ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل ، فقال : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } فأنا عبد متبع لأمرك ، لا متجرئ على عظمتك ، { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي : ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له ، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله ، وبيان أني عبد مربوب ، فكما أنه ربكم فهو ربي .
{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أشهد على من قام بهذا الأمر ، ممن لم يقم به . { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } أي : المطلع على سرائرهم وضمائرهم . { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } علما وسمعا وبصرا ، فعلمك قد أحاط بالمعلومات ، وسمعك بالمسموعات ، وبصرك بالمبصرات ، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى ، يقول : ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم ، وهو أن قلت لهم " اعْبُدُوا الله رَبّي ورَبّكُمْ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا " يقول : وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم . " فَلمّا توفّيْتَني " يقول : فلما قبضتني إليك ، " كُنْتُ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيهِمْ " يقول : كنت أنت الحفيظ عليهم دوني ، لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم .
وفي هذا تبيان أن الله تعالى إنما عرّفه أفعال القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله : " أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ . . . " وأنْتَ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ " يقول : وأنت تشهد على كل شيء ، لأنه لا يخفى عليك شيء ، وأما أنا فإنما شهدت بعض الأشياء ، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم ، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيت وشهدت .
وبنحو الذي قلنا في قوله : " كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ " قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ " أما الرقيب : فهو الحفيظ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : " كُنْتَ أنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ " قال : الحفيظ .
وكانت جماعة من أهل العلم تقول : كان جواب عيسى الذي أجاب به ربه من الله تعالى توقيفا منه له فيه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ " قال : الله وقّفه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، قال : قرئ على سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه طاوس ، قال : احتجّ عيسى والله وقّفه : " أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ . . . " الاية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جريج ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قال : قال الله تعالى : " يا عِيسَى ابْنَ مَرْيمَ أأنْتَ قُلْتَ للنّاسِ اتّخِذُونِي وأُمّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّه " ؟ قال : فأرعدت مفاصله ، وخشي أن يكون قد قالها ، ف " قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إنّكَ أنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ .
{ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه . { أن اعبدوا الله ربي وربكم } عطف بيان للضمير في به ، أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا راجع ، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني ، ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول ولا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى الله سبحانه وتعالى ، وهو لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم والقول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن { اعبدوا الله } . { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي رقيبا عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك ويعتقدوه ، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر وإيمان . { فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء لقوله : { إني متوفيك ورافعك } والتوفي أخذ الشيء وافيا ، والموت نوع منه قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } . { كنت أنت الرقيب عليهم } المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآيات . { وأنت على كل شيء شهيد } مطلع عليه مراقب له .
ثم أخبر عما صنع في الدنيا وقال في تبليغه ، وهو أنه لم يتعد أمر الله في أن أمرهم بعبادته وأقر بربوبيته و { أن } في قوله { أن اعبدوا الله } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[4803]} . ويصح أن تكون بدلاً من { ما }{[4804]} ويصح أن تكون في موضع خفض على تقدير بأن اعبدوا الله ، ويصح أن تكون بدلاً من الضمير في { به } ثم أخبر عليه السلام أنه كان شهيداً ما دام فيهم في الدنيا ، فما ظرفية . وقوله { فلما توفيتني } قبضتني إليك بالرفع والتصيير في السماء{[4805]} . والرقيب : الحافظ المراعي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.