{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } المالك : هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى ، ويثيب ويعاقب ، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات ، وأضاف الملك ليوم الدين ، وهو يوم القيامة ، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم ، خيرها وشرها ، لأن في ذلك اليوم ، يظهر للخلق تمام الظهور ، كمال ملكه وعدله وحكمته ، وانقطاع أملاك الخلائق . حتى [ إنه ] يستوي في ذلك اليوم ، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار .
كلهم مذعنون لعظمته ، خاضعون لعزته ، منتظرون لمجازاته ، راجون ثوابه ، خائفون من عقابه ، فلذلك خصه بالذكر ، وإلا ، فهو المالك ليوم الدين وغيره من الأيام .
بعد أن بين - سبحانه - لعباده موجبات حمده ، وأنه الجدير وحده بالحمد ، لأنه المربى الرحيم ، والمنعم الكريم ، أتبع ذلك ببيان أنه - سبحانه - { مالك يَوْمِ الدين } .
والمالك وصف من الملك - بكسر الميم - بمعنى حيازة الشيء مع القدرة على التصرف فيه . واليوم فى العرف : ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها ، وليس هذا مرادًا هنا ، وإنما المراد مطلق الزمن وهو يوم القيامة .
والدين : الجزاء والحساب ، يقال : دنته بما صنع ، أى : جازيته على صنيعه ، ومنه قولهم . كما تدين تدان . أى : كما تفعل تجازى ، وفى الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أى : حاسب نفسه : والمعنى : أنه - تعالى - يتصرف فى أمور يوم الدين من حساب وثواب وعقاب ، تصرف المالك فيما يملك ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وهناك قراءة أخرى للآية وهى { مالك يَوْمِ الدين } من الملك - بضم الميم - وعليها يكون المعنى : أنه - تعالى - هو المدبر لأمور يوم الدين ، وأن له على ذلك اليوم هيمنة الملوك وسيطرتهم ، فكل شئ فى ذلك اليوم يجرى بأمره ، وكل تصرف فيه ينفذ باسمه ، كما قال - تعالى - { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } قال الإِمام ابن كثير : " وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإِخبار بأنه رب العالمين ، وذلك عام فى الدنيا والآخرة . وإنما أضيف إلى يوم الدين ، لأنه لا يدعى أحد هنالك شيئًا ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } والملك فى الحقيقة هو الله ، قال - تعالى - { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام } وفى الصحيحين عن أبى هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يقبض الله الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ، أين المتكبرون " ثم قال : وأما تسمية غيره فى الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال - تعالى - { إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } وفى هذه الأوصاف التى أجريت على الله تعالى ، من كونه ربا للعالمين وملكا للأمر كله يوم الجزاء ، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به فى قوله : { الحمد للَّهِ } فى كل ذلك دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد والثناء عليه ، بل لا يستحق ذلك على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له " .
والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإِنسان وغرس الإِيمان العميق فى قلبه ، لأنه إذا آمن بأن هناك يوما يظهر فيه إحسان المحسن وإساءة المسيء ، وأن زمام الحكم فى ذلك اليوم لله الواحد القهار ، فإنه في هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه ، ويجتهد فى السير على الطريق المستقيم .
إتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى ، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة ، فإنه لما وصف تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم وكان ذلك مفيداً لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم ، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر ، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة ، وكان معظم تلك التشريعات مشتملاً على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة ، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففاً عن المكلفين عِبءَ العصيان لما أمروا به ومثيراً لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكَّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف ، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحُكم في يوم الجزاء : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } [ غافر : 17 ] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم ، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد ، وجعل مِصداقُ ذلك الجزاء يوم القيامة ، ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافاً إلى يوم الدين . فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم ، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم . ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب رحمة وصفحاً ، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها .
فإن قلت فإذا كان إجراء الأوصاف السابقة مؤذناً بأن جميع تصرفات الله تعالى فينا رحمة فقد كفى ذلك في الحث على الامتثال والانتهاء إذ المرء لا يخالف ما هو رحمة به فلا جرم أن ينساق إلى الشريعة باختياره . قلت المخاطبون مراتب : منهم من لا يهتدي لفهم ذلك إلا بعد تعقيب تلك الأوصاف بهذا الوصف ، ومنهم من يهتدي لفهم ذلك ولكنه يظن أن في فعل الملائم له رحمة به أيضاً فربما آثر الرحمة الملائمة على الرحمة المنافرة وإن كانت مفيدة له ، وربما تأول الرحمة بأنها رحمة للعموم وأنه إنما يناله منها حظ ضعيف فآثر رحمة حظه الخاص به على رحمة حظه التابع للعامة . وربما تأول أن الرحمة في تكاليف الله تعالى أمر أغلبي لا مطرد وأن وصفه تعالى بالرحمن بالنسبة لغير التشريع من تكوين ورزقٍ وإحياءٍ ، وربما ظن أن الرحمة في المآل فآثر عاجل ما يلائمه . وربما علم جميع ما تشتمل عليه التكاليف من المصالح باطراد ولكنه ملكته شهوته وغلبت عليه شقوته .
فكل هؤلاء مظنة للإعراض عن التكاليف الشرعية ، ولأمثالهم جاء تعقيب الصفات الماضية بهذه الصفة تذكيراً لهم بما سيحصل من الجزاء يوم الحساب لئلا يفسد المقصود من التشريع حين تتلقفه أفهام كل متأول مضيع . ثم إن في تعقيب قوله : { رب العالمين الرحمن الرحيم } بقوله : { ملك يوم الدين } إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن تتميم .
وقوله ( ملك ) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ( مالك ) بالألف فالأول صفة مشبهة صارت اسماً لصاحب المُلك ( بضم الميم ) والثاني اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالمِلك ( بكسر الميم ) وكلاهما مشتق من مَلَك ، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ، والتحقيق والاعتبار ، وقراءة ( ملك ) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن المَلِك بفتح الميم وكسر اللام هو ذو المُلك بضم الميم والمُلك أخص من المِلك ، إذ المُلك بضم الميم هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم وموَاطنهم فلذالك يقال : مَلِك الناس ولا يقال : مَلك الدواب أو الدراهم ، وأما المِلك بكسر الميم فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره .
وقرأ الجمهور ( ملك ) بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبيء صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر في « كتاب الترمذي » . قال ابن عطية : حكى أبو علي عن بعض القراء أن أول من قرأ ( مَلِك يوم الدين ) مروان بن الحكم فرده أبو بكر بن السراج بأن الأخبار الواردة تبطل ذلك فلعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ بها في بلد مخصوص . وأما قراءة ( مالك ) بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير ، ورواها الترمذي في « كتابه » أنها قرأَ بها النبيء صلى الله عليه وسلم وصاحباه أيضاً . وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة . وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة ( ملك ) بدون ألف وقراءة ( مالك ) بالألف من خصوصيات بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة ( مالك ) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين ، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك . ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة ( ملك ) أو ( مالك ) إلى ( يوم ) بتأويل شؤون يوم الدين . على أن ( مالك ) لغة في ( ملك ) ففي « القاموس » : « وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك » .
ويوم الدين يوم القيامة ، ومبدأ الدار الآخرة ، فالدين فيه بمعنى الجزاء ، قال الفِنْد الزماني{[57]} :
فلما صرَّحَ الشــرُّ *** فأَمسى وهْوَ عُريانُ
ولم يَبْقَ سوى العُدوا *** ننِ دِنَّاهم كما دَانُوا
أي جازيناهم على صنعهم كما صنعوا مشاكلة ، أو كما جازَوْا من قبل إذا كان اعتداؤهم ناشئاً عن ثأر أيضاً ، وهذا هو المعنى المتعين هنا وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب .
واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى ، فإنه بعد أن وُصف بأنه رب العالمين وذلك معْنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأُمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم : { فقالوا هذا إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] وقال : { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة ، فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر :
*ووقرت ثقيف إلى لاتها{[58]}*
وفي حديث عائشة في « الموطأ » : « كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمَنَاةَ الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل » الحديث{[59]} .
فوُصِفَ اللَّهُ تعالى بأنه رب العالمين كلهم ، ثم عقب بوَصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته ، ثم وصف بأنه مَلِك يوم الدين وهو وَصْف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبىء عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود ، فمَلِك ذلك الزمان هو صاحب المُلك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت مُلكه ، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي ، فأين هذا الوصف من أوصافِ المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك مثل مَلِك الملوك ( شَاهَانْ شَاهْ ) ومَلِك الزمان ومَلِك الدنيَا ( شاهْ جَهان ) وما شابه ذلك . مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين ( أي الجزاء ) للإشعار بأنه معاملة العَامل بما يعادِل أَعماله المَجْزِيَّ عليها في الخير والشر ، وذلك العدلُ الخاص قال تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } [ غافر : 17 ] فلذلك لم يقلْ ملك يوم الحساب فوَصفُه بأنه ملك يَومِ العدل الصِّرف وصف له بأشرف معنى المُلك فإن الملوك تتخلد محَامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المِدْحةَ بذلك . قال النابغة يمدح الملك عَمْرو بن الحارث الغساني ملك الشام :
وكَم جزَانَا بأَيْدٍ غَيرِ ظالمة *** عُرْفاً بعُرف وإنكاراً بإنكارِ
وقال الحارث بن حلزة يمدح الملك عَمرو بن هند اللخمي ملك الحِيرة :
مَلِك مُقْسِطٌ وأَفْضَلُ مَنْ يَمْ *** شِي ومن دون مَا لَدَيْه القَضَاء
وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة { الحمد لله } ، لأن تقييد مُفاد الكلام بأوصاف مُتَعَلَّق ذلك المفاد يُشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مُفاد الكلام مُناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية .