{ 25 } { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم ، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله ، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان ، والصد أيضا عن المسجد الحرام ، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم ، بل الناس فيه سواء ، المقيم فيه ، والطارئ إليه ، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه ، والحال أن هذا المسجد الحرام ، من حرمته واحترامه وعظمته ، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم .
فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم ، موجب للعذاب ، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم ، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم ، من الكفر والشرك ، والصد عن سبيله ، ومنع من يريده بزيارة ، فما ظنكم{[537]} أن يفعل الله بهم ؟ "
وفي هذه الآية الكريمة ، وجوب احترام الحرم ، وشدة تعظيمه ، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها .
( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس ، سواء العاكف فيه والباد . ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) . .
وكان ذلك فعل المشركين من قريش : أن يصدوا الناس عن دين الله - وهو سبيله الواصل إليه ، وهو طريقه الذي شرعه للناس ، وهو نهجه الذي اختاره للعباد - وأن يمنعوا المسلمين من الحج والعمرة إلى المسجد الحرام - كما فعلوا عام الحديبية - وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام ، وواحة اطمئنان . يستوي فيه المقيم بمكة والطارئ عليها . فهو بيت الله الذي يتساوى فيه عباد الله ، فلا يملكه أحد منهم ، ولا يمتاز فيه أحد منهم : ( سواء العاكف فيه والباد ) .
ولقد كان هذا النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام سابقا لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام . يلقى فيها السلاح ، ويأمن فيها المتخاصمون ، وتحقن فيها الدماء ، ويجد كل أحد فيها مأواه . لا تفضلا من أحد ، ولكن حقا يتساوى فيه الجميع .
ولقد اختلفت أقوال الفقهاء في جواز الملكية الفردية لبيوت مكة غير المسكونة بأهلها . وفي جواز كراء هذه البيوت عند من أجاز ملكيتها . . فذهب الشافعي رحمه الله - إلى أنها تملك وتورث وتؤجر محتجا بما ثبت من أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اشترى من صفوان بن أمية دار بمكة بأربعة آلاف درهم فجعلها سجنا . وذهب إسحاق بن راهويه - رحمه الله - إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وقال : توفى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة [ جمع ربع ] إلا السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن . وقال عبد الرزاق عن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها . وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم . وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها . فكان أول من بوب سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن اتخذ لي بابين يحبسان لي ظهري [ أي ركائبي ] قال : فلك ذلك إذن . وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء . . وتوسط الإمام أحمد - رحمه الله - فقال : تملك وتورث ولا تؤجر . جمعا بين الأدلة .
وهكذا سبق الإسلام سبقا بعيدا بإنشاء واحة السلام ، ومنطقة الأمان ، ودار الإنسان المفتوحة لكل إنسان !
والقرآن الكريم يهدد من يريد اعوجاجا في هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم تذقه من عذاب أليم ) . . فما بال من يريد ويفعل ? إن التعبير يهدد ويتوعد على مجرد الإرادة زيادة في التحذير ، ومبالغة في التوكيد . وذلك من دقائق التعبير .
ومن دقائق التعبير كذلك أن يحذف خبر إن في الجملة : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام . . . )فلا يذكرهم ما لهم ? ما شأنهم ? ما جزاؤهم كأن مجرد ذكر هذا الوصف لهم يغني عن كل شيء آخر في شأنهم ، ويقرر أمرهم ومصيرهم !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ويَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ الله يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به والباد : وهو المنتاب إليه من غيره .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه والباد ، في أنه ليس أحدهما بأحقّ بالمنزل فيه من الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن ابن سابط ، قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل . ففشا فيهم السرق ، وكل إنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنما جعلته ليحرز متاعهم . وهو قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : أعتكف بمكة ؟ قال : أنت عاكف . وقرأ : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام عن عنبسة ، عمن ذكره ، عن أبي صالح : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ العاكف : أهله ، والباد : المنتاب في المنزل سواء .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ والبْادِ قال : العاكف فيه : المقيم بمكة والباد : الذي يأتيه هم في سواء في البيوت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : سَواءً العاكِفُ فِيهِ وَالبادِ سواء فيه أهله وغير أهله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : سَوَاءً العاكفُ فِيهِ والبْادِ قال : أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء .
وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال : الساكن ، والبَادِ الجانب سواء حقّ الله عليهما فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قال : الساكن والباد : الجانب .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعطاء : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ قالا : من أهله ، والبَادِ الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء .
