تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ 12 } { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله ، مقررا لهم وملزما بالتوحيد : { لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : مَن الخالق لذلك ، المالك له ، المتصرف فيه ؟

{ قُلْ } لهم : { لِلَّهِ } وهم مقرون بذلك لا ينكرونه ، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير ، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد ؟ " .

وقوله { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره ، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه ، وتغمدهم برحمته وامتنانه ، وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه ، وأن العطاء أحب إليه من المنع ، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة ، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم ، ودعاهم إليها ، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم ، وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ } وهذا قسم منه ، وهو أصدق المخبرين ، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين ، ما يجعله حق اليقين ، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا ، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق ، فأوضعوا في معاصيه ، وتجرءوا على الكفر به ، فخسروا دنياهم وأخراهم ، ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

12

( قل : لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل لله ، كتب على نفسه الرحمة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون . وله ما سكن في الليل والنهار ، وهو السميع العليم ) . .

إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير ، ثم المفاصلة . . ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول [ ص ] لهذه المواجهة . مواجهة المشركين - الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق ؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم - مواجهتهم بالسؤال عن الملكية - بعد الخلق - لكل ما في السماوات والأرض ، مسقصيا بهذا السؤال حدود الملكية في المكان :

( ما في السماوات والأرض ) . . مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادولن فيها ؛ والتي حكى القرآن في مواضع إقرارهم الكامل بها :

( قل : لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل : لله ) . .

ولقد كان العرب في جاهليتهم - على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة - أرقى - في هذا الجانب - من الجاهلية " العلمية " الحديثة ، التي لا تعرف هذه الحقيقة ، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة ! كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض . ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية ؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك ، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه . . وبهذا اعتبروا مشركين ، وسميت حياتهم بالجاهلية ! فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه ؛ ويزاولونها هم بأنفسهم ؟ ! بماذا يوصفون وبماذا توصف حياتهم ؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك . . فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه . . أيا كانت دعواهم في الإسلام وأيا كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد !

ونعود إلى الآية . لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض ، أنه - سبحانه :

( كتب على نفسه الرحمة ) . .

فهو سبحانه المالك ، لا ينازعه منازع ، ولكنه - فضلا منه ومنة - كتب على نفسه الرحمة . كتبها بإرادته ومشيئته ؛ لا يوجبها عليه موجب ولا يقترحها عليه مقترح ؛ ولا يقتضيها منه مقتض - إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة - وهي - الرحمة - قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة . . والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقومات التصور الإسلامي ، فرحمة الله بعباده هي الأصل ، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء . فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته ، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء ؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . . والرحمة في هذا كله ظاهرة . .

على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال . فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة . . إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار !

ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها - وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي - ولكننا سنحاول أن نقف قليلا أمام هذا النص القرآني العجيب :

( كتب على نفسه الرحمة ) .

وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) .

إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه . . تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده . . تفضله - سبحانه - بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة . . مكتوبة عليه . . كتبها هو على نفسه ؛ وجعلها عهدا منه لعباده . . بمحض إرادته ومطلق مشيئته . . وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها ؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة . .

كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه - سبحانه - على نفسه من رحمته . فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر ، لا يقل عن ذلك التفضل الأول ! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى ؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله ؟ من هم ؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم ؟ !

إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش ؛ كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه !

ومثل هذه الحقائق ، وما تثيره في القلب من مشاعر ؛ ليس موكولا إلى التعبير البشري ليبلغ شيئا في تصويره ؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه ، لا لتعريفه !

وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكون جانبا أساسيا من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها . . وهو تصور جميل مطمئن ودود لطيف . يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب ، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله ! - على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة - فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه . والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه ، كما يروعه بجلال إيقاعة . .

ورحمة الله تفيض على عباده جميعا ؛ وتسعهم جميعا ؛ وبها يقوم وجودهم ، وتقوم حياتهم . وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات . فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة :

إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته . في نشأتهم من حيث لا يعلمون . وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين .

وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقاته . وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل . الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته .

وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته . . هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه ! وهومن رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك .

وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض ، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى . كلما نسي وضل ؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ؛ ولم يسمع صوت النذير ، ولم يصغ للتحذير . وهو على الله هين . ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه .

وتتجلى في تجاوز الله - سبحانه - عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب ، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب .

وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها . والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء . ومحو السيئة بالحسنة . . وكله من فضل الله . فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته . حتى رسول الله [ ص ] كما قال عن نفسه ، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله .

والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها ، وإعلان القصور والعي عنها ، هو أجدر وأولى . وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا ! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن ؛ فيتصل به ؛ ويعرفه ؛ ويطمئن إليه - سبحانه - ويأمن في كنفه ؛ ويستروح في ظله . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها ، فضلا على وصفها والتعبير عنها .

فلننظر كيف مثل رسول الله [ ص ] لهذه الرحمة بما يقربها للقلوب شيئا ما :

" أخرج الشيخان - بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] لما قضى الله الخلق - وعند مسلم : لما خلق الله الخلق - كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي . . وعند البخاري في رواية أخرى : إن رحمتي غلبت غضبي " . .

وأخرج الشيخان - بإسناده عنه رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " جعل الله الرحمة مائة جزء . فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا . فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق . حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " . .

وأخرج مسلم - بإسناده عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " إن لله مائة رحمة . فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة " . .

وله في أخرى : " إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض . فجعل منها في الأرض رحمة واحدة ، فيها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض . فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة " . .

وهذا التمثيل النبوي الموحي ، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى . . ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها ، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة ، والضعف والمرض ؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب ؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض - ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب - ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه . فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما !

وكان رسول الله [ ص ] لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى :

عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قدم على رسول الله [ ص ] بسبي . فإذاامرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها ، إذ وجدت صبيا في السبي ، فأخذته ، فألزقته ببطنها فأرضعته . فقال [ ص ] : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا : لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه . قال : " فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها " . . [ أخرجه الشيخان ] .

وكيف لا . وهذه المرأة إنما ترحم ولدها ، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة ؟

ومن تعليم رسول الله [ ص ] لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية ، بهذا الأسلوب الموحي ، كان ينتقل بهم خطوة أخرى ؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته ، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعا ؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها ، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل .

عن ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله [ ص ] " الراحمون يرحمهم الله تعالى . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " . . [ أخرجه أبو داود والترمذي ] .

وعن جرير - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يرحم الله من لا يرحم الناس " . . . [ أخرجه الشيخان والترمذي ] .

وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - : قال [ ص ] : " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " .

وعن أبى هريرة كذلك . قال : قبل رسول الله [ ص ] الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وعنده الأقرع بن حابس . فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا ! فنظر إليه رسول الله [ ص ] ثم قال : " من لا يرحم لا يرحم " . . [ أخرجه الشيخان ] .

ولم يكن [ ص ] يقف في تعليمه لأصحابه - رضوان الله عليهم - عند حد الرحمة بالناس . وقد علم أن رحمه ربه وسعت كل شيء . وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله ؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقا بخلق الله سبحانه . وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها :

عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا ، فنزل فيها فشرب ، ثم خرج ، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش . فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر ، فملأ خفه ماء ، ثم أمسكه بفيه حتى رقي ، فسقى الكلب . فشكر الله تعالى له فغفر له " . قالوا : يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ قال : " في كل كبد رطبة أجر " . . [ أخرجه مالك والشيخان ] .

وفي أخرى : إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر ، قد أدلع [ أي أخرج ] لسانه من العطش فنزعت له موقها [ أي خفها ] فغفر لها به .

وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله [ ص ] في سفر . فرأينا حمرة [ طائر ] معها فرخان لها فأخذناهما . فجاءت الحمرة تعرش [ أو تفرش ] - [ أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض ] فلما جاء رسول الله [ ص ] قال : " من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها " . ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال : " من أحرق هذه ؟ قلنا : نحن . قال : إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار " . . [ أخرجه أبو داود ] . .

وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ ص ] " قرصت نملة نبيا من الأنبياءفأمر بقرية النمل فحرقت . فأوحي الله تعالى إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ؟ " . . . [ أخرجه الشيخان ] .

وهكذا علم رسول الله [ ص ] أصحابه هدى القرآن . ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة . . أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة ؟ !

وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشى ء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثارا عميقة ؛ يصعب كذلك تقصيها ؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها ، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية ، إلى قضية مستقلة !

إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه - حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء ، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار - فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة ، وكل حالة ، وكل وضع ؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه ، أو طرده من رحمته . فإن الله لا يطرد من رحمته أحدا يرجوها . إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها !

وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر ، وبالرجاء والأمل ، وبالهدوء والراحة . . فهو في كنف ودود ، يستروح ظلاله ، ما دام لا يبعد عنه في الشرود !

والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله . فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرى ء على المعصية - كما يتوهم البعض - إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم . والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية ! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم ، أو المغفرة ، أو الرحمة . . إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية !

كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرا قويا في خلق المؤمن ، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله - سبحانه - وهو يرى نفسه مغمورا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه - فيعلمه ذلك كله كيف يرحم ، وكيف يعفو ، وكيف يغفر . . كما رأينا في تعليم الرسول [ ص ] لأصحابه ؛ مستمدا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة . .

ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة : أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة :

( قل لمن ما في السماوات والأرض ؟ قل : لله . كتب على نفسه الرحمة . ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . . ) . .

فمن هذه الرحمة المكتوبة ، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه . . ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله - سبحانه - بعباده من الناس ؛ فقد خلقهم لأمر ؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية ، ولم يخلقهم عبثا ، ولم يتركهم سدى . ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة - فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته - فيعطيهم جزاء كدحهم إليه ، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا . فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر ؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة . . وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها . . كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها ، والحسنة بعشرة أمثالها ، والإضعاف لمن يشاء ، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء . . كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضا .

ولقد كان العرب في جاهليتهم - قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم - يكذبونبيوم القيامة - شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية " العلمية " الحديثة ! ! ! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات ، لمواجهة ذلك التكذيب :

( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) . .

ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا . . وهؤلاء لن يخسروا شيئا ويكسبوا شيئا . . هؤلاء خسروا كل شيء . . فقد خسروا أنفسهم كلها ، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئا . أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه ؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب ؟ ولمن يكسب ؟ ! .

( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) . .

لقد خسروا أنفسهم وفقدوها ؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن ! . . وهو تعبير دقيق عن حالة واقعة . . إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين - مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله - هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم ! لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة ؛ أو محجوبة مغلفة . فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها ، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها ، ومن ثم فهم لا يؤمنون . . إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون . . وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم . . وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم . وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قُل لّمَن مّا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُل للّهِ كَتَبَ عَلَىَ نَفْسِهِ الرّحْمَةَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . .

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم : لمن ما في السموات والأرض ؟ يقول : لمن ملك ما في السموات والأرض . ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبد كلّ شيء وقهر كل شيء بملكه وسلطانه ، لا للأوثان والأنداد ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلها من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا .

وقوله : كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ يقول : قضي أنه بعباده رحيم ، لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة . وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة ، يقول تعالى ذكره : أن هؤلاء العادلين بي الجاحدين نبوّتك يا محمد ، إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم ، وإني قد قضيت في خلقي أن رحمتي وسعت كل شيء . كالذي :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «لَمّا فَرَغَ اللّهُ مِنَ الخَلْقِ كَتَبَ كِتابا : إنّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي » .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن أبي عثمان ، عن سليمان ، قال : «إن الله تعالى لما خلق السماء والأرض ، خلق مائة رحمة ، كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض ، فعنده تسع وتسعون رحمة ، وقسّم رحمةً بين الخلائق فبها يتعاطفون وبها تشرب الوحش والطير الماء ، فإذا كان يوم القيامة قصرها الله على المتقين وزادهم تسعا وتسعين » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن أبي عثمان ، عن سلمان نحوه ، إلا أن ابن أبي عديّ لم يذكر في حديثه وبها تشرب الوحش والطير الماء .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن عاصم بن سليمان ، عن أبي عثمان عن سليمان ، قال : نجد في التوراة عطفتين : أن الله خلق السموات والأرض ، ثم خلق مئة رحمة أو : جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق ، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة ، وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة ، قال : فيها يتراحمون ، وبها يتباذلون ، وبها يتعاطفون ، وبها يتزاورون ، وبها تحنّ الناقة ، وبها تَنْئِج البقرة ، وبها تيعر الشاة ، وبها تتّابع الطير ، وبها تتّابع الحيتان في البحر فإذا كانوا يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده ، ورحمته أفضل وأوسع .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عاصم بن سليمان ، عن أبي عثمان الهدى ، عن سلمان ، في قوله : كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ . . . الاَية ، قال : أنا نجد في التوراة عطفتين ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه ما قال : «وبها تتّابع الطير ، وبها تتّابع الحيتان في البحر .

حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال ابن طاوس ، عن أبيه : إن الله تعالى لما خلق الخلق ، لم يعطف شيء على شيء ، حتى خلق مئة رحمة ، فوضع بينهم رحمة واحدة ، فعطف بعض الخلق على بعض .

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه بمثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : وأخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة حسبته أسنده قال : إذا فرغ الله عزّ وجلّ من القضاء بين خلقه ، أخرج كتابا من تحت العرش فيه : «إن رحمتي سبقت غضبي ، وأنا أرحم الراحمين » قال : فيخرج من النار مثل أهل الجنة ، أو قال مثلاً أهل الجنة ، ولا أعلمه إلا قال : «مثلا » ، وأما مثل فلا أشكّ مكتوبا ها هنا ، وأشار الحكم إلى نحره ، عتقاء الله . فقال رجل لعكرمة : يا أبا عبد الله ، فإن الله يقول : يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ ومَا هُمْ بخَارِجينَ مِنْها ولَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ قال : ويلك أولئك أهلها الذين هم أهلها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة حسبت أنه أسنده قال : إذا كان يوم القيامة أخرج الله كتابا من تحت العرش ، ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال : فقال رجل : يا أبا عبد الله ، أرأيت قوله : يُرِيدُونَ أنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَمّا قَضَى اللّهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ : إنّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي » .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه كان يقول : إن لله مئة رحمة ، فأهبط رحمة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجنّ والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودوابّ الأرض وهوامّها وما بين الهواء واختزن عند تسعا وتسعين رحمة ، حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا ، فحواها إلى ما عنده ، فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال عبد الله بن عمرو : أن الله مئة رحمة ، أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة يتراحم بها الجن والإنس والطير والبهائم وهوّام الأرض .

حدثنا محمد بن عوف ، قال : أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، قال : حدثنا صفوان بن عمرو ، قال : ثني أبو المخارق زهير بن سالم ، قال : قال عمر لكعب : ما أوّل شيء ابتداه الله من خلقه ؟ فقال كعب : كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ، ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت : «أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي » .

القول في تأويل قوله تعالى : لَيَجْمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ .

وهذه اللام التي في قوله : لَيَجْمَعَنّكُمْ لام قسم . ثم اختلف أهل العربية في جالبها ، فكان بعض نحويي الكوفة يقول : إن شئت جعلت الرحمة غاية كلام ، ثم استأنفتَ بعدها : لَيَجْمَعَنّكُمْ ، قال : وإن شئت جعلته في موضع نصب ، يعني كتب لَيَجْمَعَنّكُمْ كما قال : كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ يريد : كتب أنه من عمل منكم . قال : والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جواب كلام الأيمان بأن المفتوحة وباللام ، فيقولون : أرسلت إليه أن يقوم ، وأرسلت إليه ليقومنّ . قال : وكذلك قوله : ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِما رَأُوا الاَياتِ ليَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ . قال وهو في القرآن كثير إلا ترى أنك لو قلت : بدا لهم أن يسجنوه ، لكان صوابا ؟ وكان بعض نحوي البصرة يقول : نصبت لام لَيَجْمَعَنّكُمْ لأن معنى كتاب كأنه قال : والله ليجمعنكم .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يكون قوله : كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ غاية ، وأن يكون قوله : لَيَجْمَعَنّكُمْ خبر مبتدإ ، ويكون معنى الكلام حينئد : ليجمعنكم الله أيها العادلون بالله ليوم القيامة الذي لا ريب فيه لينتقم منكم بكفركم به .

