{ 8 - 11 } { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }
يخبر تعالى بعموم علمه وسعة اطلاعه وإحاطته بكل شيء فقال : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى } من بني آدم وغيرهم ، { وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ } أي : تنقص مما فيها إما أن يهلك الحمل أو يتضاءل أو يضمحل { وَمَا تَزْدَادُ } الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها ، { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } لا يتقدم عليه ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه .
ثم صور - سبحانه - سعة علمه تصويراً عميقاً ، تقشعر منه الجلود ، وترتجف له المشاعر ، وساق سنة من سننه التي لا تتغير ولا تتبدل ، فقال - تعالى - :
{ لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ . . . } .
قوله - سبحانه - { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } كلام مستأنف مسوق لبيان كمال علمه وقدرته - سبحانه - .
{ وتغيض } من الغيض النقص . يقال : غاض الماء إذا نقص .
و { ما } موصولة والعائد محذوف . أى : الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى . . . وهو وحده - سبحانه - الذي يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها ، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها ، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه . . .
قال ابن كثير : " قوله { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } قال البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر . حدثنا معن ، حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعملها إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتى المطر إلا الله ، ولا تدري نفس بأى أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " .
وقال العوفى عن ابن عباس { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } يعنى السقط { وَمَا تَزْدَادُ } .
يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما . وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهم من تزيد في الحمل ومنهن من تنقص . فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله - تعالى - وكل ذلك بعلمه - سبحانه- .
وقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أى : وكل شئ عنده - سبحانه - بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، كما قال - تعالى - { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وكما قال - تعالى - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } فهو - سبحانه - يعلم كمية كل شئ وكيفيته وزمانه ومكانه وسائر أحواله .
لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور - قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث :
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب ، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث ، من الأجنة من كل نوع من الحيوان ؛ وهذه البدأة{[6911]} تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة .
و { ما } في قوله : { ما تحمل } يصح أن تكون بمعنى الذي ، مفعولة { يعلم } ويصح أن تكون مصدرية ، مفعولة أيضاً ب { يعلم } ، ويصح أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر : { تحمل } وفي هذا الوجه ضعف{[6912]} .
وفي مصحف أبي بن كعب : «ما تحمل كل أنثى وما تضع » .
وقوله : { وما تغيض الأرحام } معناه : ما تنقص ، وذلك أنه من معنى قوله : { وغيض الماء }{[6913]} [ هود : 44 ] وهو بمعنى النضوب فهي - هاهنا - بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه ، فلما قابله قوله : { وما تزداد } فسر بمعنى النقصان : ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان : فقال مجاهد «غيض الرحم » أن يهرق دماً على الحمل ، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب ، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم ، فهذا هو معنى قوله : { وما تغيض الأرحام وما تزداد } وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل .
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض ، فيكون قوله : { وما تزداد } - بعد ذلك - جارياً مجرى { تغيض } على غير مقابلة ، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه .
وقال الضحاك : غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد ، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاماً في خلقه .
وقال قتادة : الغيض : السقط ، والزيادة : البقاء بعد تسعة أشهر .
وقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } لفظ عام في كل ما يدخله التقدير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الله يعلم ما تحمل كل أنثى} من ذكر وأنثى، كقوله في لقمان: {ويعلم ما في الأرحام} [لقمان:34] سويا أو غير سوى، ذكرا أو أنثى، ثم قال: {وما تغيض}، يعني وما تنقص {الأرحام}... {وما تزداد وكل شيء} من تمام الولد والزيادة في بطن أمه، {عنده بمقدار}، يعني قدر خروج الولد من بطن أمه، وقدر مكنه في بطنها إلى خروجه فإنه يعلم ذلك كله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلهُمْ أئِذَا كُنّا تُرَابا أئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" منكرين قدرة الله على إعادتهم خَلقا جديدا بعد فنائهم وبلائهم، ولا ينكرون قدرته على ابتدائهم وتصويرهم في الأرحام وتدبيرهم وتصريفهم فيها حالاً بعد حال. فابتدأ الخبر عن ذلك ابتداء، والمعنى فيه ما وصفت، فقال جلّ ثناؤه: "اللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وَما تَزْدَادُ "يقول: وما تنقص الأرحام من حملها في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض، وما تزداد في حملها على الأشهر التسعة لتمام ما نقص من الحمل في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض. "وكُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ" لا يجاوز شيء من قَدَره عن تقديره، ولا يقصر أمر أراده فدبره عن تدبيره، كما لا يزداد حمل أنثى على ما قدر له من الحمل، ولا يقصر عما حدّ له من القَدْر...
