ولما كان القتال فى سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك ، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه ، وسماه قرضا فقال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات ، خصوصا في الجهاد ، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى ، { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، بحسب حالة المنفق ، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها ، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله : { والله يقبض ويبسط } أي : يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء ، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه ، فالإمساك لا يبسط الرزق ، والإنفاق لا يقبضه ، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله ، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا ، فلهذا قال : { وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم .
ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر ، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله . وفيها : الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار . وفيها : الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله ، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه ، من تسميته قرضا ، ومضاعفته ، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون .
والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية . وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال . وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا ، والمجاهد ينفق على نفسه ، وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ؛ فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله . وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة :
( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ، والله يقبض ويبسط ، وإليه ترجعون ) . .
وإذا كان الموت والحياة بيد الله ، والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء ، فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق . إنما هو قرض حسن لله ، مضمون عنده ، يضاعفه أضعافا كثيرة . يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ؛ ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ، ورضى وقربى من الله .
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله ، لا إلى حرص وبخل ، ولا إلى بذل وإنفاق :
والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف . فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله : ( وإليه ترجعون ) . .
وإذن فلا فزع من الموت ، ولا خوف من الفقر ، ولا محيد عن الرجعة إلى الله . وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله ، وليقدموا الأرواح والأموال ؛ وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة ، وأن أرزاقهم مقدرة ، وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة . ومردهم بعد ذلك إلى الله . .
ولا يفوتني بعد تقرير تلك الإيحاءات الإيمانية التربوية الكريمة التي تضمنتها الآيات . . أن ألم بذلك الجمال الفني في الأداء :
( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ؟ ) . . إن في التعبير استعراضا لهذه الألوف ولهذه الصفوف استعراضا ترسمه هاتان الكلمتان : ( ألم تر ؟ ) . . وأي تعبير آخر ما كان ليرسم أمام المخيلة هذا الاستعراض كما رسمته هاتان الكلمتان العاديتان في موضعهما المختار .
ومن مشهد الألوف المؤلفة ، الحذرة من الموت ، المتلفتة من الذعر . . إلى مشهد الموت المطبق في لحظة ؛ ومن خلال كلمة : ( موتوا ) . . كل هذا الحذر ، وكل هذا التجمع ، وكل هذه المحاولة . . كلها ذهبت هباء في كلمة واحدة : ( موتوا ) . . ليلقي ذلك في الحس عبث المحاولة ، وضلالة المنهج ؛ كما يلقي صرامة القضاء ، وسرعة الفصل عند الله .
( ثم أحياهم ) . . هكذا بلا تفصيل للوسيلة . . إنها القدرة المالكة زمام الموت وزمام الحياة . المتصرفة في شؤون العباد ، لا ترد لها إرادة ولا يكون إلا ما تشاء . . وهذا التعبير يلقي الظل المناسب على مشهد الموت ومشهد الحياة .
ونحن في مشهد إماتة وإحياء . قبض للروح وإطلاق . . فلما جاء ذكر الرزق كان التعبير : ( والله يقبض ويبسط ) . . متناسقا في الحركة مع قبض الروح وإطلاقها في إيجاز كذلك واختصار .
وكذلك يبدو التناسق العجيب في تصوير المشاهد ، إلى جوار التناسق العجيب في أحياء المعاني وجمال الأداء . .
وقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيله ، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع . وفي حديث النزول [ أنه يقول تعالى ]{[4207]} " من يقرض غير عديم ولا ظلوم " وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : " نعم يا أبا الدحداح " قال : أرني يدك يا رسول الله . قال : فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي . قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها . قال : فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح . قالت : لبيك قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل . وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه{[4208]} .
وقوله : { قَرْضًا حَسَنًا } روي عن عمر وغيره من السلف : هو النفقة في سبيل الله . وقيل : هو النفقة على العيال .
وقيل : هو التسبيح والتقديس وقوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } كما قال : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } الآية [ البقرة : 261 ] . وسيأتي الكلام عليها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد{[4209]} أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي ، قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة . فقال : وما أعجبك من ذلك ؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " {[4210]} .
هذا حديث غريب ، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال :
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا محمد بن عقبة الرباعي{[4211]} عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال : وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة " فقلت : ويحكم ، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني ، فما سمعت هذا الحديث . قال : فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث ، فلقيته لهذا فقلت : يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك ؟ قال : ما هو ؟ قلت : زعموا أنك تقول : إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة . قال : يا أبا عثمان وما تعجب{[4212]} من ذا والله يقول : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } ويقول : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " {[4213]} .
وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دخل سوقًا من الأسواق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة " الحديث{[4214]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل المؤدب ، عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال : لما نزلت { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] إلى آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رب زد أمتي " فنزلت : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال : رب زد أمتي . فنزل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] . {[4215]} .
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن كعب الأحبار : أنه جاءه رجل فقال : إني سمعت رجلا يقول : من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] مرة واحدة بنى الله له عشرة{[4216]} آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك ؟ قال : نعم ، أو عجبت من ذلك ؟ قال : نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فالكثير من الله لا يحصى .
