ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا } فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم ، ما ليس في قلوبهم ، { وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم ، قال بعضهم لبعض : { أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : أتظهرون لهم الإيمان وتخبروهم أنكم مثلهم ، فيكون ذلك حجة لهم عليكم ؟
يقولون : إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق ، وما هم عليه باطل ، فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أي : أفلا يكون لكم عقل ، فتتركون ما هو حجة عليكم ؟ هذا يقوله بعضهم لبعض .
ثم أخبر القرآن الكريم عن بعضهم ، بأنهم قد ضموا إلى رذيلة التحريف رذيلة النفاق والتدليس فقال تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ . أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .
والمعنى : وإذا ما تلاقى المنافقون من اليهود مع المؤمنين ، قالوا لهم نفاقاً وخداعاً : صدقنا أن ما أنتم عليه هو الحق ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله ، وإذا ما انفرد بعض اليهود ببعض قال الذين لم ينافقوا لإخوانهم الذين نافقوا معاتبين : أتخبرون المؤمنين بما بينه الله لكم في كتابكم مما يشهد بحقية ما هم عليه ، لتكون لهم الحجة عليكم يوم القيامة ، أفلا تعقلون أن هذا التحديث يقيم الحجة لهم عليكم ؟
فالآية الكريمة فيها بيان لنوع آخر من مساوئ اليهود ومخازيهم التي تدعو إلى اليأس من إيمانهم وتكشف النقاب عما كانوا يضمرونه من تدليس .
قال الإِمام الرازي : " وإنما عذلوهم على ذلك لأن اليهودي إذا اعترف بصحة التوراة ، واعترف بشهادتها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحجة قوية عليه ، فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضاً من الاعتراف بذلك أمام المؤمنين " .
والاستفهام في قوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } للإِنكار والتوبيخ .
والفتح يطلق على القضاء ومنه قوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } أي : اقض بيننا وبين قومنا بالحق .
قال ابن جرير : " أصل الفتح في كلام العرب القضاء والحكم ، والمعنى أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم ؟ ومن حكمه - تعالى - وقضائه فيهم أخذه ميثاقهم بأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد بشرت به التوراة " .
وقوله تعالى : { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } متعلق بالحديث ، ومرادهم تأكيد النكير على إخوانهم الذين أظهروا إيمانهم نفاقاً ، فكأنهم يقولون لهم : أتحدثون المؤمنين بما يفضحكم يوم القيامة أمام الخالق - عز وجل - وفي حكمه وقضائه ، لأنهم سيقولون لكم : ألم تحدثونا في الدنيا بما في كتابكم من حقيقة ديننا وصدق نبينا ؟ فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رءوس الخلائق يوم الموقف العظيم ، لأنه ليس من اعترف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإِنكار .
وجملة { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من بقية مقولهم لمن نافق منهم ، وقد أتوا بها لزيادة توبيخهم لهم حتى لا يعودوا إلى التحدث مع المؤمنين .
والمعنى : أليست لكم عقول تحجزكم عن أن تحدثوا المؤمنين بما يقيم لهم الحجة عليكم يوم القيامة ؟
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } ( 76 )
المعنى : وهم أيضاً إذا لقوا يفعلون هذا ، فكيف يطمع في إيمانهم ؟ ويحتمل( {[832]} ) أن يكون هذا الكلام مستأنفاً مقطوعاً من معنى الطمع ، فيه كشف سرائرهم .
وورد في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن »( {[833]} ) ، فقال كعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما : اذهبوا وتحسسوا أخبار من آمن بمحمد وقولوا لهم آمنا واكفروا إذا رجعتم ، فنزلت هذه الآية فيهم ، وقال ابن عباس : نزلت في منافقين من اليهود ، وروي عنه أيضاً أنها نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين نحن نؤمن أنه نبي ولكن ليس إلينا ، وإنما هو إليكم خاصة ، فلما خلوا قال بعضهم : لم تقرون بنبوته وقد كنا قبل نستفتح به ؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه ، وأصل { خلا } «خَلَوَ » تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً ، وقال أبو العالية وقتادة : إن بعض اليهود تكلم بما في التوارة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم كفرة الأحبار : أتحدثون { بما فتح الله عليكم } أي عرفكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به( {[834]} ) ؟ ، وقال السدي : إن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم ، فقال بعض الأحبار ، { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } من العذاب ، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا ؟ وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم ، وقال مجاهد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة : يا إخوة الخنازير والقردة ، فقال الأحبار لأتباعهم : ما عرف هذا إلا من عندكم ، أتحدثونهم ؟ وقال ابن زيد : كانوا إذا سئلوا عن شيء ، قالوا في التوراة كذا وكذا ، فكرهت الأحبار ذلك ، ونهوا في الخلوة عنه ، ففيه نزلت الآية .
والفتح في اللغة ينقسم أقساماً تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة الإبهام ، وإلى هذا يرجع الحكم وغيره( {[835]} ) ، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن ، و { يحاجوكم } من الحجة ، وأصله من حج إذا قصد ، لأن المتحاجَّيْن كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر ، و { عند ربكم } معناه في الآخرة( {[836]} ) ، وقيل عند بمعنى في ربكم ، أي فيكونون أَحق به ، وقيل : المعنى عند ذكر ربكم .
وقوله تعالى : { أفلا تعقلون } قيل : هو من قول الأحبار( {[837]} ) للأتباع ، وقيل : هو خطاب من الله للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال . والعقل علوم ضرورية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.