تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

{ 38 - 40 } { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

السارق : هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ، بغير رضاه . وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة ، وهو قطع اليد اليمنى ، كما هو في قراءة بعض الصحابة .

وحد اليد عند الإطلاق من الكوع ، فإذا سرق قطعت يده من الكوع ، وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم ، ولكن السنة قيدت عموم هذه الآية من عدة أوجه :

منها : الحرز ، فإنه لابد أن تكون السرقة من حرز ، وحرز كل مال : ما يحفظ به عادة . فلو سرق من غير حرز فلا قطع عليه .

ومنها : أنه لابد أن يكون المسروق نصابا ، وهو ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساوي أحدهما ، فلو سرق دون ذلك فلا قطع عليه .

ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها ، فإن لفظ " السرقة " أخذ الشيء على وجه لا يمكن الاحتراز منه ، وذلك أن يكون المال محرزا ، فلو كان غير محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية .

ومن الحكمة أيضا أن لا تقطع اليد في الشيء النزر التافه ، فلما كان لابد من التقدير ، كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب .

والحكمة في قطع اليد في السرقة ، أن ذلك حفظ للأموال ، واحتياط لها ، وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية ، فإن عاد السارق قطعت رجله اليسرى ، فإن عاد ، فقيل : تقطع يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى ، وقيل : يحبس حتى يموت . وقوله : { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أي : ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس .

{ نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره ، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا .

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عَزَّ وحكم فقطع السارق .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

وبعد أن بين - سبحانه - عقوبة الذين يحاربون الله ورسوله ، ودعا المؤمنين إلى التقرب إليه بالعمل الصالح وبين سوء عاقبة الكافرين . بعد أن بين كل ذلك أعقبه ببيان عقوبة السرقة فقال - تعالى :

{ والسارق والسارقة فاقطعوا . . . }

قال الجمل ما ملخصه : قوله - تعالى - { والسارق والسارقة } . . إلخ . شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى .

وقرأ الجمهور : والسارق بالرفع وفيها وجهان :

أحدهما : وهو مذهب سيبويه والمشهور من أقوال البصرين - أن السارق مبتدأ محذوف الخبر . والتقدير : فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة . أي : حكم السارق ، ويكون قوله { فاقطعوا } بيانا لذلك الحكم المقدر . فما بعد الفاء مرتبط بما قبلها ، ولذلك أتى بها فيه لأنه هو المقصود . ولو لم يؤت بالفاء لتوهم أنه أجنبي ، والكلام على هذا جملتان : الأولى خبرية والثانية أمرية .

والثاني : وهو مذهب الأخفش وجماعة كثيرة - أنه مبتدأ - أيضاً - والخبر الجملة الأمرية من قوله { فاقطعوا } وإنما دخلت الفاء في الخبر ، لأنه يشبه الشرط إذ الألف واللام فيه موصولة بمعنى الذي والتي والصفة صلتها ، فهي في قوة قولك والذي يسرق والتي تسرق فاقطعوا .

والمعنى : ( السارق ) أي : من الرجال ( السارقة ) أي : من النساء ( فاقطعوا ) أيديهما ، أي فاقطعوا يد كل منهما الذكر إذا سرق قطعت يده . والأنثى إذا سرقت قطعت يدها .

والخطاب في قوله : ( فاقطعوا ) لولاة الأمر الذين إليهم يرجع تنفيذ الحدود وجمع - سبحانه - اليد فقال " أيديهما " ولم يقل يديهما بالتثنية ، لأن فصحاء العرب يستثقلون إضافة المثنى إلى ضمير التثنية .

وقوله { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } بيان لسبب هذه العقوبة وللحكمة التي من أجلها شرعت . أي : اقطعوا أيديهما جزاء لهما بسبب فعلهما الخبيث ، وكسبهما السيء ، وخيانتهما القبيحة ، ولكي يكون هذا القطع لأيديهما ( نكالا ) أي : عبرة وزجرا من الله - تعالى - لغيرهما حتى يكف الناس عن ارتكاب هذه الجريمة .