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك لأن الله تعالى ذكره ذكر في أوّل الاَية صدّ من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال : الّذِي جَعَلْناهُ للنّاسِ فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه . ثم قال : سَوَاءً العاكِفُ فِيهِ وَالبْادِ فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدّوا عنه المؤمنين به وذلك لا شكّ طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم . وقيل : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فعطف ب «يصدّون » وهو مستقبل على «كفروا » وهو ماض ، لأن الصدّ بمعنى الصفة لهم والدوام . وإذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ، ولا يكون بلفظ الماضي . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبيل الله ، وذلك نظير قول الله : الّذِين آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوُبهُمْ بِذِكْرِ اللّهِ . وأما قوله : سَوَاءٌ العاكِفُ فِيهِ فإن قرّاء الأمصار على رفع «سواءٌ » ب «العاكف ، و«العاكف » به ، وإعمال «جعلناه » في الهاء المتصلة به ، واللام التي في قوله «للناس » ، ثم استأنف الكلام ب «سواء » وكذلك تفعل العرب ب «سواء » إذا جاءت بعد حرف قد تمّ الكلام به ، فتقول : مررت برجل سواء عنده الخير والشرّ ، وقد يجوز في ذلك الخفض . وإنما يختار الرفع في ذلك لأن «سواء » في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : مررت برجل واحدٍ عنده الخير والشرّ . وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدل عنده الخير والشرّ ، ومن قال ذلك في سواء فاستأنف به ورفع لم يقله في «معتدل » ، لأن «معتدل » فعل مصرّح ، وسواء مصدر فاخراجهم إياه إلى الفعل كاخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه قرأه : سواءً نصبا على إعمال «جعلناه » فيه ، وذلك وإن كان له وجه في العربية ، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
وقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظْلُمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ يقول تعالى ذكره : ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم . وأدخلت الباء في قوله «بإلحاد » والمعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله : تنبت بالدهن والمعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :
بِوَادِ يَمَانٍ يُنْبِتُ الشّثّ صَدْرُهُ *** وأسْفَلُهُ بالمرْخِ والشّبَهانِ
والمعنى : وأسفله ينبت المرخ والشبهان وكما قال أعشى بني ثعلبة :
ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيالِنا أرْماحُنا *** بينَ المَرَاجِلِ والصّرِيجِ الأجْرَدِ
بمعنى : ضمنت رزق عيالنا أرماحنا في قول بعض نحويي البصريين . وأما بعض نحويي الكوفيين فإنه كان يقول : أدخلت الياء فيه ، لأن تأويله : ومن يرد بأن يلحد فيه بظلم . وكان يقول : دخول الباء في «أن » أسهل منه في «إلحاد » وما أشبهه ، لأن «أن » تضمر الخوافض معها كثيرا وتكون كالشرط ، فاحتملت دخول الخافض وخروجه لأن الإعراب لا يتبين فيها ، وقال في المصادر : يتبين الرفع والخفض فيها ، قال : وأنشدني أبو الجَرّاح :
فَلَمّا رَجَتْ بالشّرْبِ هَزّ لها العَصَا *** شَحِيحٌ لهُ عِنْدَ الأَداءِ نَهِيمُ
ألا هَلْ أتاها والحَوَادِثُ جمّةٌ *** بأنّ أمرأ القَيْسِ بْنَ تَمْلِكَ بَيْقَرَا
قال : فأدخل الباء على «أن » وهي في موضع رفع كما أدخلها على «إلحاد » وهو في موضع نصب . قال : وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر :
ألَمْ يَأْتِيكَ والأنْباءُ تَنْمِي *** بِمَا لاقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيادِ
وقال : وهو في «ما » أقلّ منه في «أن » ، لأن «أن » أقلّ شبها بالأسماء من «ما » . قال : وسمعت أعرابيّا من ربيعة ، وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذاك يريد أرجو ذاك .
واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به أي بالبيت ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بالْحاد بِظُلْمٍ يقول : بشرك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحاد بِظُلْمٍ هو أن يعبد فيه غير الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ قال : هو الشرك ، من أشرك في بيت الله عذّبه الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قَتادة ، مثله وقال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ يعني أن تستحلّ من الحرام ما حرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحادٍ بِظُلْمٍ قال : يعمل فيه عملاً سيئا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد مثله .
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأَوْدِيّ قالا : حدثنا المحاربيّ ، عن سفيان عن السّديّ ، عن مرّة عن عن عبد الله ، قال : ما من رجل يهمّ بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلاً بعد أن بين همّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا شعبة ، عن السديّ ، عن مرّة ، عن عبد الله قال مجاهد ، قال يزيد ، قال لنا شعبة ، رفعه ، وأنا لا أرفعه لك في قول الله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلْحاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِيم قال : «لو أن رجلاً همّ فيه بسيئة وهو بعدن أَبْيَنَ ، لأذاقه الله عذابا أليما » .
