{ مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين إلى إجابة الداعي حين يدعوهم إلى الحضور بين يدي الله للحساب لا امتناع لهم ولا محيص ولا ملجأ ، { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أي : رافعيها قد غُلَّتْ أيديهم إلى الأذقان ، فارتفعت لذلك رءوسهم ، { لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } أي : أفئدتهم فارغة من قلوبهم قد صعدت إلى الحناجر لكنها مملوءة من كل هم وغم وحزن وقلق .
وأما قوله : مُهْطِعِينَ فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه فقال بعضهم : معناه : مسرعين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد المؤدّب ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : مُهْطِعِينَ قال : النّسَلان ، وهو الخبب أو ما دون الخبب ، شكّ أبو سعيد يخبون وهم ينظرون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مُهْطِعِينَ قال : مسرعين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : مُهْطِعِينَ يقول : منطلقين عامدين إلى الداعي .
وقال آخرون : معنى ذلك : مديمي النظر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مُهْطِعِينَ يعني بالإهطاع : النظر من غير أن يطرف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى : مُهْطِعِينَ قال : الإهطاع : التحميجالدائم الذي لا يَطْرِف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن أبي الخير بن تميم بن حَذْلَم ، عن أبيه ، في قوله : مُهْطِعِينَ قال : الإهطاع : التحميج .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : مُهْطِعِينَ قال : شدّة النظر الذي لا يطرف .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : أخبرنا هُشَيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : مُهْطِعِينَ قال : شدة النظر في غير طَرْف .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مُهْطِعِينَ الإهطاع : شدة النظر في غير طَرْف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مُهْطِعِينَ قال : مُديمي النظر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : لا يرفع رأسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُهْطِعِينَ قال : المهطع الذي لا يرفع رأسه .
والإهطاع في كلام العرب بمعنى الإسراع أشهر منه بمعنى إدامة النظر ، ومن الإهطاع بمعنى الإسراع ، قول الشاعر :
وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنّ زِمامَهُ *** في رأسِ جذْعٍ مِنْ أوَالَ مُشَذّبِ
بمُسْتَهْطعٍ رَسْلٍ كأنّ جَدِيلَهُ *** بقَيْدُومِ رَعْنٍ مِنْ صَوَامٍ مُمَنّعِ
وقوله : مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ يعني رافعي رءوسهم . وإقناع الرأس : رفعه ومنه قول الشماخ :
يُباكِرْنَ العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ *** نَوَاجِذُهُنّ كالحَدَإِ الوَقيعِ
يعني : أنهنّ يباكرن العضاه برءوسهن مرفوعات إليها لتتناول منها ، ومنه أيضا قول الراجز :
أنْغَضَ نحْوِي رأسَهْ وأقْنَعا *** كأنمَا أبْصَرَ شَيْئا أطْمَعا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ قال : الإقناع : رفع رءوسهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، وقال الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ قال : رافعيها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، عن أبي سعد ، قال : قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، أنه سمع مجاهدا يقول في قوله : مُهْطعينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : رافع رأسه هكذا ، لاَ يَرْتَدّ إلَيهمْ طَرْفُهُمْ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : رافعي رءوسهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : الإقناعُ رفع رءوسهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : المقنع الذي يرفع رأسه شاخصا بصره لا يطرف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : رافعيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : المقنع الذي يرفع رأسه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : رافعي رءوسهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد ، عن سالم ، عن سعيد : مُقْنِعِي رُءُوسِهمْ قال : رافعي رءوسهم .
وقوله : لا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يقول : لا ترجع إليهم لشدّة النظر أبصارهم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لا يَرْتَدّ إلَيْهمْ طَرْفُهُمْ وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : شاخصة أبصارهم .
وقوله : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : متخرّقة لا تعي من الخير شيئا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، في قوله : وأفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : متخرقة لا تعي شيئا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، بمثل ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، مثله .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا مالك وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : متخرقة لا تعي شيئا من الخير .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا مالك ، يعني ابن مغول ، قال : سمعت أبا إسحاق ، عن مرّة إلاّ أنه قال : لا تعي شيئا . ولم يقل من الخير .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، وإسرائيل عن أبي إسحاق ، عن مرّة : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال أحدهما : خربة ، وقال الاَخر : متخرقة لا تعي شيئا .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : ليس فيها شيء من الخير فهي كالخربة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ليس من الخير شيء في أفئدتهم ، كقولك للبيت الذي ليس فيه شيء إنما هو هواء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد في قوله : وأفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : الأفئدة : القلوب هواء كما قال الله ، ليس فيها عقل ولا منفعة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن أبي بكرة ، عن أبي صالح : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : ليس فيها شيء من الخير .