يقال : نكل فلان بفلان تنكيلا : أي : صنع به صنيعا يحذر غيره .

والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك . وأصله من النكل - بالكسر - وهو القيد الشديد ، وحديدة اللجام ، لكونهما مانعين وجمعه انكال .

وسميت هذه العقوبة نكالا ، لأنها تجعل غير من نزلت به يخاف من ارتكابها حتى لا ينزل به ما نزل بمرتكبها من قطع ليده ، وفضيحة لأمره .

وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : والله - تعالى - غالب على أمره ، حكيم في شرائعه وتكاليفه .

قال صاحب المنار ما ملخصه . وقد كانت العرب بدوها وحضرها تفهم الكثير من وضع اسماء الله - تعالى - في الآيات بحسب المناسبة .

ومن ذلك ما نقل الأصمعي أنه قال : كنت أقرأ سورة المائدة ، ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية فقلت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سهوا فقال الأعرابي كلام من هذا ؟ فقلت : كلام الله . قال : أعد فأعدت { الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم تنبهت فقلت : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال : الآن أصبت فقلت له .

كيف عرفت ؟ يا هذا { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة ، غير مقتضى المغفرة والرحمة وأن الله - تعالى - يضع كل اسم موضعه من كتابه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (38)

جملة معطوفة على جملة { إنّما جزاء الّذين يحاربون } [ المائدة : 33 ] . { والسارق } مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه . والتّقدير : ممّا يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما . وقال المبرّد : الخبر هو جملة { فاقطعوا أيديهما } ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشرط ؛ لأنّ تقديره : والّذي سرق والّتي سرقت . والمصول إذا أريد منه التّعميم ينزّل منزلة الشرط أي يجعل ( أَلْ ) فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ، قوله : { واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] . 6 قال سيبويه : وهذا إذا كان في الكلام ما يدلّ على أنّ المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحُكم أو الفرائض نحو { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا } { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } إذ التّقدير في جميع ذلك : وحكم اللاتي يأتين ، أو وجَزاء السارق والسّارقة .

ولقد ذكرها ابن الحاجب في « الكافية » واختصرها بقوله : « والفاء للشرط عند المبرّد وجملتان عند سيبويه ، يعني : وأمّا عند المبرّد فهي جملة شرط وجوابه فكأنّها جملة واحدة وإلاّ فالمختار النصب » . أشار إلى قراءة عيسى بن عمر { والسارقَ والسارقَة } بالنصب ، وهي قراءة شاذّة لا يعتدّ بها فلا يخرّج القرآن عليها . وقد غلط ابن الحاجب في قوله : فالمختار النصب .

وقوله : { فاقطعوا أيديهما } ضمير الخطاب لِوُلاة الأمور بقرينة المقام ، كقوله : { الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة } [ النور : 2 ] . وليس الضّمير عائداً على الّذين آمنوا في قوله { يأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله } [ النساء : 35 ] . وجُمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق . وثنيّ الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى ؛ فالجمع هنا مراد منه التّثنية كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] .

ووجه ذكر السارقة مع السارق دفعُ توهّم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيداً بحيث لا يجري حدّ السرقة إلاّ على الرجال ، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزناً فلا يجرون عليها الحدود ، وهو الدّاعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة : ( 178 ) { الحُرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وقد سرقت المخزوميّة في زمن رسول الله فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش ، فقالوا : من يشفع لها عند رسول الله إلاّ زيد بن حارثة ، فلمّا شفع لها أنكر عليه وقال : أتشفع في حدّ من حدود الله ، وخطب فقال : إنّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه وإذا سرق الضّعيف قطعوه ، والله لو أنّ فاطمة سرقت لقطعت يدها .

وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحدّ وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأيّمة المذاهب وليس من غرض المفسّر . وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الشّرعية وتفاصيلها ولكنّه يؤصّل تأوصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللّسان من معرفة حقائقها وتمييزها عمّا يشابهها .

