لأنه فاسق {وأولئك هم الفاسقون} والفاسق لا شهادة له، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حد الجلد، ثم أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته، ثم وصفه بعد ذلك بالفسق، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة. هذا كله ليزجر كل من تسول له نفسه الخوض في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات، لذلك عبر عن القذف بالرمي، لأنه غالبا ما يكون عن عجلة وعدم بينة، فالحق- تبارك وتعالى- يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرد ذكرها والحديث عنها.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لأن من يحترم القضاء العادل شهادته هو الإنسان الذي يقف عند حدود الله في ما يأمر به أو ينهى عنه، بحيث يكون أميناً على إقامة الشهادة. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} المنحرفون عن خط الطاعة، السائرون في خط المعصية، بعيداً عن المسؤولية الشرعية في قضايا الناس العامة والخاصة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

عقوبة البهتان: قَد يستغِلّ المعترضون ما نَصَّتْ عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين، فبيّنت الآيات اللاحقةُ هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات، ويُسخّرونَ هذا الحكم لأغراضهم الدنيئة..