وقوله : { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي : أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين ، له الحكمة البالغة في ذلك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : يوم القيامة .
القول في تأويل قوله : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : من هذا الذي ينفق في سبيل الله ، فيعين مضعفا ، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله ، ويعطي منهم مقترا ؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه .
وإنما سماه الله تعالى ذكره " قرضا " ، لأن معنى " القرض " إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له ، ليقضيه مثله إذا اقتضاه . فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله ، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة ، سماه " قرضا " ، إذ كان معنى " القرض " في لغة العرب ما وصفنا .
وإنما جعله تعالى ذكره " حسنا " ، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه ، احتسابا منه . فهو لله طاعة ، وللشياطين معصية . وليس ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه ، ولكن ذلك كقول العرب : " عندي لك قرض صدق ، وقرض سوء " ، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته ، كما قال الشاعر :
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا*** أو سيئا ، ومدينا بالذي دانا
فقرض المرء : ما سلف من صالح عمله أو سيئه . وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :
5617- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ، قال : هذا في سبيل الله " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، قال : بالواحد سبعمئة ضعف .
5618- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا ؟ مما أعطانا لأنفسنا ! وإن لي أرضين : إحداهما بالعالية ، والأخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة ! قال : فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة " ! .
5619- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال : " أنا أقرض الله " ، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به . قال ، وقال قتادة : يستقرضكم ربكم كما تسمعون ، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده .
5620- حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال ، حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ، قال أبو الدحداح : يا رسول الله ، أو إن الله يريد منا القرض ؟ ! قال : نعم يا أبا الدحداح ! قال : يدك ! قال : .
فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، حائطا فيه ستمئة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها ، فناداها : يا أم الدحداح ! قالت : لبيك ! قال : اخرجي ! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة .
وأما قوله : " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته ، ما لا حد له ولا نهاية ، كما : -
5621- حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ، قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو .
5622- وقد حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال : إن الله أعطاكم الدنيا قرضا ، وسألكموها قرضا ، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم ، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة ، إلى أكثر من ذلك . وإن أخذها منكم وأنتم كارهون ، فصبرتم وأحسنتم ، كانت لكم الصلاة والرحمة ، وأوجب لكم الهدى .
قال أبو جعفر : وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( فيضاعفه ) بالألف ورفعه ، بمعنى : الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له نسق " يضاعف " على قوله : " يقرض " .
وقرأه آخرون بذلك المعنى : ( فيضعفه ) ، غير أنهم قرءوا بتشديد " العين " وإسقاط " الألف " .
وقرأه آخرون : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " في " يضاعف " ونصبه ، بمعنى الاستفهام . فكأنهم تأولوا الكلام : من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ؟ فجعلوا قوله : " فيضاعفه " جوابا للاستفهام ، وجعلوا : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " اسما . لأن " الذي " وصلته ، بمنزلة " عمرو " و " زيد " . فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل : " من أخوك فتكرمه " ، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء= إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل= نصبه .
قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " . ورفع " يضاعف " . لأن في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " معنى الجزاء . والجزاء إذا دخل في جوابه " الفاء " ، لم يكن جوابه ب " الفاء " لا رفعا . فلذلك كان الرفع في " يضاعفه " أولى بالصواب عندنا من النصب . وإنما اخترنا " الألف " في " يضاعف " من حذفها وتشديد " العين " ، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب .
القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها ، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة ، واتخذوه ربا دونه يعبدونه . وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي :
5623- حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال ، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت وحميد وقتادة ، عن أنس قال : غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فقالوا : يا رسول الله ، غلا السعر فأسعر لنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله الباسط القابض الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال " . .
قال أبو جعفر : يعني بذلك صلى الله عليه وسلم : أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره . فكذلك قوله تعالى ذكره : ، " والله يقبض ويبسط " ، يعني بقوله : " يقبض " ، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويعني بقوله : و " يبسط " يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم .
وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك ، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله ، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله ، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله ، فقال تعالى ذكره : من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي ، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به ؟ فإني -أيها الموسع- الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه ، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك ، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه ، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به ، من غنى وفاقة ، وسعة وضيق ، عند رجوعكما إلي في آخرتكما ، ومصيركما إلي في معادكما .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
5624- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا الآية ، قال : علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة ، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى ، فندب هؤلاء فقال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط " ؟ قال : بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له ، فقوه مما في يدك ، يكن لك في ذلك حظ .
القول في تأويل قوله : وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : وإلى الله معادكم ، أيها الناس ، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده ، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه ، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته ، والتقدم على ما نهاه ، فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه ، ما لا قبل له به من أليم عقابه .
وكان قتادة يتأول قوله : " وإليه ترجعون " ، وإلى التراب ترجعون .
5625- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإليه ترجعون " ، من التراب خلقهم ، وإلى التراب يعودون .