فالسارق : المتّصف بالسرقة . والسرقة معروفة عند العرب مميّزة عن الغارة والغصْب والاغتصاب والخلسة ، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق ممّا يشِحّ به معظم النّاس .

فالسرقة : أخذ أحد شيئاً ما يملكه خُفية عن مالكه مخُرجاً إيّاه من موضعِ هو حرِزُ مثلِه لم يؤذن آخِذُه بالدخول إليه .

والمسروق : مَا لهُ منفعة لا يتسامح النّاس في إضاعته . وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقلّ شيء حكم النّبيء بقطع يد من سَرَقَه . وقد ثبت في الصّحيح أنّه حكم بقطع يد سارق حَجَفَة بحاء مهملة فجيم مفتوحتين ( ترس بن جلد ) تساوي ربع دينار في قول الجمهور ، وتساوي ديناراً في قول أبي حنيفة ، والثوري ، وابنِ عبّاس ، وتساوي نصفَ دينار في قول بعض الفقهاء .

ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد . وقد كان قطع يد السارق حكماً من عهد الجاهليّة ، قضى به الوليدُ بن المغيرة فأقرّه الإسلام كما في الآية . ولم يرد في السنّة خبر صحيح إلاّ بقطع اليد . وأوّل رَجُل قطعت يده في الإسلام الخيارُ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، وأوّل امرأة قطعت يَدها المخزوميةُ مُرّةُ بنتُ سفيان .

فاتّفق الفقهاء على أنّ أوّل ما يبدأ به في عقوبة السارق أن تقطع يده . فقال الجمهور : اليد اليمنى ، وقال فريق : اليد اليسرى ، فإن سرق ثانية ، فقال جمهور الأيمّة : تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة . وقال عليّ بن أبي طالب : لا يقطع ولكن يحبس ويضرب . وقضى بذلك عمر بن الخطّاب ، وهو قول أبي حنيفة . فقال عليّ : إنّي لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكُل وَيَسْتَنْجِي أو رِجْلَه فعلى أي شيء يعتمد ؛ فإن سرق الثّالثة والرّابعة فقال مالك والشّافعي : تقطع يده الأخرى ورجلُه الأخرى ، وقال الزهري : لم يبلغنا في السنّة إلاّ قطع اليد والرّجل لا يزاد على ذلك ، وبه قال أحمد بن حنبل ، والثّوري ، وحمَّاد بن سلمة . ويجب القضاء بقول أبي حنيفة ، فإنّ الحدود تُدرأ بالشبهات وأيّ شبهة أعظم من اختلاف أيمّة الفقه المعتبرين .

والجزاء : المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العملَ من خير أو شرّ ، قال تعالى : { إنّ للمتّقين مفازاً } إلى قوله { جزاءً من ربّك عطاءً حسابا } في سورة النبأ ( 31 36 ) ، وقال تعالى : { وجزاء سيئة مثلها } في سورة الشورى ( 40 ) .

والنكال : العقاب الشّديد الّذي من شأنه أن يصدّ المعاقب عن العود إلى مثل عمله الّذي عوقب عليه ، وهو مشتقّ من النكول عن الشيء ، أي النكوص عنه والخوف منه . فالنكال ضرب من جزاء السّوء ، وهو أشدّه ، وتقدّم عند قوله تعالى : { فجعلناها نكالاً } الآية في سورة البقرة ( 66 ) .

وانتصب { جزاء } على الحال أو المفعول لأجله ، وانتصب { نكالاً } على البدل من { جزاء } بدل اشتمال .

فحكمة مشروعيّة القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود ، أي جزاء ليس بانتقام ولكنّه استصلاح .

وضَلّ من حسب القطع تعويضاً عن المسروق ، فقال من بيتين ينسبان إلى المعرّي ( وليسا في « السقط » ولا في « اللّزوميات » ) :

يد بخمسِ مِئينَ عسجَدا وُديتْ *** ما بالها قُطعت في رُبع دينار

ونسب جوابه لعلم الدّين السَّخَاوي :

عِزّ الأمَانة أغلاهَا ؛ وأرخصها *** ذُلّ الخيانة فافهَمْ حكمة الباري