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبيه ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْاد بِظُلْم قال : إن الرجل ليهمّ بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها ، فتكتب عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب ألِيم قال : الإلحاد : الظلم في الحرم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس : بإلحْادٍ بِظُلمٍ قال : الذي يريد استحلاله متعمدا ، ويقال الشرك .
وقال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن أشعث ، عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بالحْادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ ألِيمٍ قال : هم المحتكرون الطعام بمكة .
وقال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيّا عنه من الفعل ، حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحلّ ، والاَخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدّث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي ربعي ، عن الأعمش ، قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا والله وبلى والله من الإلحاد فيه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عباس ، من أنه معنيّ بالظلم في هذا الموضع كلّ معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحْادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك : «وَمَنْ يَرِدْ فِيهِ » بفتح الياء ، بمعنى : ومن يَرِدْه بإلحاد من وَرَدْت المكان أَرِدْه . وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القرّاء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب . وذلك أنّ «يَرِدْ » فعل واقع ، يقال منه : هو يَرِد مكان كذا أو بلدة كذا غدا ، ولا يقال : يَرِدُ في مكان كذا . وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب أن طَيّئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا :
وأرْغَبُ فِيها عَنْ لَقِيطٍ وَرَهْطِهِ *** وَلَكِنّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أرْغَبُ
بمعنى : وأرغب بها . فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به غير جائزة لِما وصفت .
هذا مقابل قوله { وهدوا إلى صراط الحميد } [ الحج : 24 ] بالنسبة إلى أحوال المشركين إذ لم يسبق لقوله ذلك مقابِل في الأحوال المذكورة في آية { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } [ الحج : 19 ] كما تقدم . فموقع هذه الجملة الاستئناف البياني . والمعنى : كما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتّباعهم صراط الله كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب كفرَهم وصدّهم عن سبيل الله .
وفيه مع هذه المناسبة لما قبله تخلّص بديع إلى ما بعده من بيان حقّ المسلمين في المسجد الحرام ، وتهويل أمر الإلحاد فيه ، والتنويهُ به وتنزيههُ عن أن يكون مأوى للشرك ورجس الظلم والعُدوان .
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به .
وجاء { يصدّون } بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه دأبهم سواء فيه أهل مكة وغيرهم لأن البقية ظاهَرُوهم على ذلك الصد ووافقوهم .
أما صيغة الماضي في قوله : { إن الذين كفروا } فلأنّ ذلك الفعل صار كاللقب لهم مثل قوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا } [ الحج : 24 ] .
وسبيل الله : الإسلام ، فصدهم عنه هو الذي حقق لهم عذاب النار ، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه لهم نعيمَ الجنّة .
والصدّ عن المسجد الحرام مما شمله الصدّ عن سبيل الله فخصّ بالذكر للاهتمام به ، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام ، وذكر بنائه ، وشرع الحجّ له من عهد إبراهيم . والمراد بصدّهم عن المسجد الحرام صدّ عرفه المسلمون يومئذ . ولعله صدّهم المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت . والمعروف من ذلك أنهم مَنَعُوا المسلمين بعد الهجرة من زيارة البيت فقد قال أبو جهل لسَعْد بن معاذ لما جاء إلى مكّة معتمراً وقال لصاحبه أميّة بن خلف : انتظر لي ساعة من النهار لعلّي أطوف بالبيت ، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل وعَرَفَهُ . فقال له أبو جهل : أتطوف بالكعبة آمناً وقد أوتيتم الصْباة ؟ ( يعني المسلمين ) . ومن ذلك مَا صنعوه يوم الحديبية . وقد قيل : إنّ الآية نزلت في ذلك . وأحسب أنّ الآية نزلت قبل ذلك سواء نزلت بمكة أم بالمدينة .
ووصف المسجد بقوله : { الذي جعلناه للناس } الآية للإيماء إلى علّة مؤاخذة المشركين بصدّهم عنه لأجل أنهم خالفوا ما أراد الله منه فإنه جعله للناس كلهم يستوي في أحقية التعبّد به العاكفُ فيه ، أي المستقرّ في المسجد ، والبادي ، أي البعيد عنه إذا دخله .
والمراد بالعاكف : الملازم له في أحوال كثيرة ، وهو كناية عن الساكن بمكة لأنّ الساكن بمكة يعكف كثيراً في المسجد الحرام ، بدليل مقابلته بالبادِي ، فأطلق العكوف في المسجد على سكنى مكة مجازاً بعلاقة اللزوم العرفي . وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم ، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة .
وقرأ الجمهور { سواءٌ } بالرفع على أنه مبتدأ { والعاكف فيه } فاعل سدّ مسدّ الخبر ، والجملة مفعول ثان ل { جعلناه } .
وقرأه حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني ل { جعلناه } .
والعكوف : الملازمة . والبادي : ساكن البادية .
وقوله { سواء } لم يبيّن الاستواء فيما ذا لظهور أنّ الاستواء فيه بصفة كونه مسجداً إنما هي في العبادة المقصودة منه ومن ملحقاته وهي : الطواف ، والسّعي ، ووقوف عرفة .
وكتب { والباد } في المصحف بدون ياء في آخره ، وقرأ ابن كثير { والبادِي } بإثبات الياء على القياس لأنه معرف ، والقياس إثبات ياء الاسم المنقوص إذا كان معرّفاً باللام ، ومحمل كتابته في المصحف بدون ياء عند أهل هذه القراءة أنّ الياء عوملت معاملة الحركات وألِفات أواسط الأسماء فلم يكتبوها . وقرأه نافع بغير ياء في الوقف وأثبتها في الوصل . ومحمل كتابته على هذه القراءة بدون ياء أنه روعي فيه التخفيف في حالة الوقف لأن شأن الرسم أن يراعى فيه حالة الوقف .
وقرأه الباقون بدون ياء في الحالين الوصل والوقف . والوجه فيه قصد التخفيف ومثله كثير .
وليس في هذه الآية حجة لحكم امتلاك دُور مكة إثباتاً ولا نفياً لأنّ سياقها خاص بالمسجد الحرام دون غيره . ويلحق به ما هو من تمام مناسكه : كالمسعَى ، والموقف ، والمشعر الحرام ، والجمار . وقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا مسألة امتلاك دور مكة عند ذكر هذه الآية على وجه الاستطراد . ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه إلاّ ما منعته الشريعة كطواف الحائض بالكعبة .
وأما مسألة امتلاك دور مكة فللفقهاء فيها ثلاثة أقوال : فكان عُمر بن الخطاب وابن عباس وغيرهما يقولون : إن القادم إلى مكة للحج له أن ينزل حيث شاء من ديارها وعلى رب المنزل أن يؤويه . وكانت دور مكة تُدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقال مالك والشافعي : دور مكة مِلك لأهلها ، ولهم الامتناع عن إسكان غيرهم ، ولهم إكراؤها للناس ، وإنما تجب المواساة عند الضرورة ، وعلى ذلك حملوا ما كان يفعله عمر فهو من المواساة . وقد اشترى عمر دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً . وقال أبو حنيفة : دور مكة لا تُملك وليس لأهلها أن يكروها . وقد ظُنّ أن الخلاف في ذلك مبني على الاختلاف في أنّ مكة فتحت عنوة أو صلحاً . والحق أنه لا بناء على ذلك لأنّ من القائلين بأنها فتحت عنوة قائلين بتملك دور مكة فهذا مالك بن أنس يراها فتحت عنوة ويرى صحة تملك دورها . ووجه ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أهلها في منازلهم فيكون قد أقطعهم إياها كما مَنّ على أهلها بالإطلاق من الأسر ومن السبي . ولم يزل أهل مكة يتبايعون دورهم ولا ينكر عليهم أحد من أهل العلم .
وخبر { إن الذين كفروا } محذوف تقديره : نذقهم من عذاب أليم ، دلّ عليه قوله في الجملة الآتية : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } .
وإذ كان الصد عن المسجد الحرام إلحاداً بظلم فإن جملة { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } تذييل للجملة السابقة لما في ( مَن ) الشرطية من العموم .
والإلحاد : الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور . والظلم يطلق على الإشراك وعلى المعاصي لأنها ظلم النفس .
والباء في { بإلحاد } زائدة للتوكيد مثلها في { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . أي من يُرد إلحاداً وبعداً عن الحق والاستقامة وذلك صدهم عن زيارته .
والباء في { بظلم } للملابسة . فالظلم : الإشراك ، لأنّ المقصود تهديد المشركين الذين حملهم الإشراك على مناوأة المسلمين ومنعهم من زيارة المسجد الحرام .
و ( من ) في قوله : { من عذاب أليم } مزيدة للتوكيد على رأي من لا يشترطون لزيادة ( مِن ) وقوعها بعد نفي أو نهي . ولك أن تجعلها للتبعيض ، أي نذقه عذاباً من عذاب أليم .