ولما كان القتال فى سبيل الله لا يتم إلا بالنفقة وبذل الأموال في ذلك ، أمر تعالى بالإنفاق في سبيله ورغب فيه ، وسماه قرضا فقال : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فينفق ما تيسر من أمواله في طرق الخيرات ، خصوصا في الجهاد ، والحسن هو الحلال المقصود به وجه الله تعالى ، { فيضاعفه له أضعافا كثيرة } الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، بحسب حالة المنفق ، ونيته ونفع نفقته والحاجة إليها ، ولما كان الإنسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى هذا الوهم بقوله : { والله يقبض ويبسط } أي : يوسع الرزق على من يشاء ويقبضه عمن يشاء ، فالتصرف كله بيديه ومدار الأمور راجع إليه ، فالإمساك لا يبسط الرزق ، والإنفاق لا يقبضه ، ومع ذلك فالإنفاق غير ضائع على أهله ، بل لهم يوم يجدون ما قدموه كاملا موفرا مضاعفا ، فلهذا قال : { وإليه ترجعون } فيجازيكم بأعمالكم .
ففي هذه الآيات دليل على أن الأسباب لا تنفع مع القضاء والقدر ، وخصوصا الأسباب التي تترك بها أوامر الله . وفيها : الآية العظيمة بإحياء الموتى أعيانا في هذه الدار . وفيها : الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله ، وذكر الأسباب الداعية لذلك الحاثة عليه ، من تسميته قرضا ، ومضاعفته ، وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بأن ينفقوا أموالهم في الأعمال الصالحة التي من أعظمها الجهاد في سبيله فقال - تعالى - : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } .
قال القرطبي : " القرض : اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء . وأقرض فلان فلانا أي أعطاه ما يتجازاه . واستقرضت من فلان أي طلبت منه القرض فأقرضني . واقترضت منه أي أخذت القرض . وأصل الكلمة القطع ومنه المقراض . وأقرضته أي قطعت له من مالي قطعة يجازي عليها . . . ثم قال : والتعبير بالقرض في هذه الآية إنما هو تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، والله هو الغني الحميد ، لكنه - تعالى - شبه عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به ثوابه في الآخرة بالقرض كما شبه إعطاء النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء . . "
والمعنى : من هذا المؤمن القوي الإِيمان الذي يقدم ماله في الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، وفي غير ذلك من وجوه الخير كمعاونة المحتاجين ، وسد حاجة البائسين ، ومساعدة الأمة الإِسلامية بما يفيدها ويعليى من شأنها ، { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } أي : فيرد الله - تعالى - إلى هذا الباذل المعطي المقرض بدل ما أعطى وبذل وأقرض أمثالاً كثيرة لا يعلم مقدارها إلا الله أكرم الأكرمين . إذ المضاعفة معناهها إعطاء الشخص أضعاف أي أمثال ما أعطى وبذل .
والاستفهام في قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله . . . } للحض على البذل والعطاء ، وللتهيج على الاتصاف بالصفات الكريمة ، حتى لكأن المستفهم لا يردي من هو الأهل لهذه الصفات ويريد أن يعرف من هو أهل لها .
و { مَّن } اسم استفهام مبتدأ ، و { ذَا } اسم إشارة خبره ، والذي وصلته صفة لاسم الإِشارة أو بدل منه .
وقوله : { قَرْضاً حَسَناً } حث للناس على إخلاص النية ، وتحرى الحلال فيما ينفقون ، لأن الإِنسان إذا تصدق بمال حرام ، أو قصد بنفقته الرياء أو المباهاة لا يكون عمله متقبلا عند الله ، وإنما يتقبل الله العمل ويضاعفه لمن قصد به وجهه ، وكن المتصدق به مالا حالا خالصا من الشبهات .
فالله - تعالى - طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
القبض : ضد البسط . يقال : قبضه بيده يقبضه أي تناوله . وقبض عليه بيده أي أمسكه . ويقال لإِمساك اليد عن البذل قبض ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي يمتنعون عن الإِنفاق .
والبسط معنه المد والتوسعة . يقال بسط يده أي : مدها . وبسط المكان القوم . وسعهم .
والمعنى : والله - تعالى - بيده الإِعطاء والنمع فهو يسلب تارة ويعطي أخرى ، أو يسلب قوما ويعطي آخرين ، أو يضيق على بعض ويوسع على بعض حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة والمصلحة ، وما دام الأمر كذلك فلا تبخلوا بما وسع عليكم كيلا تتبدل أحوالكم من الغنى إلى الفقر ، ومن السعة إلى الضيق . وأنتم جميعا سترجعون إليه وحده ، وسيجازي - سبحانه - الأسخياء بما يستحقون من كريم الثواب والبخلاء بما هم أهله من شديد العقاب .
فأنت ترى أن في هذه الآية الكريمة ألوان من الحض على الإِنفاق في وجوه الخير ومن ذلك التعبير بالاستفهام ، لأنه للتنبيه وبعث النفوس إلى التدبر والاستجابة .
ومن ذلك - أيضاً - التعبير بقوله : { مَّن ذَا الذي . . } فقد جمع هذا التعبير بين اسم الإِشارة والاسم الموصول في الاستفهام ، ولا يستفهم بتلك الطريقة إلا إذا كان المقام ذا شأن وخطر ، وكان المخاطب لعظم قدره من شأنه أن يشار إليه وأن يتحدث عنه ومن ذلك تسميته ما يبذل الباذل قرضا ، ولمن هذا القرض إنه لله الذي بيده خزائن السموات والأرض والذي سيرد للباذل أضعاف ما بذل ، فكأنه - سبحانه - يقول لنا : إن ما تدفعونه لن يضيع عليكم بل هو قرض منكم لي ، وسأرده لكم بأضعاف ما دفعتم وأعطيتم . ومن ذلك إخفاء مرات المضاعفة ووصفها بالكثرة في قوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } أي لا يعلم مقدارها إلا الله .
ومن ذلك التعبير بقوله { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } لأنه ما دام العطاء والمنع من الله فلماذا يبخل البخلاء ويقتر المقترون ؟ إن على الغني أن يستشعر نعمة الله عليه وأن يتحدث بها بدون رياء وأن ينفق منها في وجوه الخير حتى يزيده الله من فضله ، وإلا ففي قدرة الله أن يسليها منه ، ويحاسبه على بخله حسابا عسيراً .
هذه بعض وجوه المبالغة التي اشتملت عليها الآية لحض الناس على الإِنفاق في الجهاد وفي وجوه الخير ، ولقد استجاب السف الصالح لهذه التوجيهات ، وحكى لنا التاريخ أمثلة كريمة من سخائهم وبذلهم .
ومن خير الأمثلة على ذلك ما جاء عن عبد الله بن مسعود قال : " لما نزلت : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } " قال أبو الدحداح : يا رسول الله أو إن الله - تعالى - يريد منا القرض ؟ " قال نعم يا أبا الدحداح " قال أرني يدك . فناوله النبي صلى الله عليه وسلم يده . فقال أبو الدحداح : فإني أقرضت الله - تعالى - حائطا فيه ستمائة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه وعياله ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك قال : أخرجي قد أقرضت ربي حائطاً فيه ستمائة نخلة " .
وفي رواية لزيد بن أسلم " أن أبا الدحداح قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية والله لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله - تعالى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجعل إحداهما والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك " قال : فأشهدك يا رسول أني قد جعلت خيرهما لله وهو حائط فيه ستمائة نخلة . قال : " إذا يجزيك الله به الجنة ، ثم انطلق أبو الدحداح إلى زوجته وهي مع صبيانها في الحديثة تدور تحت النخل فأخبرها بما فعل . فأقبلت على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر " .
وبهذا نرى السلف الصالح قد امتثل ما أمره الله به من إنفاق في سبيله ومن جهاد لإِعلاء كلمته فهل آن الأوان للمسلمين أن ينهجوا نهجهم لكي يسعدوا كما سعدوا ، وينالوا أشرف حياة وأعزها ؟ اللهم خذ بيدنا إلى ما يرضيك .
اعتراض بين جملة : { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] إلى آخرها ، وجملة { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } [ البقرة : 246 ] الآية ، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر ، لمناسبة الحث على القتال ، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العُدَّة والمَؤُونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلاً في سبيل الله بإعطاء العُدَّة لمن لا عُدَّة له ، والإنفاق على المعسرين من الجيش ، وفيها تبيين لمضمون جملة : { واعلموا أن الله سميع عليم } [ البقرة : 244 ] فكانت ذات ثلاثة أغراض .
و { القرض } إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله ، ويطلق مجازاً على البذل لأجل الجزاء ، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاءَ الثواب ، ففعل ( يقرض ) مستعمل في حقيقته ومجازه .
والاستفهام في قوله : { من ذا الذي يقرض الله } مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأنَّ المستفهم لا يدري مَن هو أهل هذا الخير والجديرُ به ، قال طرفة :
إذا القوم قالوا مَن فتى خِلْتُ أنني *** عُنِيتُ فلَم أَكسَلْ ولم أتَبَلَّدِ
و ( ذا ) بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملاً في معناه كما تقول وقد رأيتَ شخصاً لا تعرفه : ( مَن ذا ) فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال ( ذا ) بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يَتصوَّر المتكلم في ذهنه شخصاً موهوماً مجهولاً صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه ، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلُّب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعلٍ بعد اسم الإشارة ، قال النُّحاة كلهم بصريُّهم وكوفيُّهم : بأن ( ذا ) مع الاستفهام تتحوّل إلى اسم موصول مبهم غير معهود ، فعدُّوه اسمَ موصول ، وبوَّب سيبويه في « كتابه » فقال : « باب إجرائهم ذَا وحدَه بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع ( ما ) و ( من ) في الاستفهام فيكون ( ذا ) بمنزلة الذي ويكون ما أي أو من حرفَ الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما أي أو من بمنزلة اسم واحد » ومثَّله بقوله تعالى : { ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً } [ النحل : 30 ] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم ( ذا ) عند الكوفيين ، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على ( ذا ) وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول ، كما في هذه الآية ، ولا معنى لوقوع اسمى موصول صلتهما واحدة ، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مُفاد اسم الموصول ، فيكون ما بعده من فِعل أو وصف في معنى صلة الموصول ، وإنما دوَّنوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز ، فكان تدوينها قليل الجدوى .
والوجه أن ( ذا ) في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية ، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال ، فوزان قوله تعالى :
{ ماذا أنزل ربكم } [ النحل : 24 ] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته :
* نَجَوْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيق *
والإقراض : فعل القرض . والقرض : السلف ، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه ، واستعمل هنا مجازاً في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيداً في تحقيق حصول التعويض والجزاء . ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضَى الله به إلاَّ إذا كان مبرَّأً عن شوائب الرياء والأذى ، كما قال النابغة :
وقيل : القرض هنا على حقيقته وهو السلف ، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يُقرض الناس طمعاً في الثواب كأنه أقرض الله تعالى ؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي " أن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه " الحديث . وقد رووا أن ثواب الصدقة عشْر أمْثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله .
وقرأ الجمهور « فيضاعفُه » بألف بعد الضاد ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين . ورُفع « فيضاعفُه » في قراءة الجمهور ، على العطف على { يقرض } ، ليدخل في حيز التحضيض معاقباً للإِقراض في الحصول ، وقرأه ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء على جواب التحضيض ، والمعنى على كلتا القراءتين واحد .
وقوله : { والله يقبض ويبصط } أصل القبض الشد والتماسك ، وأصل البسط : ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال ، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان : منها القبض بمعنى الأخذ { فَرِهانٌ مقبوضة } [ البقرة : 283 ] وبمعنى الشح { ويقبضون أيديَهم } [ التوبة : 67 ] ومنها البَسط بمعنى البذل { الله يبسط الرزق لمن يشاء } [ الرعد : 26 ] وبمعنى السخاء { بل يداه مبسوطتان } [ المائدة : 64 ] ومن أسمائه تعالى القابض الباسط بمعنى المانع المعطي .
وقرأ الجمهور : ( ويبسط ) بالسين ، وقرأه نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم والكسائي وأبو جعفر وزوج عن يعقوب بالصاد وهو لغة .
يحتمل أن المراد هنا : يقبض العطايا والصدقات ويبسط الجزاء والثواب ، ويحتمل أن المراد يقبض نفوساً عن الخير ويبسط نفوساً للخير ، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على المنفق في سبيل الله ، والتقتير على البخيل . وفي الحديث " اللهم أعط منفقاً خلفا وممسكاً تلفاً " وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع « أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد » أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط ، والأصل هو السين ، ولكنها قلبت صاداً في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها ، ومخرجها بعيد عن مخرج السين ؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد .
وقوله : { وإليه ترجعون } خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا ، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير .
روي أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : " أو أنّ الله يريد منا القرض ؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : " أرني يدك " فناوله يده فقال : " فإني أقرضت الله حائطاً فيه ستمائة نخلة " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كم من عذق رَدَاح ودار فَسَاح في الجنة لأبي الدحداح " .