وقوله: "وكُلّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ"... عن قتادة قوله: "وكُل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ" إي والله، لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم، وجعل لهم أجلاً معلوما.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى"... يخبر عز وجل عن علمه وقدرته أنه لا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء. فإن قيل: هذا دعوى، من الذي يعلمنا أنه يعلم ذلك؟ قيل: اتساق تدبيره ولطفه يدل على علم ذلك فيه حين رباه فيه، وأنشأه مستويا غير مؤوف سليما من الآفات، ونماء الحوائج كلها على الاستواء؛ لا يكون بعضها أنقص من بعض، وبعضها أتم من بعض نحو العينين، تراهما مستويتين لا زيادة في إحداهما دون الأخرى بل تنموان على الاستواء، وكذلك اليدين والرجلين والأذنين وأمثاله. فدل ذلك على العلم له به والتدبير... يحتمل قوله: (وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) وجهين: أحدهما: (وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ) أي ما لا تحمل شيئا، وهي التي تكون عقيما لا تلد، والغيضوضة تكون في ذهاب الشيء. قال الله تعالى: (وغيض الماء) [هود: 44] أي ذهب. (وما تزداد) أي ما تحمل (وما تغيض الأرحام) فتلد بدون الوقت الذي تلد النساء (وما تزداد) في زيادة عدد الأولاد ونقصان ما تحمل واحدا أو أكثر من واحد.
والثاني: يكون في زيادة قدر الولد ونقصانه؛ لأن من الولد ما يصيبه في البطن آفة فلا يزال يزداد، أو له نقصان في البطن، ومنه ما ينمو ويزداد وأمثاله،والله أعلم. وقوله تعالى: (وكل شيء عنده بمقدار) مقدر بالتقدير، ليس على الجزاف على ما يكون عند الخلق، ولكنه بتقدير وتدبير...
{وَمَا تَغِيضُ الاَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}: (قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثَرَهُ وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووُجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا، ولمّا وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أنه عز وجل "يعلم ما تحمل كل أنثى "من علقة أو مضغة ومن ذكر أو أنثى ومن زائد أو ناقص وعلى جميع أحواله وصفاته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«وما» في {مَا تَحْمِلُ}، {وَمَا تَغِيضُ}، {وَمَا تَزْدَادُ} إما موصولة، وإما مصدرية. فإن كانت موصولة، فالمعنى: أنه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو: من ذكورة وأنوثة، وتمام وخداج، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة... وإن كانت مصدرية، فالمعنى أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ومن أوقاته وأحواله...
في وجه النظم وجوه: الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان، أو لأجل التعنت والعناد، وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات، أو يزداد إصرارهم واستكبارهم، فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة، لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه، لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا} وقوله: {قل إنما الآيات عند الله}...
والثاني: أن وجه النظم أنه تعالى لما قال: {وإن تعجب فعجب قولهم} في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز، فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالما بجميع المعلومات، أما في حق من كان عالما بجميع المعلومات، فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض، ثم احتج على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام.
الثالث: أن هذا متصل بقوله: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة، والله أعلم...
واعلم أن قوله: {كل شيء عنده بمقدار} يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم، ومعناه: أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات، ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم، لأنهم متعنتون لا مسترشدون، شرع سبحانه -بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم- يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان -بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه- فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً، ومع ذلك فهو يعلمه فقال: {الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة {يعلم} أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات على الاستمرار {ما تحمل} أي الذي تحمله في رحمها {كل أنثى} أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً {وما تغيض} أي تنقص {الأرحام} من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد، وأصل الغيض -كما قال الرماني: ذهاب المائع في العمق الغامض، وفعله متعد لازم {وما تزداد} أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله: {وكل شيء} أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها {عنده} أي في قدرته وعلمه {بمقدار} في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها، فالآية بيان لقوله تعالى: {الذين كفروا بربهم} من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبذلك تنتهي الجولة الأولى في الآفاق، والتعقيبات عليها. ليبدأ السياق جولة جديدة في واد آخر: في الأنفس والمشاعر والأحياء: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه -يحفظونه- من أمر الله. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال).. ويقف الحس مشدوها يرتعش تحت وقع هذه اللمسات العميقة في التصوير، وتحت إيقاع هذه الموسيقى العجيبة في التعبير. يقف مشدوها وهو يقفو مسارب علم الله ومواقعه؛ وهو يتبع الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الليل؛ وكل مستخف وكل سارب وكل هامس وكل جاهر. وكل أولئك مكشوف تحت المجهر الكاشف، يتتبعه شعاع من علم الله، وتتعقبه حفظة تحصي خواطره ونواياه.. ألا إنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله، تطمئن في حماه.. وإن المؤمن بالله ليعلم أن علم الله يشمل كل شيء. ولكن وقع هذه القضية الكلية في الحس، لا يقاس إلى وقع مفرداتها كما يعرض السياق بعضها في هذا التصوير العجيب. وأين أية قضية تجريدية، وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار)؟ حين يذهب الخيال يتتبع كل أنثى في هذا الكون.. المترامي الأطراف.. كل أنثى.. كل أنثى في الوبر والمدر، في البدو والحضر، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات. ويتصور علم الله مطلا على كل حمل في أرحام هذه الإناث، وعلى كل قطرة من دم تغيض أو تزداد في تلك الأرحام! وأين أية قضية تجريدية وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله)؟ حين يذهب الخيال يتتبع كل هامس وكل جاهر، وكل مستخف وكل سارب في هذا الكون الهائل. ويتصور علم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه، ويقيد عليه كل شاردة وكل واردة آناء الليل وأطراف النهار! إن اللمسات الأولى في آفاق الكون الهائل ليست بأضخم ولا أعمق من هذه اللمسات الأخيرة في أغوار النفس والغيب ومجاهيل السرائر. وإن هذه لكفء لتلك في مجال التقابل والتناظر.. ونستعرض شيئا من بدائع التعبير والتصوير في تلك الآيات: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار).. فلما أن صور العلم بالغيض والزيادة في مكنونات الأرحام، عقب بأن كل شيء عنده بمقدار. والتناسق واضح بين كلمة مقدار وبين النقص والزيادة. والقضية كلها ذات علاقة بإعادة الخلق فيما سبق من ناحية الموضوع. كما أنها من ناحية الشكل والصورة ذات علاقة بما سيأتي بعدها من الماء الذي تسيل به الأودية "بقدرها "في السيولة والتقدير.. كما أن في الغيض والزيادة تلك المقابلة المعهودة في جو السورة على الإطلاق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية، فهو متصل بجملة {الله الذي رفع السماوات} [الرعد: 2] الخ.
وهذه الجملة استئناف ابتدائي. فلما قامت البراهين العديدة بالآيات السابقة على وحدانية الله تعالى بالخلق والتدبير وعلى عظيم قدرته التي أودع بها في المخلوقات دقائق الخلقة انتقل الكلام إلى إثبات العلم له تعالى علماً عاماً بدقائق الأشياء وعظائمها، ولذلك جاء افتتاحه على الأسلوب الذي افتتح به الغرض السابق بأن ابتدئ باسم الجلالة كما ابتدئ به هنالك في قوله: {اللّهُ الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [الرعد: 2].
وجعلت هذه الجملة في هذا الموقع لأن لها مناسبة بقولهم: {لولا أنزل عليه آية من ربه}، فإن ما ذكر فيها من علم الله وعظيم صنعه صالح لأن يكون دليلاً على أنه لا يعجزه الإتيان بما اقترحوا من الآيات؛ ولكن بعثة الرسول ليس المقصد منها المنازعات بل هي دعوة للنظر في الأدلة.
وإذ قد كان خلق الله العوالم وغيرها معلوماً لدى المشركين ولكنّ الإقبال على عبادة الأصنام يذهلهم عن تذكره كانوا غير محتاجين لأكثر من التذكير بذلك وبالتنبيه إلى ما قد يخفى من دقائق التكوين كقوله آنفاً {بغير عَمد} [الرعد: 2] وقوله: {وفي الأرض قِطع متجاورات} [الرعد: 4] الخ؛ صيغ الإخبار عن الخلق في آية: {الله الذي رفع السماوات} [الرعد: 2] الخ بطريقة الموصول للعلم بثبوت مضمون الصلة للمخبر عنه.
وجيء في تلك الصلة بفعل المضي فقال: {الله الذي رفع السماوات كما أشرنا إليه آنفاً. فأما هنا فصيغ الخبر بصيغة المضارع المفيد للتجدد والتكرير لإفادة أن ذلك العلم متكرر متجدد التعلق بمقتضى أحوال المعلومات المتنوعة والمتكاثرة على نحو ما قرر في قوله: {يدبر الأمر يفصل الآيات} [الرعد: 2].
وذُكر من معلومات الله ما لا نزاع في أنه لا يعلمه أحد من الخلق يومئذٍ ولا تستشار فيه آلهتهم على وجه المثال بإثبات الجُزئي لإثبات الكلّي، فما تحمل كل أنثى هي أجنة الإنسان والحيوان. ولذلك جيء بفعل الحمل دون الحَبْل لاختصاص الحبل بحمل المرأة.
و {ما} موصولة، وعمومها يقتضي علم الله بحال الحل الموجود من ذكورة وأنوثة، وتمام ونقص، وحسن وقبح، وطول وقصر، ولون.
وتغيض: تنقص، والظاهر أنه كناية عن العلوق لأن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها، وازديادها: فيضان الحيض منها. ويجوز أن يكون الغيض مستعاراً لعدم التعدد.
والازدياد: التعدد أي ما يكون في الأرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك في الإنسان والحيوان.
وجملة {وكل شيء عنده بمقدار} معطوفة على جملة {يعلم ما تحمل كل أنثى}. فالمراد بالشيء الشيء من المعلومات. و {عنده} يجوز أن يكون خبراً عن {وكل شيء} و {بمقدار} في موضع الحال من {وكل شيء}. ويجوز أن يكون {بمقدار} في موضع الحال من مقدار ويكون {بمقدار} خبراً عن {كل شيء}.
والمقدار: مصدر ميمي بقرينة الباء، أي بتقدير، ومعناه: التحديد والضبط. والمعنى أنه يعلم كلّ شيء علماً مفصّلاً لا شيوع فيه ولا إبهام. وفي هذا ردّ على الفلاسفة غير المسلمين القائلين أنّ واجب الوجود يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فراراً من تعلّق العلم بالحوادث. وقد أبطل مذهبهم علماءُ الكلام بما ليس فوقه مرام. وهذه قضية كلية أثبتت عموم علمه تعالى بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات الخفية في قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه قدرة الله تعالى في خلق السموات بغير عمد ترونها، وسخر الشمس والقمر وغير ذلك من الكائنات التي هي سمات هذا الوجود، والآن يبين خلق الإنسان، وكيف كان في علمه الذي لا يعلم به أحد غيره سبحانه. فقال تعالى:
{الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار 8}.
{الله يعلم ما تحمل كل أنثى} (ما) هنا قد تكون موصولة بمعنى الذي، ويكون السياق: الله جل جلاله يعلم الذي تحمل كل أنثى، والذي تغيض به الأرحام والذي تزداد، وكل شيء عنده بمقدار قدره، وحده وعينه.
يعلم ما تحمل كل أنثى من ذكورة وأنوثة، ومن حجمه، وشكله، وامتداده، وعمره، وما قدر له من حياة سعيدة أم شقية، وإيمان، وصباحة ودمامة، واستقامة وفجور، وما يكون في قابله هاديا مهديا، أو مقيتا شقيا، وغير ذلك مما يكون في حياته البدنية والنفسية، وكل ما يتعلق به.
يعلم أدوار الحمل من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ومن وقت وضعه نطفة من قرار مكين، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين 12 ثم جعلناه نطفة في قرار مكين 13 ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين 14} (المؤمنون)، وبقوله سبحانه: {هو أعلم إذ أنشأنكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم32} (النجم)، ويقول تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث 6} (الزمر).
يعلم الله تعالى ما تحمل كل أنثى من هذه الأطوار كلها طورا بعد طور، وما يعلمه الله هو علم الخالق لما خلق، ومهما يكن متعلقا ب (ما) في الأرحام فالعلم عند الله علام الغيوب...