وقال آخرون : إنها لا تستقرّ في مكان تردّد في أجوافهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق ، قالا : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : تمور في أجوافهم ، ليس لها مكان تستقرّ فيه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، عن أبي سعيد ، عن سالم ، عن سعيد بنحوه .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنها خرجت من أماكنها فنَشِبَت بالحلوق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع وأحمد بن إسحاق ، قالا : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن إسرائيل ، عن سعيد ، عن مسروق عن أبي الضحى : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : قد بلغت حناجرهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ قال : هواء ليس فيها شيء ، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأفْئدَتُهُمْ هَوَاءٌ انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ، ولا تعود إلى أمكنتها .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : معناه : أنها خالية ليس فيها شيء من الخير ، ولا تعقل شيئا وذلك أن العرب تسمي كلّ أجوف خاو : هواء ومنه قول حسّان بن ثابت :
ألا أبْلِغْ أبا سُفْيانَ عَنّي *** فأنْتَ مُجَوّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ
وَلا تَكُ مِنْ أخْدانِ كُلّ يَراعةٍ *** هَوَاءٍ كَسَقْبِ البانِ جُوفٍ مَكاسِرُهْ
و «المهطع » المسرع في مشيه - قاله ابن جبير وقتادة .
قال القاضي أبو محمد : وذلك بذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه - وهذا هو أرجح الأقوال - وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الكامل ]
بمهطع سرج كأن عنانه . . . في رأس جذع من أوال مشذب{[7093]}
ومن ذلك قول عمران بن حطان : [ البسيط ]
إذا دعانا فأهطعنا لدعوته . . . داع سميع فلونا وساقونا{[7094]}
ومنه قول ابن مفرغ : [ الوافر ]
بدجلة دارهم ولقد أراهم . . . بدجلة مهطعين إلى السماع{[7095]}
ومن ذلك قول الآخر : [ الطويل ]
بمستهطع رسل كأن جديله . . . بقيدوم رعد من صوام ممنع{[7096]}
وقال ابن عباس وأبو الضحى : الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد «المهطع » : الذي لا يرفع رأسه . قال أبو عبيدة : وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعاً الإسراع وإدامة النظر ، و «المقنع » هو الذي يرفع رأسه قدماً بوجهه نحو الشيء ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الشماخ ] [ الوافر ]
يباكرن العضاة بمقنعات . . . نواجذهن كالحدأ الوقيع{[7097]}
يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر .
وقال الحسن في تفسير هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد . وذكر المبرد - فيما حكي عن مكي - أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة .
قال القاضي أبو محمد : والأول أشهر .
وقوله : { لا يرتد إليهم طرفهم } أي لا يطوفون من الحذر والجزع وشدة الحال ، وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه محض ، لأنها ليست بهواء حقيقة ، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة ، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه ، ويحتمل أن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي - حناجرهم - فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب .
قال القاضي أبو محمد : وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
ولا تكن من أخدان كل يراعه . . . هواء كسقب الناب جوفاً مكاسره{[7098]}
ألا أبلغ أبا سفيان عني . . . فأنت مجوف نخب هواء{[7099]}
كأن الرحل منه فوق صعل . . . من الظلمان جوجؤه هواء{[7100]}
الإهطاع : إسراع المشي مع مد العنق كالمتختل ، وهي هيئة الخائف .
وإقناع الرأس : طأطأته من الذل ، وهو مشتق من قَنَع من باب مَنَع إذا تذلّل . و { مهطعين مقنعي رؤوسهم } حالان .
وجملة { لا يرتد إليهم طرفهم } في موضع الحال أيضاً . والطَرْف : تحرك جفن العين .
ومعنى { لا يرتد إليهم } لا يرْجع إليهم ، أي لا يعود إلى معتاده ، أي لا يستطيعون تحويله . فهو كناية عن هول ما شاهدوه بحيث يبقون ناظرين إليه لا تطرف أعينهم .
وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه بليغ ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول .
والهواء في كلام العرب : الخلاء . وليس هو المعنى المصطلح عليه في علم الطب وعلم الهيئة .