تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

{ 87 - 88 } { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }

أي : واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو : يونس ، أي : صاحب النون ، وهي الحوت ، بالذكر الجميل ، والثناء الحسن ، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه ، فدعاهم ، فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم .

[ فجاءهم العذاب ] ورأوه عيانا ، فعجوا إلى الله ، وضجوا وتابوا ، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى : { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وهذه الأمة العظيمة ، الذين آمنوا بدعوة يونس ، من أكبر فضائله . ولكنه عليه الصلاة والسلام ، ذهب مغاضبا ، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب ، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه ، ولا حاجة لنا إلى تعيينها [ لقوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ } { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : فاعل ما يلام عليه ]{[533]}  والظاهر أن{[534]}  عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك ، ظن أن الله لا يقدر عليه ، أي : يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى ، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر ، ولا يستمر عليه ، فركب في السفينة مع أناس ، فاقترعوا ، من يلقون منهم في البحر ؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم ، فأصابت القرعة يونس ، فالتقمه الحوت ، وذهب به إلى ظلمات البحار ، فنادى في تلك الظلمات : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فأقر لله تعالى بكمال الألوهية ، ونزهه عن كل نقص ، وعيب وآفة ، واعترف بظلم نفسه وجنايته .

قال الله تعالى : { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }


[533]:- زيادة من هامش ب.
[534]:- في الأصل: أنه.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

48

ثم تجيء قصة يونس - عليه السلام - وهو ذو النون .

( وذا النون إذ ذهب مغاضبا . فظن أن لن نقدر عليه . فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم . وكذلك ننجي المؤمنين ) . .

وقصة يونس تأتي هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق ، وتفصل في سورة الصافات . ولكن لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة .

لقد سمي ذا النون - أي صاحب الحوت - لأن الحوت التقمه ثم نبذه . وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا ، وغادرهم مغاضبا ، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم . ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة ، والقرى كثيرة ، والأقوام متعددون . وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين .

ذلك معنى ( فظن أن لن نقدر عليه )أي أن لن نضيق عليه .

وقاده غضبه الجامح ، وضيقه الخانق ، إلى شاطئ البحر ، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها . حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، وقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق . فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه . فالتقمه الحوت . مضيقا عليه أشد الضيق ! فلما كان في الظلمات : ظلمة جوف الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل نادى : ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) . فاستجاب الله دعاءه ، ونجاه من الغم الذي هو فيه . ولفظه الحوت على الساحل . ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات . فحسبنا هذا في هذا السياق .

إن في هذه الحلقة من قصة يونس - عليه السلام - لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات .

إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة ، فضاق صدرا بالقوم ، وألقى عبء الدعوة ، وذهب مغاضبا ، ضيق الصدر ، حرج النفس ؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين . ولولا أن ثاب إلى ربه ! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه . لما فرج الله عنه هذا الضيق . ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه .

وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب بها ، والإيذاء من أجلها . وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا . ولكنه بعض تكاليف الرسالة . فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا . ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا .

إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ، ومن عتو وجحود . فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة . . وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف . . ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب !

إن طريق الدعوات ليس هينا لينا . واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة . فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم والأوضاع ، يجثم على القلوب . ولا بد من إزالة هذا الركام . ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة . ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة . ومن محاولة العثور على العصب الموصل . . وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء . ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها . وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة ، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود ، وقد أعيا من قبل على كل الجهود !

وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال . . إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطى ء المحطة وأنت تدقق وتصوب . ثم إذا حركة عابرة من يدك . فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام !

إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال . وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق . ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال !

إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته ، فيهجر الناس . . إنه عمل مريح ، قد يفثأ الغضب ، ويهدى ء الأعصاب . . ولكن أين هي الدعوة ? وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين ? !

إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية ! فليضق صدره . ولكن ليكظم ويمض . وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون !

إن الداعية أداة في يد القدرة . والله أرعى لدعوته وأحفظ . فليؤد هو واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو ، والبقية على الله . والهدى هدى الله .

وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه .

وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها .