{ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي : ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس ، من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن ، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم ، وهو رمي الجمار ، وذبح الهدايا ، والطواف ، والسعي ، والمبيت ب " منى " ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك .
ولما كانت [ هذه ] الإفاضة ، يقصد بها ما ذكر ، والمذكورات آخر المناسك ، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره ، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد ، في أداء عبادته وتقصيره فيها ، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة .
وهكذا ينبغي للعبد ، كلما فرغ من عبادة ، أن يستغفر الله عن التقصير ، ويشكره على التوفيق ، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة ، ومن بها على ربه ، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة ، فهذا حقيق بالمقت ، ورد الفعل ، كما أن الأول ، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر .
والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع ، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام ، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام ، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة ، ولا يميز فردا عن فرد ، ولا قبيلة عن قبيلة ، ولا جنسا عن جنس . . إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة ، ونسب الإسلام هو وحده النسب ، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة . وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها " الحمس " جمع أحمس ، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب . ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات ، ولا يفيضون - أي يرجعون - من حيث يفيض الناس . فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام ، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس :
( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله ، إن الله غفور رحيم ) . .
قال البخاري : حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت : " كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وسائر العرب يقفون بعرفات . فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه [ ص ] أن يأتي عرفات ، ثم يقف بها ثم يفيض منها . فذلك قوله : من حيث أفاض الناس " . .
قفوا معهم حيث وقفوا ، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا . . إن الإسلام لا يعرف نسبا ، ولا يعرف طبقة . إن الناس كلهم أمة واحدة . سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى . ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب ، ليلتقوا في بيت الله إخوانا متساوين . فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب . . ودعوا عنكم عصبية الجاهلية ، وادخلوا في صبغة الإسلام . . واستغفروا الله . . استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية . واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس ، أو نطق بها اللسان . مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال .
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج ، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه . أساس المساواة ، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة ، ولا يفرقها جنس ، ولا تفرقها لغة ، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعا . . وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع . .
" ثم " هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه ، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يَدْفَع إلى المزدلفة ، ليذكر الله عند المشعر الحرام ، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات ، كما كان جمهور الناس يصنعون ، يقفون بها إلا قريشًا ، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم ، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحِل{[3651]} ، ويقولون : نحن أهل الله في بلدته ، وقُطَّان بيته .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حازم ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يُسَمّون الحُمْس ، وكان{[3652]} سائر العرب يقفون بعرفات . فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَأتَي عرفات ، ثم يقف بها ثم يُفيض
منها ، فذلك قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }{[3653]} .
وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم . واختاره ابن جرير ، وحكى عليه الإجماع ، رحمهم الله .
وقال الإمام أحمد ، حدثنا سُفْيان ، عن عمرو ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، قال : أضللتُ بعيرًا لي بعرفة ، فذهبت أطلبه ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف ، قلت : إن هذا من الحمْس{[3654]} ما شأنه هاهنا ؟
أخرجاه في الصحيحين{[3655]} . ثم روى البخاري من حديث موسى بن عقبة ، عن كُرَيب ، عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار{[3656]} . فالله أعلم . وحكاه ابنُ جرير ، عن الضحاك بن مزاحم فقط . قال : والمراد بالناس : إبراهيم ، عليه السلام . وفي رواية عنه : الإمام . قال ابن جرير{[3657]} ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح .
وقوله : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثًا . وفي الصحيحين أنَّه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ، ثلاثًا وثلاثين ، ثلاثًا وثلاثين{[3658]} .
وقد روى ابن جرير هاهنا حديث{[3659]} ابن عباس{[3660]} بن مرداس السلمي في استغفاره ، عليه السلام ، لأمته عَشِيَّةَ عرفة ، وقد أوردناه{[3661]} في جُزْء جمعناه في فضل يوم عرفة{[3662]} .
وأورد ابن مَرْدويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري ، عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي ، لا إله إلا أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوءُ لك بنعمتك عَلَيّ ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة ، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة " {[3663]} .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عَمْرو : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، عَلمني دعاء أدعو به في صلاتي ؟ فقال : " قل : اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مَغْفِرةً من عندك وارحمني ، إنَّك أنت الغفور الرحيم " {[3664]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.