تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

ومع هذا فأعرض أكثرهم ، فهم لا يعلمون ، فتعجبوا { أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ } عذاب الله ، وخوفهم نقم الله ، وذكرهم بآيات الله .

{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } إيمانا صادقا { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : لهم جزاء موفور{[388]}  وثواب مذخور عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة .

فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به ، ف { قَالَ الْكَافِرُونَ } عنه : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } أي : بين السحر ، لا يخفى بزعمهم على أحد ، وهذا من سفههم وعنادهم ، فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب ، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم .

كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم ، الذي بعثه الله من أنفسهم ، يعرفونه حق المعرفة ، فردوا دعوته ، وحرصوا على إبطال دينه ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .


[388]:- كذا في ب وفي أ: موفر.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنّ هََذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ } .

يقول تعالى ذكره : أكان عجبا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقاب الله على معاصيه ، كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر ، فتعجبوا من وحينا إليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولاً أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى : أكانَ للنّاسِ عَجَبا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنْهُمْ . . . وقال : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : عجبت قريش أن بُعث رجل منهم . قال : ومثل ذلك : وَإلى عاد أخاهُمْ هُودا وإلى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحا قال الله : أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ على رَجُل مِنْكُمْ .

القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ .

يقول جلّ ثناؤه : أكان عجبا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله أن لهم قدم صدق عطف على «أنذر » .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله : قَدَمَ صِدْق فقال بعضهم : معناه : أن لهم أجرا حسنا بما قدّموا من صالح الأعمال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : ثواب صدق .

قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : الأعمال الصالحة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول : أجرا حسنا بما قدّموا من أعمالهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن حبان ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن مجاهد : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : صلاتهم ، وصومهم ، وصدقتهم ، وتسبيحهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قَدَمَ صِدْقٍ قال : خير .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قَدَمَ صِدْق مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : قَدَمَ صِدْق ثواب صدق عند ربهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ قال : القدم الصدق : الثواب الصدق بما قدموا من الأعمال .

وقال آخرون : معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأوّل .

وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم ، قَدَمَ صدق . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن فضيل بن عمرو بن الجون ، عن قتادة أو الحسن : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : محمد شفيع لهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ : أي سلف صدق عند ربهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : معناه أن لهم أعمالاً صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثواب وذلك أنه محكيّ عن العرب : هؤلاء أهل القدم في الإسلام أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم ، ويقال : له عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك ما قدم إليه من خير أو شرّ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :

لَنا القَدَمُ الأُولى إلَيْكَ وخَلْفُنا *** لأوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ

وقول ذي الرمّة :

لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النّاسُ أنّها *** مَعَ الحَسَبِ العادِيّ طَمّتْ على البَحْرِ

فتأويل الكلام إذا : وبشر الذين آمنوا أن لهم تقدمة خير من الأعمال الصالحة عند ربهم .

القول في تأويل قوله تعالى : قال الكافِرُونَ إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ .

اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة : إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بمعنى : إن هذا الذي جئتنا به ، يعنون القرآن «لَسِحْرٌ مُبِينٌ » . وقرأ ذلك مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قرّاء الكوفيين : إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك أن كل موصوف بصفة نزل الموصوف على صفته ، وصفته عليه ، فالقارىء مخير في القراءة في ذلك وذلك نظير هذا الحرف : قال الكافِرُونَ إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ » ولساحر مبين وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه ساحر ، ووصفهم ما جاءهم به أنه سحر يدلّ على أنهم قد وصفوه بالسحر . وإذا كان ذلك كذلك فسواء بأيّ ذلك قرأ القارىء لاتفاق معنى القراءتين . وفي الكلام محذوف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره وهو : فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي ، قال الكافرون إن هذا الذي جاءنا به لسحر مبين .

فتأويل الكلام إذا : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ، أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم ، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله : إن هذا الذي جاءنا به محمد لسحر مبين أي يبين لكم عنه أنه مبطل فيما يدعيه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

{ أكان للناس عجبا } استفهام إنكار للتعجب و{ عجبا } خبر كان واسمه : { أن أوحينا } وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على " أن كان " تامة و{ أن أوحينا } بدل من عجب ، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم . { إلى رجل منهم } من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم . قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة . هذا وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك . وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة " الأنعام " . { أن أنذر الناس } أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا . { وبشّر الذين آمنوا } عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه ، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة { أن لهم } بأن لهم { قدم صدق عند ربهم } سابقة منزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية . { قال الكافرون إن هذا } يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام . { لسحرٌ مبين } وقرأ ابن كثير والكوفيون " لساحر " على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة . وقرئ " ما هذا إلا سحر مبين " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}

ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]

لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}

وقول ذي الرمة : [ الطويل ]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}

ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .


[6000]:- قال القرطبي: "استفهام معناه التقرير والتوبيخ"، وقال الشوكاني: "لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ". وجعله الألوسي وأبو حيان للإنكار فقط.
[6001]:- قال أبو حيان: "وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية، وقيل: [كان] تامة، و[عجب] فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا؟ وهذا التوجيه حسن". فالشذوذ ناتج عنده عن فهم الزمخشري وابن عطية وليس في القراءة نفسها.
[6002]:-وهذا عجز بيت لحسان، وهو بتمامه: كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء والسبيئة: الخمر، وقد سبق الاستشهاد بهذا البيت عند تفسير قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت} الآية (35) من سورة (الأنفال).
[6003]:- ورواه في (اللسان): "القدم الأولى"، والقدم: السابقة وما تقدموا فيه غيرهم من الخير، والخلف: الباقي بعد الهالك والتابع له، سمي به المتخلف والخالف لا على جهد البدل، وجمعه: خلوف مثل قرن وقرون، والخلف هنا محمود، أما في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} فهو مذموم. والبيت من قصيدة له يذكر فيها الأيام الأولى من تاريخ المسلمين في المدينة، وهي أحد عشر بيتا.
[6004]:- أنشد هذا البيت الزمخشري في "أساس البلاغة" (قدم) قال: "ولفلان قدم في هذا الأمر: سابقة وتقدم، وله قدم صدق، قالوا ذو الرمة: "لكم قدم..." وهو في الديوان وتفسير الطبري: "مع الحسب العادي"، وفي الديوان: "على الفخر"، ومعنى العادي: القديم. ومعنى البيت: لكم سوابق تقدمت من الخير والفضل والحسب ما يعدّه الإنسان من مفاخره.
[6005]:-رواه البخاري في تفسير سورة (ق)، وفي الإيمان، وفي التوحيد، وكذلك رواه مسلم، والترمذي، والإمام أحمد في مواطن كثيرة في مسنده، ولفظه كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع قدمه فيها فتقول: قط قط)، وروى مثله عن أبي هريرة في لفظ طويل، ومثله عن أبي هريرة أيضا بلفظ موجز.
[6006]:- هذا الاحتمال غير وارد لأن بعض روايات الحديث في مسلم تقول: (حتى يضع رب العزة)، ولأن معنى الحديث يرفضه.
[6007]:- رجل صدق بفتح الصاد.جاء في الصحاح: "رجل صدق اللقاء وصدق النظر وقوم صُدُقٌ بالضم، مثل فرس ورد وأفراس ورد، وجون وجون". وفي المعجم الوسيط: الصدق: الكامل من كل شيء، يقال: "رمح صدق: مستو صلب، ورجل صدق اللقاء: ثبت فيه". ويقال كذلك بالكسر: رجل صدق. وأما السوء فبفتح السين: "يقال: رجل سوء وعمل سوء، ورجل السوء والرجل السوء" (المعجم الوسيط).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ رَجُلٖ مِّنۡهُمۡ أَنۡ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنَّ لَهُمۡ قَدَمَ صِدۡقٍ عِندَ رَبِّهِمۡۗ قَالَ ٱلۡكَٰفِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَٰحِرٞ مُّبِينٌ} (2)

{ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قد صدق عند ربهم } .

الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة { تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالاً عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبيّن أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعادَ إحالة . وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دَعا إليه وتجهيل المتسببين فيه ، ولك أن تجعله استئنافاً ابتدائياً ، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة ، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث .

فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار ، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة .

وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على ( كان ) دون أن يقال : أعجِبَ الناسُ ، هي الدلالة على التعجيب من تَعَجُّبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر .

والمعنى : أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا ، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعَرَ بأن هذا غير متوقَّع حصوله .

و { للناس } متعلق ب { كَان } لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم ، لأن أصل اللام أن تفيد الملك ، ويستعار ذلك للتمكن ، أي لتمكن الكون عجباً من نفوسهم .

و { عَجباً } خبر { كان } مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار .

و { أنْ وأحينا } اسم كان ، وجيء فيه ب ( أنْ ) والفعل دون المصدر الصريح وهو وَحْينا ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقاً لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمداً .

والعجب : مصدر عَجِب ، إذا عَدَّ الشيءَ خارجاً عن المألوف نادر الحصول . ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيباً جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأوْلى ويَقلع التكذيب من عروقه .

ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع ، كما في قوله تعالى : { قالت يا ويْلتي أألِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله } في سورة [ هود : 72 ، 73 ] وقوله : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في سورة [ الأعراف : 63 ] . وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كانَ إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يُوحى إليهم } [ النحل : 43 ] وقال : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] وقال : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 95 ] .

وأطلق { الناس } على طائفة من البشر ، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام .

وهذا الإطلاق مثل ما في قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] . وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : الله أعظم من أن يكون له رسول بشراً ، فأنزل الله تعالى : { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } .

و { أن } في قوله : { أن أنذر الناس } تفسيرية لفعل { أوحينا } لأن الوحي فيه معنى القول .

و { الناس } الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم ، فهو عموم عرفي . ولكون المراد ب { الناس } ثانياً غير المراد به أولَ ذُكر بلفظه الظاهر دون أن يقال : أن أنذرهم .

ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمرُ بالتبشير للذين آمنوا بقي { الناس } المتعلق بهم الإنذار مخصوصاً بغير المؤمنين .

وحذف المنذر به للتهويل ، ولأنه يُعلم حاصله من مقابلته بقوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قَدَم صدق } ، وفعل التبشير يتعدى بالباء ، فالتقدير : وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق ، فحذف حرف الجر مع ( أنَّ ) جرياً على الغالب .

والقَدم : اسم لما تَقدم وسلَف ، فيكون في الخير والفضل وفي ضده . قال ذو الرمة :

لكم قَدم لا ينكِر الناس ألها *** مع الحَسَب العادِيّ طَمَّت على البحر

وذكر المازري في « المُعْلم » عن ابن الأعرابي : أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة . وهو فَعَل بمعنى فاعل مثل سلَف وثَقَل . قال ابن عطية : ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " حتى يضع رب العزة فيها قَدَمه فتقول قط قط " يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبيء الله صلى الله عليه وسلم ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة ( وفي رواية الجبار ) فيها قدمه فتقول قط قط ، وعزتك . ويُزوَى بعضُها إلى بعض . وهذا أحد تأويلين لمعنى « قَدمه » . وأصل ذلك في « المُعلم على صحيح مسلم » للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل .

والمراد ب { قدم صدق } في الآية قدم خَير ، وإضافة { قدم } إلى { صِدق } من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله قدمٌ صِدقٌ ، أي صادق وهو وصف بالمصدر : فعلى قول الجمهور يكون وصف { صدق } ل { قدم } وصفاً مقيِّداً . وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفاً كاشفاً .

والصدق : موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد ، واشتهر في مطابقة الخَبر . ويضاف شيء إلى ( صدق ) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } [ يونس : 90 ] وقوله : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] .

وقوله : { أن أنذر الناس } تفسير لفعل { أوحينا } . وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم . وإيضاً في ذكر المفسِّر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية .

{ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ }

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : { أكان للناس عجباً } الخ . ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبىء عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول : { إن هذا لسحر مبين } [ يونس : 76 ] أو { إن هذا لساحِر مبين } فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة { أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا } .

وقرأه الجمهور « لسِحْر » بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر ، أي أن هذا الكلام كلام السحرِ ، أي أنه كلام يُسحر به . فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاماً غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة ، فالإشارة إلى الوحي .

وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي { لسَاحر } فالإشارة إلى رجل من قوله : { إلى رجل منهم } وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإن وصفهم إياه بالسحر ينبىء بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذياناً وباطلاً فهرعوا إلى ادعائه سِحراً ، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالاً تستنزل عقول المسحورين . وهذا من عجزهم من الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه .

والسحر : تخييل ما ليس بكائن كائناً . وقد تقدم عند قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } في سورة [ البقرة : 102 ] .

والمبين : اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، أي ظهر ، أي سحر واضح ظاهر . وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين .