ولما كان الأمر بالقتال ، لو لم يقيد ، لشمل الأشهر الحرم وغيرها ، استثنى تعالى ، القتال في الأشهر الحرم فقال : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا ، وقال بعض المفسرين : إنه لم ينسخ ، لأن المطلق محمول على المقيد ، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا ، ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم ، بل أكبر مزاياها ، تحريم القتال فيها ، وهذا إنما هو في قتال الابتداء ، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم ، كما يجوز في البلد الحرام .
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل ، لسرية عبد الله بن جحش ، وقتلهم عمرو بن الحضرمي ، وأخذهم أموالهم ، وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب ، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم ، وكانوا في تعييرهم ظالمين ، إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين ، قال تعالى في بيان ما فيهم : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله ، وفتنتهم من آمن به ، وسعيهم في ردهم عن دينهم ، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، الذي هو بمجرده ، كاف في الشر ، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام ؟ ! { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } أي : أهل المسجد الحرام ، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأنهم أحق به من المشركين ، وهم عماره على الحقيقة ، فأخرجوهم { مِنْهُ } ولم يمكنوهم من الوصول إليه ، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد ، فهذه الأمور كل واحد منها { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } في الشهر الحرام ، فكيف وقد اجتمعت فيهم ؟ ! فعلم أنهم فسقة ظلمة ، في تعييرهم المؤمنين .
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين ، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم ، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم ، ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير ، فهم باذلون قدرتهم في ذلك ، ساعون بما أمكنهم ، { ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون }
وهذا الوصف عام لكل الكفار ، لا يزالون يقاتلون غيرهم ، حتى يردوهم عن دينهم ، وخصوصا ، أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، الذين بذلوا الجمعيات ، ونشروا الدعاة ، وبثوا الأطباء ، وبنوا المدارس ، لجذب الأمم إلى دينهم ، وتدخيلهم عليهم ، كل ما يمكنهم من الشبه ، التي تشككهم في دينهم .
ولكن المرجو من الله تعالى ، الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام ، واختار لهم دينه القيم ، وأكمل لهم دينه ، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام ، وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره ، ويجعل كيدهم في نحورهم ، وينصر دينه ، ويعلي كلمته .
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار ، كما صدقت على من قبلهم : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام ، بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا ، { فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } لعدم وجود شرطها وهو الإسلام ، { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ودلت الآية بمفهومها ، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته ، وكذلك من تاب من المعاصي ، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك يا محمد أصحابك عن الشهر الحرام وذلك رجب عن قتال فيه . وخفض «القتال » على معنى تكرير عن عليه ، وكذلك كانت قراءة عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا . وقد :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قال : يقول : يسألونك عن قتال فيه . قال : وكذلك كان يقرؤها : «عن قتال فيه » .
قال أبو جعفر : قل يا محمد قتال فيه ، يعني في الشهر الحرام كبير : أي عظيم عند الله استحلاله ، وسفك الدماء فيه .
ومعنى قوله : قِتالٍ فِيهِ قل القتال فيه كبير . وإنما قال : قل قتال فيه كبير ، لأن العرب كانت لا تقرع فيه الأسنة ، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيما له ، وتسميه مضر «الأصمّ » لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه . وقد :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا شعيب بن الليث ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا الزبير ، عن جابر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى ، أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ .
وقوله جل ثناؤه : وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ومعنى الصدّ عن الشيء : المنع منه ، والدفع عنه ، ومنه قيل : صدّ فلان بوجهه عن فلان : إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه .
وقوله : وكُفْرٌ بِه يعني : وكفر بالله ، والباء في به عائدة على اسم الله الذي في سبيل الله .
وتأويل الكلام : وصدّ عن سبيل الله ، وكفر به ، وعن المسجد الحرام وإخراج أهل المسجد الحرام ، وهم أهله وولاته أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتال في الشهر الحرام . فالصدّ عن سبيل الله مرفوع بقوله أكبرُ عنَد اللّهِ وقوله : وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ عطف على الصدّ ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال : وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ يعني : الشرك أعظم وأكبر من القتل ، يعني من قتل ابن الحضرمي الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام .
وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله : وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ معطوف على «القتال » ، وأن معناه : يسألونك عن الشهر الحرام ، عن قتال فيه ، وعن المسجد الحرام ، فقال الله جل ثناؤه : وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتال في الشهر الحرام .
وهذا القول مع خروجه من أقوال أهل العلم ، قول لا وجه له لأن القوم لم يكونوا في شكّ من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة ، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم ، وهل ذلك كان لهم ؟ بل لم يدّع ذلك عليهم أحد من المسلمين ، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وإذْ كان ذلك كذلك ، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عما ارتابوا بحكمه كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي ، إذ ادّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام ، فسألوا عن أمره ، لارتيابهم في حكمه . فأما إخراج المشركين أهل الإسلام من المسجد الحرام ، فلم يكن فيهم أحد شاكا أنه كان ظلما منهم لهم فيسألوا عنه .
