{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } الدنيا { أَعْمَى } عن الحق فلم يقبله ، ولم ينقد له ، بل اتبع الضلال . { فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى } عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا ، { وَأَضَلُّ سَبِيلًا } فإن الجزاء من جنس العمل ، كما تدين تدان .
وفي هذه الآية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها ، هل عملت به أم لا ؟
وأنهم لا يؤاخذون بشرع نبي لم يؤمروا باتباعه ، وأن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه ومخالفته لها .
وأن أهل الخير ، يعطون كتبهم بأيمانهم ، ويحصل لهم من الفرح والسرور شيء عظيم ، وأن أهل الشر بعكس ذلك ، لأنهم لا يقدرون على قراءة كتبهم ، من شدة غمهم وحزنهم وثبورهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هََذِهِ أَعْمَىَ فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أَعْمَىَ وَأَضَلّ سَبِيلاً } .
اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أشير إليه بقوله «هذه » ، فقال بعضهم : أشير بذلك إلى النعم التي عدّدها تعالى ذكره بقوله : وَلَقَدْ كَرّمنا بَنِي آدَمَ وَحَملناهُمْ فِي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطّيّباتِ وَفَضّلناهُمْ على كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنا تَفَضِيلاً فقال : وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن محمد بن أبي موسى ، قال : سئل عن هذه الاَية وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أعمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعمَى وأضَلّ سَبِيلاً فقال : قال وَلَقد كَرّمنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلناهُمْ فِي البَرّ والبَحرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطّيّباتِ وَفَضّلْناهُمْ على كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً قال : من عمي عن شكر هذه النعم في الدنيا ، فهو في الاَخرة أعمى وأضلّ سبيلاً .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله فيها وحججه ، فهو في الاَخرة أعمى . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى يقول : من عمي عن قُدرة الله في الدنيا فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في هَذِهِ أعْمَى قال : الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى يقول : من كان في هذه الدنيا أعمى عما عاين فيها من نعم الله وخلقه وعجائبه فَهُوَ فِي الاَخَرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً فيما يغيب عنه من أمر الاَخرة وأعمى .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السموات والأرض والجبال والنجوم فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ الغائبة التي لم يرها أعْمى وأضَلّ سَبِيلاً .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسئل عن قول الله تعالى وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى وأضَلّ سَبِيلاً فقرأ : إنّ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ لاَياتٍ للْمُؤْمِنِينَ وفِي أنْفُسِكُمْ أفَلا تُبْصِرُونَ . وقرأ : وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ إذَا أنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ، وقرأ حتى بلغ : وَلَهُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال : كلّ له مطيعون ، إلا ابن آدم . قال : فمن كانت في هذه الاَيات التي يعرف أنها منا ، ويشهد عليها وهو يرى قدرتنا ونعمتنا أعمى ، فهو في الاَخرة التي لم يرها أعمى وأضلّ سبيلاً .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها ، وتصريف ما فيها ، فهو في أمر الاَخرة التي لم يرها ولم يعاينها ، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلاً : يقول : وأضلّ طريقا منه في أمر الدنيا التي قد عاينها ورآها .
وإنما قلنا : ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره لم يخصص في قوله وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ الدنيا أعْمَى عمى الكافر به عن بعض حججه عليه فيها دون بعض ، فيوجه ذلك إلى عماه عن نعمه بما أنعم به عليه من تكريمه بني آدم ، وحمله إياهم في البرّ والبحر ، وما عدّد في الاَية التي ذكر فيها نعمه عليهم ، بل عمّ بالخبر عن عماه في الدنيا ، فهم كما عمّ تعالى ذكره .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى فكسرت القَرأَةُ جميعا أعني الحرف الأوّل قوله وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أعْمَى . وأما قوله فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى فإن عامة قرّاء الكوفيين أمالت أيضا قوله : فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى . وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتحه ، وتأوّله بمعنى : فهو في الاَخرة أشدّ عمى . واستشهد لصحة قراءته بقوله : وأضَلّ سَبِيلاً .
وهذه القراءة هي أَوْلى القراءتين في ذلك بالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك ، وإنما كره من كره قراءته كذلك ظنا منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى ، إذ كان عمى البصر لا يتفاوت ، فيكون أحدهما أزيد عمى من الاَخر ، إلا بإدخال أشدّ أو أبين ، فليس الأمر في ذلك كذلك .
وإنما قلنا : ذلك من عمى القلب الذي يقع فيه التفاوت ، فإنما عُنِي به عمى قلوب الكفار ، عن حجج الله التي قد عاينتها أبصارهم ، فلذلك جاز ذلك وحسُن . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَهُوَ فِي الاَخِرَةِ أعْمَى قال : أعمى عن حجته في الاَخرة .
{ يوم ندعو } نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه { ولا يظلمون } ، وقرئ " يدعو " و " يدعي " و " يدعو " على قلب الألف واواً لي لغة من يقول أفعو في أفعى ، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع ، وهو قد يقدر كما في " يدعي " . { كل أناس بإمامهم } بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين . وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا ، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال . وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم . وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف ، والحكمة في ذلك ، إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا . { فمن أُوتي } من المدعوين . { كتابه بيمينه } أي كتاب عمله . { فأولئك يقرءون كتابهم } ابتهاجا وتبجحا بما يرون فيه . { ولا يُظلمون فتيلاً } ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع ، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة ، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } أيضا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب ، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة .
{ وأضل سبيلا } منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة . وقيل لان الاهتداء بعد لا ينفعه والأعمى مستعار من فاقد الحاسة . وقيل الثاني للتفضيل من عمي بقلبه كالأجهل والأبله ولذلك لم يمله أبو عمرو ويعقوب ، فإن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم المتوسطة كما في أعمالكم بخلاف النعت ، فإن ألفه واقعة في الطرف لفظا وحكما فكانت معرضة للإمالة من حيث إنها تصير ياء في التثنية ، وقد أمالهما حمزة والكسائي وأبو بكر ، وقرأ ورش بين بين فيهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.