{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } أي : أفيستوي من شرح اللّه صدره للإسلام ، فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها ، منشرحا قرير العين ، على بصيرة من أمره ، وهو المراد بقوله : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } كمن ليس كذلك ، بدليل قوله : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي : لا تلين لكتابه ، ولا تتذكر آياته ، ولا تطمئن بذكره ، بل هي معرضة عن ربها ، ملتفتة إلى غيره ، فهؤلاء لهم الويل الشديد ، والشر الكبير .
{ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه ؟ ومن كل السعادة في الإقبال عليه ، وقسا قلبه عن ذكره ، وأقبل على كل ما يضره ؟ "
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىَ نُورٍ مّن رّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللّهِ أُوْلََئِكَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } :
يقول تعالى ذكره : أفمن فَسَح الله قلبه لمعرفته ، والإقرار بوحدانيته ، والإذعان لربوبيته ، والخضوع لطاعته فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبّهِ يقول : فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين ، بتنوير الحقّ في قلبه ، فهو لذلك لأمر الله متبع ، وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه ، كمن أقسى الله قلبه ، وأخلاه من ذكره ، وضيّقه عن استماع الحق ، واتّباع الهدى ، والعمل بالصواب ؟ وترك ذكر الذي أقسى الله قلبه ، وجوابَ الاستفهام اجتزاء بمعرفة السامعين المراد من الكلام ، إذ ذكر أحد الصنفين ، وجعل مكان ذكر الصنف الاَخر الخبر عنه بقوله : فَوَيْلٌ للْقاسِيَةِ قُلُوبُهمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبّهِ يعني : كتاب الله ، هو المؤمن به يأخذ ، وإليه ينتهي .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ قال : وسع صدره للإسلام ، والنور : الهُدَى .
حُدثت عن ابن أبي زائدة عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ قال : ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه .
قوله : فَوَيْلٌ للقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : فويل للذين جَفَت قلوبهم ونأت عن ذكر الله وأعرضت ، يعني عن القرآن الذي أنزله تعالى ذكره ، مذكّرا به عباده ، فلم يؤمن به ، ولم يصدّق بما فيه . وقيل : مِنْ ذِكْرِ اللّهِ والمعنى : عن ذكر الله ، فوضعت «من » مكان «عن » ، كما يقال في الكلام : أتخمت من طعام أكلته ، وعن طعام أكلته بمعنى واحد .
وقوله : أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يقول تعالى ذكره : هؤلاء القاسية قلوبهم من ذكر الله في ضلال مُبين ، لمن تأمّله وتدبّره بفهم أنه في ضلال عن الحقّ جائر .
{ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }
تفريع على ما تقدم من قوله : { لكِن الذين اتقوا ربهم لهم غرفٌ } [ الزمر : 20 ] وما ألحق به من تمثيل حالهم في الانتفاع بالقرآن فُرع عليه هذا الاستفهام التقريري .
و ( مَن ) موصلة مبتدأ ، والخبر محذوف دل عليه قوله : { لكِن الذينَ اتَّقوا ربَّهُم } مما اقتضاه حرف الاستدراك من مخالفة حالة لحال من حق عليه كلمة العذاب .
والتقدير : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه مِثل الذي حقّ عليه كلمة العذاب فهو في ظلمة الكفر ، أو تقديره : مثل من قسا قلبه بدلالة قوله : { فَوَيلٌ للقاسِيَةِ قلوبُهم } ، وهذا من دلالة اللاحق .
وشرحُ الصدر للإِسلام استعارة لقبول العقل هديَ الإِسلام ومحبّته . وحقيقة الشرح أنه : شق اللحم ، ومنه سمي علم مشاهدة باطن الأسباب وتركيبه علم التشريح لتوقفه على شق الجلد واللحم والإطلاع على ما تحت ذلك . ولما كان الإِنسان إذا تحير وتردد في أمر يجدّ في نفسه غماً يتأثر منه جهازه العصبي فيظهر تَأثره في انضغاط نَفَسه حتى يصير تنفسه عسيراً ويكثر تنهده وكان عضو التنفس في الصدر ، شبه ذلك الانضغاط بالضيق والانطباق فقالوا : ضاق صدره ، قال تعالى عن موسى : { ويضيق صدري } [ الشعراء : 13 ] ، وقالوا : انطبق صدره وانطبقت أضلاعه وقالوا في ضد ذلك : شرح الله صدره ، وجمع بينهما قوله تعالى : { فمن يرد اللَّه أن يهديه يشرحْ صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّدُ في السماء } في سورة [ الأنعام : 125 ] ، ومنه قولهم : فلان في انشراح ، أي يحس كأن صدره شُرح ووُسع .
ومن رشاقة ألفاظ القرآن إيثار كلمة { شَرح } للدلالة على قبول الإِسلام لأن تعاليم الإِسلام وأخلاقه وآدابه تكسب المسلم فرحاً بحاله ومسرة برضى ربه واستخفافاً للمصائب والكوارث لجزمه بأنه على حق في أمره وأنه مثاب على ضره وأنه راججٍ رحمة ربه في الدنيا والآخرة ولعدم مخالطة الشك والحيرة ضميره .
فإن المؤمن أول ما يؤمن بأن الله واحد وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله ينشرح صدره بأنه ارتفع درجات عن الحالة التي كان عليها حالةَ الشرك إن اجتنبَ عبادة أحجار هو أشرف منها ومعظم ممتلكاته أشرف منها كفرسه وجمله وعبده وأَمته وماشيته ونخِله ، فشعر بعزة نفسه مرتفعاً عما انكشف له من مهانتها السابقة التي غسلها عنه الإِسلام ، ثم أصبح يقرأ القرآن وينطق عن الحكمة ويتسم بمكارم الأخلاق وأصالة الرأي ومحبة فعل الخير لوجه الله لا للرياء والسمعة ، ولا ينطوي باطنه على غلّ ولا حسد ولا كراهية في ذات الله وأصبح يُعد المسلمين لنفسه إخواناً ، وقد ترك الاكتساب بالغارة والميسر ، واستغنى بالقناعة عَن الضراعة إلا إلى الله تعالى ، وإذا مسه ضر رجا زواله ولم ييأس من تغير حاله .
وأيقن أنه مثاب على تحمله وصبره ، وإذا مسته نعمة حمد ربه وترقب المزيد ، فكان صدره منشرحاً بالإِسلام متلقياً الحوادث باستبصار غير هياب شجاع القلب عزيز النفس .
واللام في { للإسْلامِ } لام العلة ، أي شرحه لأجل الإِسلام ، أي لأجل قبوله . وفرع على أن شرح الله صدره للإسلام قوله تعالى : { فهُوَ على نُورٍ من ربِّهِ } فالضمير عائد إلى { مّن } .
والنور : مستعار للهدى ووضوح الحق لأن النور به تنجلي الأشياء ويخرج المبصر من غياهب الضلالة وتردد اللبس بين الحقائق والأشباح .
واستعيرت { على } استعارةً تبعية أو تمثيلية للتمكن من النور كما استعيرت في قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] على الوجهين المقررين هنالك . و { مّن ربِّهِ } نعت ل { نور } و من ابتدائية ، أي نور موصوف بأنه جاء به من عند الله فهو نور كامل لا تخالطه ظلمة ، وهو النور الذي أضيف إلى اسم الله في قوله تعالى : { يهدي اللَّه لنوره من يشاء } في سورة [ النور : 35 ] .
{ فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِى ضلال مبين }
فُرع على وصف حال من شرحَ الله صدره للإِسلام فهو على نور من ربه ، ما يدل على حال ضده وهم الذين لم يشرح الله صدورهم للإِسلام فكانت لقلوبهم قساوة فُطِروا عليها فلا تسلك دعوة الخير إلى قلوبهم . وأُجمل سوء حالهم بما تدل عليه كلمة { ويل } من بلوغهم أقصى غايات الشقاوة والتعاسةِ ، وقد تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } في سورة [ البقرة : 79 ] .