ولا خلاف بين أهل التأويل جميعا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله . ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني الزهري ، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه بثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره ، ولا يستكره من أصحابه أحدا . وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة بن ربيعة ومن بني أمية بن عبد شمس ، ثم من حلفائهم عبد الله بن جحش بن رياب ، وهو أمير القوم ، وعكّاشة بن محصن بن حرثان أحد بني أسد بن خزيمة ، ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم ، ومن بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص ، ومن بني عديّ بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم ، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عويم بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة ، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم ، ومن بني الحرث بن فهر سهيل بن بيضاء . فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه ، فإذا فيه : «إذا نظرت إلى كتابي هذا ، فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا ، وتعلّم لنا من أخبارهم » . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعا وطاعة ، ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى أصحابه معه ، فلم يتخلف عنه أحد ، وسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرُع يقال له نُجْران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا عليه يعتقبانه ، فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها منهم عمرو بن الحضرمي ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم ، وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وقد كان حلق رأسه فلما رأوه أمنوا وقالوا : عُمار فلا بأس علينا منهم وتشاور القوم فيهم ، وذلك في أخر يوم من جمادى ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلُنّ الحرم فليمتنعنّ به منكم ، ولئن قتلتموهم لنقتلنهم في الشهر الحرام . فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم . وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة . وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله بن جحش قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمس وذلك قبل أن يفرض الخمس من الغنائم . فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أمَرْتُكُمْ بِقِتالٍ فِي الشّهْرِ الحَرَامِ » ، فوقف العير والأسيرين ، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، سُقِط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم المسلمون فيما صنعوا ، وقالوا لهم : صنعتم ما لم تؤمروا به ، وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال وقالت قريش : قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ، فسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا . فقال من يردّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى وقالت يهود تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله ، عمرو : عمرت الحرب ، والحضرمي : حضرت الحرب ، وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب فجعل الله عليهم ذلك وبهم . فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ أي عن قتال فيه قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ إلى قوله : وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم عنه ، إذ أنتم أهله وولاته ، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه وذلك أكبر عند الله من القتل ، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفَق ، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر ، وأمّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل ، وسهيل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة ، وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب وكتب مع ابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل مَلَل ، فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب ، فإذا فيه : أن سر حتى تنزل بطن نخلة . فقال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص ، فإني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان أضلا راحلة لهما ، فأتيا نُجْران يطلبانها ، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هم بالحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة ، والمغيرة بن عثمان ، وعمرو بن الحضرمي . فاقتتلوا ، فأسروا الحكم بن كيسان وعبد الله بن المغيرة ، وانفلت المغيرة ، وقتل عمرو بن الحضرمي ، قتله واقد بن عبد الله ، فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «حّتى نَنْظُرَ ما فَعَلَ صَاحِبانا » فلما رجع سعد وصاحبه فادى بالأسيرين ، ففجر عليه المشركون وقالوا : محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله ، وهو أوّل من استحلّ الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب ، فقال المسلمون : إنما قتلناه في جمادى ، وقيل في أول ليلة من رجب ، وآخر ليلة من جمادى وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رجب ، فأنزل الله جل وعز يعير أهل مكة : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا مشعر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله ، وصددتم عنه محمدا وأصحابه ، وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمدا ، أكبر من القتل عند الله ، والفتنة هي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام ، فذلك قوله : وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي ، عن أبيه أنه حدثه رجل ، عن أبي السوار يحدثه ، عن جندب بن عبد الله . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطا ، فبعث عليهم أبا عبيدة فلما أخذ لينطلق بكى صبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث رجلاً مكانه يقال له عبد الله بن جحش ، وكتب له كتابا ، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا ، ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك على السير معك . فلما قرأ الكتاب استرجع وقال : سمعا وطاعة لأمر الله ورسوله . فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب . فرجع رجلان ومضى بقيتهم . فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ؟ فقال المشركون للمسلمين : فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث ، فأنزل الله عز وجل : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ والفتنة : هي الشرك .
وقال بعض الذين أظنه قال : كانوا في السرية : والله ما قتله إلا واحد ، فقال : إن يكن خيرا فقد وَلِيت ، وإن يكن ذنبا فقد عملت .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قال : إن رجلاً من بني تميم أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم في سرية ، فمرّ بابن الحضرمي يحمل خمرا من الطائف إلى مكة ، فرماه بسهم فقتله وكان بين قريش ومحمد عقد ، فقتله في آخر يوم من جمادى الاَخرة ، وأول يوم من رجب ، فقالت قريش : في الشهر الحرام ولنا عهد ؟ فأنزل الله جل وعز : قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ الله وكُفْرٌ بِهِ و صدّ عن المَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ الله من قتل ابن الحضرمي ، والفتنة كفر بالله ، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، وعثمان الجزري ، عن مقسم مولى ابن عباس ، قال : لقي واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي في أول ليلة من رجب ، وهو يرى أنه من جمادى فقتله ، وهو أول قتيل من المشركين ، فعير المشركون المسلمين فقالوا : أتقتلون في الشهر الحرام ؟ فأنزل الله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالَمسْجِدِ الحَرَامِ يقول : وصدّ عن سبيل الله ، وكفر بالله والمسجد الحرام ، وصد عن المسجد الحرام وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من قتل عمرو بن الحضرمي والفتنة : يقول : الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا . قال الزهري : وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرّم القتال في الشهر الحرام ثم أُحِلّ بعد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وذلك أن المشركين صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل ، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام ، فقال الله جل وعز : وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِه مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من القتل فيه وإن محمدا بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب وإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم واحد . وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فقال الله جل وعز : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وغير ذلك أكبر منه صدّ عن سبيل الله ، وكفر به ، والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه ، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ والشرك بالله أشد .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال : لما نزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ إلى قوله : وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ استكبروه ، فقال : والفتنة : الشرك الذي أنتم عليه مقيمون أكبر مما استكبرتم .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش ، فلقي ناسا من المشركين ببطن نخلة ، والمسلمون يحسبون أنه آخر يوم من جمادى ، وهو أول يوم من رجب ، فقتل المسلمون ابن الحضرمي ، فقال المشركون : ألستم تزعمون أنكم تحرمون الشهر الحرام والبلد الحرام ؟ وقد قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ إلى قوله : أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ مِنَ الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي والفتنة التي أنتم عليها مقيمون ، يعني الشرك أكبر من القتل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : وكان يسميها ، يقول : لقي واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلة فقتله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ فيمن نزلت ؟ قال : لا أدري ، قال ابن جريج : قال عكرمة ومجاهد : في عمرو بن الحضرمي ، قال ابن جريج : وأخبرنا ابن أبي حسين عن الزهري ذلك أيضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ قال يقول : صدّ عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه ، فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي ، والفتنة أكبر من القتل كفر بالله وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فعير المشركون المسلمين بذلك ، فقال الله : قتال في الشهر الحرام كبير ، وأكبر من ذلك صدّ عن سبيل الله وكفر به ، وإخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام .
وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك ، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع «الصدّ » به ، وأن رافعه «أكبر عند الله » ، وهما يؤكدان صحة ما روينا في ذلك عن ابن عباس ، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوع على العطف على الكبير .
وقول من زعم أن معناه : وكبير صدّ عن سبيل الله ، وزعم أن قوله : «وإخراج أهله منه أكبر عند الله » خبر منقطع عما قبله مبتدأ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي في قوله : وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ قال : يعني به الكفر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ من ذلك . ثم عير المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال : وَالفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ أي الشرك بالله أكبر من القتل . وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك رُوي عن ابن عباس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : لما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب ، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرونه بذلك ، فقال : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وغير ذلك أكبر منه : صدّ عن سبيل الله ، وكفر به ، والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر من الذي أصاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله : وصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فقال بعض نحويي الكوفيين في رفعه وجهان : أحدهما : أن يكون الصدّ مردودا على الكبير ، يريد : قل القتال فيه كبير ، وصدّ عن سبيل الله وكفر به ، وإن شئت جعلت الصدّ كبيرا ، يريد به : قل القتال فيه كبير ، وكبير الصدّ عن سبيل الله والكفر به ، قال : فأخطأ ، يعني الفراء في كلا تأويليه ، وذلك أنه إذا رفع الصدّ عطفا به على كبير ، يصير تأويل الكلام : قل القتال في الشهر الحرام كبير ، وصدّ عن سبيل الله ، وكفر بالله . وذلك من التأويل خلاف ما عليه أهل الإسلام جميعا ، لأنه لم يدّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرا بالله ، بل ذلك غير جائز أن يتوهم على عاقل يعقل ما يقول أن يقوله ، وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة ، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك : وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ ؟ فلو كان الكلام على ما رآه جائزا في تأويله هذا ، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام كان أعظم عند الله من الكفر به ، وذلك أنه يقول في أثره : وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظم عند الله من الكفر به ، ما يبين عن خطأ هذا القول . وأما إذا رفع الصد بمعنى ما زعم أنه الوجه الاَخر ، وذلك رفعه بمعنى : وكبير صد عن سبيل الله ، ثم قيل : وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، صار المعنى : إلى أن إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام أعظم عند الله من الكفر بالله ، والصدّ عن سبيله ، وعن المسجد الحرام ، ومتأوّل ذلك كذلك داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائل القول الأول من تصييره بعض خلال الكفر أعظم عند الله من الكفر بعينه ، وذلك مما لا يُخيل على أحد خطؤه وفساده .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : القول الأول في رفع الصد ، ويزعم أنه معطوف به على الكبير ، ويجعل قوله : وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مرفوعا على الابتداء ، وقد بينا فساد ذلك وخطأ تأويله .