وإنما قلت : هذا القول أولى بالصواب من إعمال كتب في لَيَجْمَعَنّكُمْ لأن قوله : كَتَبَ قد عمل في الرحمة ، فغير جائز وقد عمل في الرحمة أن يعمل في : لَيَجْمَعَنّكُمْ لأنه لا يتعدى إلى اثنين .

فإن قال قائل : فما أنت قائل في قراءة من قرأ : كَتَبَ على نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أنه بفتح أن ؟ قيل : إن ذلك إذ قرىء كذلك ، فإن «أن » بيان عن الرحمة وترجمة عنها ، لأن معنى الكلام : كتاب على نفسه الرحمة أن يرحم ( من تاب ) من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ، ويعفو والرحمة يترجم عنها ، ويبين معناها بصفتها ، وليس من صفة الرحمة لَيَجْمَعَنّكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ فيكون مبينا به عنها . فإن كان ذلك كذلك ، فلم يبق إلا أن ينصب بنية تكرير كتب مرة أخرى معه ، ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك فتوجه إلى ما ليس بموجود في ظاهر .

وأما تأويل قول لا رَيْبَ فِيهِ فإنه لا يشكّ فيه ، يقول : في أن الله يجمعكم إلى يوم القيامة فيحشركم إليه جميعا ، ثم يؤتى كلّ عامل منكم أجر ما عمل من حسن أوسيّىء .

القول في تأويل قوله تعالى : الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يؤْمِنُونَ .

يعني تعالى ذكره بقوله : الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ العادلين به الأوثان والأصنام يقول تعالى ذكره : ليجمعنّ الله الذين خسروا أنفسهم ، يقول : الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندّ والعديل ، فأبقوها بإيجابهم سخط الله وأليم عقابه في المعاد . وأصل الخسار : الغَبْن ، يقال منه : خسر الرجل في البيع : إذا غبن ، كما قال الأعشى :

لا يأخُذُ الرّشْوَةَ فَي حُكْمِهِ ***ولا يُبَالي خَسَرَ الخاسِرِ

وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته . وموضوع «الذين » في قوله : الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ نصب على الردّ على الكاف والميم في قوله : لَيَجْمَعَنّكُمْ على وجه البيان عنها . وذلك أن الذين خسروا أنفسهم ، هم الذين خوطبوا بقوله : لَيَجْمَعَنّكُمْ . وقوله : فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يقول : فهم لأهلاكهم أنفسهم وغبنهم إياه حظها لا يؤمنون ، أي لا يوحدون الله ولا يصدّقون بوعده ووعيده ولا يقرون بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

{ قل لمن ما في السماوات والأرض } خلقا وملكا ، وهو سؤال تبكيت . { قل لله } تقريرا لهم وتنبيها على أنه المتعين للجواب بالإنفاق ، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره . { كتب على نفسه الرحمة } التزمها تفضلا وإحسانا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر . { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي : ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة ، فيجازيكم على شرككم . أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في . وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم . { لا ريب فيه } في اليوم أو الجمع . { الذين خسروا أنفسهم } بتضييع رأس مالهم . وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم ، وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي : وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر . { فهم لا يؤمنون } والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

قال بعض أهل التأويل : في الكلام حذف تقديره : { قل لمن ما في السماوات والأرض } ؟ فإذا تحيروا ولم يجيبوا ، قل لله ، وقالت فرقة : المعنى أنه أمر بهذا السؤال فكأنهم لما لم يجيبوا ولا تيقنوا سألوا فقيل له : قل لله ، والصحيح أن الله عز وجل أمر محمداً عليه السلام بقطعهم بهذه الحجة الساطعة والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم ولا عند أحد ، ليعتقد هذا المعتقد الذي بينه وبينهم ثم يتركب احتجاجه عليه ، جاء ذلك بلفظ استفهام وتقرير في قوله : { لمن ما في السماوات والأرض } والوجه في الحجة ، كما تقول لمن تريد غلبته بآية تحتج بها عليه ، كيف قال الله في كذا ؟ ثم تسبقه أنت إلى الآية فتنصها عليه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : يا أيها الكافرون العادلون بربهم { لمن ما في السماوات والأرض } ؟ ثم سبقهم فقال : { لله } ، أي لا مدافعة في هذا عندكم ولا عند أحد ، ثم ابتدأ يخبر عنه تعالى : { كتب على نفسه الرحمة } معناه قضاها وأنفذها . وفي هذا المعنى أحاديث عن النبي عليه السلام تتمضن كتب الرحمة ، ومعلوم من غير ما موضع من الشريعة أن ذلك للمؤمنين في الآخرة ولجميع الناس في الدنيا ، منها ( إن الله تعالى خلق مائة رحمه فوضع منها واحدة في الأرض فبها تتعاطف البهائم وترفع الفرس رجلها لئلا تطأ ولدها . وبها تتعاطف الطير والحيتان ، وعنده تسع وتسعون رحمة ، فإذا كان يوم القيامة صير تلك الرحمة مع التسعة والتسعين وبثها في عباده{[4834]} ) .

قال القاضي أبو محمد : فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات تغمدنا الله بفضل منه ، ومنها حديث آخر أن الله عز وجل كتب عنده كتاباً فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي{[4835]} ، ويروى : نالت غضبي ، ومعناه سبقت ، وأنشد عليه ثابت بن قاسم :

أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا *** نالا الملوك وفكَّكا الأغلالا{[4836]}

ويتضمن هذا الإخبار عن الله تعالى بأنه كتب الرحمة تأنيس الكفار ونفي يأسهم من رحمة الله إذا تابوا ، وأن باب توبتهم مفتوح ، قال الزجاج : { الرحمة } هنا إمهال الكفار وتعميرهم ليتوبوا ، وحكى المهدوي : أن جماعة من النحويين قالت : إن { ليجمعنكم } هو تفسير { الرحمة } تقديره : أن يجمعكم فيكون { ليجمعنكم } في موضع نصب على البدل من { الرحمة } ، وهو مثل قوله : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين }{[4837]} المعنى : أن يسجنوه .

قال القاضي أبو محمد :

يلزم على هذا القول أن تدخل النون الثقيلة في الإيجاب ، وهو مردود ، وإنما تدخل في الأمر والنهي وباختصاص الواجب في القسم{[4838]} .

وقالت فرقة وهو الأظهر : إن اللام لام قسم والكلام مستأنف ، ويتخرج ذلك في { ليسجننه } وقالت فرقة { إلى } بمعنى في ، وقيل على بابها غاية وهو الأرجح ، و { لا ريب فيه } لا شك فيه ، أي هو في نفسه وذاته لا ريب فيه ، وقوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم } الآية قيل إن { الذين } منادى .

قال القاضي أبو محمد : وهو فاسد لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهمات ، وقيل : هو نعت المكذبين الذين تقدم ذكرهم ، وقيل : هو بدل من الضمير في { ليجمعنكم } ، قال المبرد : ذلك لا يجوز كما لا يجوز مررت بك زيد .

قال القاضي أبو محمد : وقوله في الآية { ليجمعنكم } مخالف لهذا المثال لأن الفائدة في البدل مترقبة من الثاني ، وإذا قلت مررت بك زيد فلا فائدة في الثاني ، وقوله : { ليجمعنكم } يصلح لمخاطبة الناس كافة فيفيدنا إبدال { الذين } من الضمير أنهم هم المختصون بالخطاب هنا ، وخصوا على جهة الوعيد ، ويتضح فيها الوعيد إذا جعلنا اللام للقسم وهو القول الصحيح ويجيء هذا بدل البعض من الكل{[4839]} .

وقال الزجاج { الذين } رفع بالابتداء وخبره { فهم لا يؤمنون } ، وهذا قول حسن ، والفاء في قوله : { فهم } جواب على القول بأن { الذين } رفع بالابتداء لأن معنى الشرط حاصل تقديره ، من خسر نفسه فهو لا يؤمن ، وعلى القول بأن { الذين } بدل من الضمير هي عاطفة جملة على جملة ، و{ خسروا } معناه غبنوا أنفسهم بأن وجب عليها عذاب الله وسخطه ، ومنه قول الشاعر [ الأعشى ] : [ السريع ]

لا يأخُذُ الرَشْوَةَ في حُكْمِهِ *** ولا يبالي غَبَنَ الخَاسِرِ{[4840]}


[4834]:-أخرجه أحمد، ومسلم، والبيهقي في الأسماء والصفات- عن سلمان مع اختلاف في الألفاظ، وأخرج مثله عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سلمان أيضا، ونصه: (إنا نجد في التوراة أن الله خلق السماوات والأرض، ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها يتباذلون، وبها يتزاورون، وبها تحن الناقة، وبها تنتج البقرة، وبها تيعر الشاة (أي: تصيح)، وبها تتابع الطير، وبها تتابع الحيتان في البحر، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده، ورحمته أفضل وأوسع). (الدر المنثور- وفتح القدير).
[4835]:- هذا الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة. (الدر المنثور- وفتح القدير وابن كثير).
[4836]:- فهو يصفها بأنهما سبقا الملوك في الشجاعة والكرم.
[4837]:- الآية (35) من سورة (يوسف).
[4838]:-قال أبو حيان تعليقا على رأي ابن عطية هذا: "وهذا الذي ذكره لا يحصر مواضع دخول نون التوكيد، ألا ترى دخولها في الشرط وليس واحدا مما ذكر نحو قوله تعالى: {وإما ينزغنك}، وكذلك قوله: "وباختصاص من الواجب في القسم" ليس على إطلاقه، بل له شروط ذكرت في علم النحو". اهـ.(البحر المحيط 4/ 82).
[4839]:- القول بأن {الذين خسروا...} بدل من الضمير في {ليجمعنكم} هو قول الأخفش- وقد ردّه المبرد ودليله على ذلك أن البدل من ضمن الخطاب لا يجوز كما لا يجوز في قولك: "مررت بك زيد"، وجاء ابن عطية فردّ كلام المبرد بالتفرقة بين الآية وبين المثال الذي ذكره المبرد، وحجته أن الفائدة من البدل عادة تكون مترقبة من الثاني، وهذا لا يتحقق في مثال المبرد، لكنه يتحقق في الآية كما شرحه ابن عطية، وجاء أبو حيان فناقش ابن عطية بقوله ما معناه: كلامه يقتضي أن يكون بدل بعض من كل كما ذكر ويحتاج إذ ذاك إلى ضمير يمكن تقديره: "الذين خسروا أنفسهم منهم"، وقوله: "إن البدل يفيدنا أنهم هم المختصون بالخطاب، وخصوا على جهة الوعيد" يقتضي أن يكون بدل كل من كل، وفي هذا تناقض. ولنا أن ندافع عن ابن عطية فنقول: إذا كان قوله تعالى: {ليجمعنكم} يصلح لمخاطبة الناس كافة فإنه يصلح أيضا لمخاطبة الكفار المستهزئين تبعا لسياق الآيات، فإن جعلناه خطابا لجميع الناس كان [الذين خسروا] بدل بعض من كل، وإن جعلناه خطابا للكفار المستهزئين فقط كان بدل كل من كل، ولا تناقض. والله أعلم. وابن عطية قال: "يصلح" ولم يقل: "يجب أن يكون خطابا لجميع الناس".
[4840]:- هذا البيت للأعشى من قصيدة قالها يهجو علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما، والبيت في مدح الحكم الذي كان يحكم بين المتنافرين، ومطلع القصيدة: شاقتك من قتلة أطلالها بالشطّ فالوتر إلى حاجر قال صاحب اللسان: "الغبن بالتسكين في البيع، والغبن بالتحريك في الرأي"، ثم قال: وقد حكي غير ذلك.