والقاسي : المتصف بالقساوة في الحال ، وحقيقة القساوة : الغلظ والصلابة في الأجسام ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : { فهي كالحجارة أو أشد قسوة } [ البقرة : 74 ] . وقسوة القلب : مستعارة لقلة تأثّر العقل بما يُسدى إلى صاحبه من المواعظ ونحوها ، ويقابل هذه الاستعارة استعارة اللين لسرعة التأثر بالنصائح ونحوها ، كما سيأتي في قوله تعالى : { ثُمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلوبُهم } [ الزمر : 23 ] .
و { مِن } في قوله : { مّن ذِكرِ الله } يجوز أن تكون بمعنى ( عن ) بتضمين { القاسية } معنى المعرضة والنافرة ، وقد عدّ مرادف معنى ( عن ) من معاني { مِن ، واستُشهد له في مغني اللبيب } بهذه الآية وبقوله تعالى : { لقد كنت في غفلة من هذا } [ ق : 22 ] ، وفيه نظر ، لإِمكان حملهما على معنيين شائعين من معاني { مِن وهما معنى التعليل في الآية الأولى كقولهم : سقاهم من الغيْمة ، أي لأجل العطش ، قاله الزمخشري . وجعل المعنى : أن قسوة قلوبهم حصلت فيهم من أجل ذكر الله ، ومعنى الابتداء في الآية الثانية ، أي قست قلوبهم ابتداء من سماع ذكر الله . والمراد بذكر الله القرآن وإضافته إلى الله زيادة تشريف له . والمعنى : أنهم إذا تليت آية اشمأزّوا فتمكن الاشمئزاز منهم فقست قلوبهم .
وحاصل المعنى : أن كفرهم يحملهم على كراهية ما يسمعونه من الدعوة إلى الإِسلام بالقرآن فكلما سمعوه أعرضوا وعاندوا وتجددت كراهية الإِسلام في قلوبهم حتى ترسخ تلك الكراهية في قلوبهم فتصير قلوبهم قاسية .
فكان القرآن أن سبب اطمئنان قلوب المؤمنين قال تعالى : { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللَّه ألا بذكر اللَّه تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] . وكان سبباً في قساوة قلوب الكافرين . وسبب ذلك اختلاف القابلية فإن السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلاف القابلية ، وإنما تعرف خصائص الأشياء باعتبار غالب آثارها في غالب المتأثرات ، فذِكر الله سبب في لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر ، فإذا حلّ فيها هذا المرض صارت إذا ذكر الله عندها أشد مرضاً مما كانت عليه .
وجملة { أُولئِكَ في ضلالٍ مُبينٍ } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما قبله من الحكم بأن قساوة قلوبهم من أجل أن يذكر الله عندهم يثير في نفس السامع أن يتساءل : كيف كان ذكر الله سبب قساوة قلوبهم ؟ فأفيد بأن سبب ذلك هو أنهم متمكنون من الضلالة منغمسون في حَمْأتها فكان ضلالهم أشدّ من أن يتقشع حين يسمعون ذكر الله .
وافتتاح هذه الجملة باسم الإِشارة عقب ما وصفوا به من قساوة القلوب لإِفادة أن ما سيذكر من حالهم بعد الإِشارة إليهم صاروا به أحرياء لأجل ما ذكر قبل اسم الإِشارة كما تقدم في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة { البقرة : 5 ] ، فكان مضمون قوله : { أولئك في ضلالٍ مبينٍ } وهو الضلال الشديد علة لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه وقوع جملته استئنافاً بيانياً . وكان مضمونها مفعولاً لقسوة قلوبهم حسبما اقتضاه تصدير جملتها باسم الإِشارة عقب وصف المشار إليهم بأوصاف . .
وكذلك شأن الأعراض النفسية أن تكون فاعلة ومنفعلة باختلاف المثار وما تتركه من الآثار لأنها علل ومعلولات بالاعتبار لا يتوقف وجود أحد الشيئين منهما على وجود الآخر التوقف المسمى بالدور المعِيِّ .
والمبين : الشديد الذي لا يخفى لشدته ، فالمبين كناية عن القوة والرسوخ فهو يُبين للمتأمل أنه ضلال .