ثم اختلف أهل التأويل في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ هل هو منسوخ أم ثابت الحكم ؟ فقال بعضهم : هو منسوخ بقوله الله جل وعز : وَقاتِلُوا المُشْركِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافّةً وبقوله : اقْتُلُوا المُشْركينَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن ميسرة : أحل القتال في الشهر الحرام في براءة قوله : فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنّ أنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا المُشْرِكينَ كافّةً يقول : فيهن وفي غيرهن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ، ثم أحلّ بعد .
وقال آخرون : بل ذلك حكم ثابت لا يحل القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية ، لأن الله جعل القتال فيه كبيرا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : قلت لعطاء : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قلت : ما لهم وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام ، ثم غزوهم بعد فيه ، فحلف لي عطاء بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام ، ولا أن يقاتلوا فيه ، وما يستحب ، قال : ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتلوا ولا إلى الجزية تركوا ذلك .
والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة ، من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخ بقول الله جل ثناؤه : ( إنّ عِدّةَ الشّهِور عِنْدَ الله اثْنا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهنّ أنْفُسَكُمْ ، وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكمْ كافّة . وإنما قلنا ذلك ناسخ لقوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس لحرب من بها من المشركين في بعض الأشهر الحرم ، وذلك في شوّال وبعض ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم . فكان معلوما بذلك أنه لو كان القتال فيهن حراما وفيه معصية ، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم . وأخرى : أن جميع أهل العلم بسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أن بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في أول ذي القعدة ، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة ، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القوم الحرب ويحاربهم حتى رجع عثمان بالرسالة ، وجرى بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح ، فكفّ عن حربهم حينئذ وقتالهم ، وكان ذلك في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم . فإذا كان ذلك كذلك فبين صحة ما قلنا في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وأنه منسوخ .
فإن ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرم كان بعد استحلال النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهنّ لما وصفنا من حروبه ، فقد ظنّ جهلاً وذلك أن هذه الآية ، أعني قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتالٍ فِيهِ في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه ، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه ، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الاَخرة من السنة الثانية من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهجرته إليها ، وكانت وقعة حنين والطائف في شوّال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها ، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتى يَرُدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا .
يعني تعالى ذكره : ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني الزهري ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير : وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتى يَرّدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا أي هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين ، يعني على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردوهم إلى الكفر ، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وَلا يَزَالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حّتى يَرّدّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إنِ اسْتَطاعُوا قال : كفار قريش .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خالِدُون .
يعني بقوله جل ثناؤه : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ من يرجع منكم عن دينه ، كما قال جل ثناؤه : فارْتَدّا على آثارهِما قَصَصا يعني بقوله : فارتدا : رجعا . ومن ذلك قيل : استردّ فلان حقه من فلان ، إذا استرجعه منه . وإنما أظهر التضعيف في قوله : يَرْتَدِدْ لأن لام الفعل ساكنة بالجزم ، وإذا سكنت فالقياس ترك التضعيف ، وقد تضعف وتدغم وهي ساكنة بناء على التثنية والجمع .
وقوله : فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ يقول : من يرجع عن دينه ، دين الإسلام ، فيمت وهو كافر ، فيمت قبل أن يتوب من كفره ، فهم الذين حبطت أعمالهم يعني بقوله : حَبِطَتْ أعْمالُهُمْ بطلت وذهبت ، وبطولها : ذهاب ثوابها ، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والاَخرة .
وقوله : وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خالِدُونَ يعني الذين ارتدوا عن دينهم فماتوا على كفرهم ، هم أهل النار المخلدون فيها . وإنما جعلهم أهلها لأنهم لا يخرجون منها ، فهم سكانها المقيمون فيها ، كما يقال : هؤلاء أهل محلة كذا ، يعني سكانها المقيمون فيها . ويعني بقوله : هُمْ فِيهَا خالِدُونَ هم فيها لابثون لبثا من غير أمد ولا نهاية .