تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}، يعني: صدقنا بمحمد، عليه السلام، بأنه نبي،
وذلك أن الرجل المسلم كان يلقى من اليهود حليفه أو أخاه من الرضاعة، فيسأله: أتجدون محمدا في كتابكم، فيقولون: نعم، إن نبوة صاحبكم حق، وإنا نعرفه، فسمع كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، فقالوا لليهود في السر: أتحدثون أصحاب محمد) صلى الله عليه وسلم (بما فتح الله لكم، يعني بما بين لكم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: {وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم}، يعني: ليخاصموكم
{به عند ربكم} باعترافكم أن محمدا عليه السلام نبي، ثم لا تتابعوه.
{أفلا تعقلون} يعني: أفلا ترون أن هذه حجة لهم عليكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا}... خبر من الله جل ذكره عن الذين أيأس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من يهود بني إسرائيل... أخبر الله عز وجل أنهم تخلقوا بأخلاق المنافقين وسلكوا منهاجهم.يعني بقوله: {وَإذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} أي إذا خلا بعض هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم إلى بعض منهم فصاروا في خلاء من الناس غيرهم، وذلك هو الموضع الذي ليس فيه غيرهم،
(قالوا) يعني قال بعضهم لبعض: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)؟. وأصل الفتح في كلام العرب: النصر والقضاء والحكم، يقال منه: اللهم افتح بيني وبين فلان: أي احكم بيني وبينه... ويقال للقاضي: الفتاح، ومنه قول الله عز وجل:"ربّنا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبينَ قَوْمِنَا بالحَقّ وأنْت خَيْرُ الفاتِحِينَ" أي احكم بيننا وبينهم.
فإذا كان معنى الفتح ما وصفنا، تبين أن معنى قوله: {قالُوا أتُحَدّثُونَهُمْ بِمَا فَتَح اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ} إنما هو: أتحدثونهم بما حكم الله به عليكم وقضاه فيكم، ومن حكمه جل ثناؤه عليهم ما أخذ به ميثاقهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به في التوراة، ومن قضائه فيهم أن جعل منهم القردة والخنازير، وغير ذلك من أحكامه وقضائه فيهم، وكل ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حجة على المكذّبين من اليهود المقرّين بحكم التوراة وغير ذلك.
فإن كان كذلك فالذي هو أولى عندي بتأويل الآية قول من قال: معنى ذلك: "أتُحَدّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ "من بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى خلقه لأن الله جل ثناؤه إنما قصّ في أول هذه الآية الخبر عن قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه: آمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فالذي هو أولى بآخرها أن يكون نظير الخبر عما ابتدئ به أولها.
وإذا كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون تلاومهم كان فيما بينهم فيما كانوا أظهروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من قولهم لهم: آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وكان قيلهم ذلك من أجل أنهم يجدون ذلك في كتبهم وكانوا يخبرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان تلاومهم فيما بينهم إذا خلوا على ما كانوا يخبرونهم بما هو حجة للمسلمين عليهم عند ربهم. وذلك أنهم كانوا يخبرونهم عن وجود نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم ويكفرون به، وكان فتح الله الذي فتحه للمسلمين على اليهود وحكمه عليهم لهم في كتابهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، فلما بعث كفروا به مع علمهم بنبوتّه.
{أفَلا تَعْقِلُونَ} خبر من الله تعالى ذكره عن اليهود اللائمين إخوانهم على ما أخبروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لهم عليهم أنهم قالوا لهم: أفلا تفقهون أيها القوم وتعقلون أن إخباركم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبكم أنه نبيّ مبعوث حجة لهم عليكم عند ربكم يحتجون بها عليكم؟ أي فلا تفعلوا ذلك، ولا تقولوا لهم مثل ما قلتم، ولا تخبروهم بمثل ما أخبرتموهم به من ذلك.
{أوَ لا يَعْلَمُونَ أنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} قد ذكرنا في ما تقدم أنها في المنافقين نزلت. وقوله: {وإذا خلا بعضهم إلى بعض} يحتمل وجهين يحتمل: خلا بعض المنافقين إلى بعض (قالوا أتحدثونهم) بكذا؟
ويحتمل خلا المنافقون إلى اليهود.
{أتحدثونهم بما فتح الله عليكم}
وقيل [{فتح الله}] من الله عليكم في التوراة، وكله يرجع إلى واحد.
{ليحاجوكم به} أي باعترافكم عند هؤلاء، ويحتمل على إضمار رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال: ليحاجوكم بإقراركم عند رسول الله، ويحتمل على معنى يحاجوكم به عند ربكم أي في ربكم إذ العرب تستعمل حروف الخفض بعضها في موضع بعض.
ويحتمل {عند ربكم} أي يوم القيامة، ويكون ليحاجوكم بما عند الله أي بالذي جاءكم من عند الله. لكن لقائل أن يقول: ما معنى ذكر المحاجة عند ربكم؟ والمحاجة لا تكون إلا عنده، ولا يكون {ليحاجوكم به} إلا عند الله، أي بالذي جاءكم من عند الله. قيل: لأن ذلك أشد إظهارا وأقل كتمانا لما سبق منهم الإقرار بذلك؛ لذلك نهوا عن ذلك لأنهم كانوا ينهون أولئك عن الإقرار بالإيمان عند المؤمنين وإظهار ما في التوراة من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته.
{أفلا تعقلون} أن هذه حجة لهم عليكم حين تعترفون به، وتظهرون بعثه وصفته، ثم لا تبايعونه،
ويحتمل {أفلا تعقلون} أنه حق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تواصوا فيما بينهم بإنكار الحق، وإخفاء الحال على المسلمين، ولم يعلموا أن الله يُطْلِعُ رسولَه عليه السلام على أسرارهم، وأن نوراً أظهره الغيب لا ينطفئ بمزاولة الأغيار. وموافقةُ اللِّسانِ مع مخالفة العقيدة لا يزيد إلا زيادة الفُرقة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ} ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه، جعلوا محاجتهم به، وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله. ألا تراك تقول: هو في كتاب الله هكذا. وهو عند الله هكذا، بمعنى واحد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى: وهم أيضاً إذا لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم؟ ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفاً مقطوعاً من معنى الطمع، فيه كشف سرائرهم...
قال أبو العالية وقتادة: إن بعض اليهود تكلم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كفرة الأحبار: أتحدثون {بما فتح الله عليكم} أي عرفكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم فيحتجون عليكم إذ تقرون به ولا تؤمنون به؟، وقال السدي: إن بعض اليهود حكى لبعض المسلمين ما عذب به أسلافهم، فقال بعض الأحبار، {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} من العذاب، فيحتجون عليكم ويقولون نحن أكرم على الله حين لم يفعل بنا مثل هذا؟ وفتح على هذا التأويل بمعنى حكم، وقال مجاهد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبني قريظة: يا إخوة الخنازير والقردة، فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم، أتحدثونهم؟ وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء، قالوا في التوراة كذا وكذا، فكرهت الأحبار ذلك، ونهوا في الخلوة عنه، ففيه نزلت الآية.
والفتح في اللغة ينقسم أقساماً تجمعها بالمعنى التوسعة وإزالة الإبهام، وإلى هذا يرجع الحكم وغيره، والفتاح هو القاضي بلغة اليمن، و {يحاجوكم} من الحجة، وأصله من حج إذا قصد، لأن المتحاجَّيْن كل واحد منهما يقصد غلبة الآخر، و {عند ربكم} معناه في الآخرة، وقيل عند بمعنى في ربكم، أي فيكونون أَحق به، وقيل: المعنى عند ذكر ربكم.
وقوله تعالى: {أفلا تعقلون} قيل: هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال. والعقل علوم ضرورية.
عبر ب « إذا» مع أنهم يكرهون لقاء المؤمنين لوجهين: إما لعلم الله تعالى أنهم لابد لهم من لقائهم، وإما لأنّ النبي عليه السلام مأمور بتبليغ الوحي لهم ولغيرهم فلابدّ لهم من لقائه،
وإنما قال {وَإِذَا لَقُواْ} ولم يقل وإذا أتوا، إشارة إلى أن لقاءهم للمؤمنين إنما يكون فجأة غير مقصود
ومن خبثهم أنّهم {قالوا ءَامَنَّا} من غير تأكيد نزّلوا أنفسهم منزلة البريء غير المتّهم، ولم يذكروا بمن آمنوا حتى يبقى الكلام مطلقا يفهمه المخاطب على شيء، ويقصد به المتكلم شيئا آخر.
قال ابن عرفة: هذا من رؤسائهم المنكرين عليهم قصور الإنكار والمناسب لحالهم المبالغة في الإنكار عليهم لأنهم ما أنكروا عليهم إلا التحدث الموجب المحاجة فمفهومه أنهم أباحوا لهم... مطلق الحديث مع المؤمنين.
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. إما من كلام الله أو من قول المنكرين، وعلى هذا حمله ابن عطية على العقل التكليفي فقال: العقل علوم ضرورية. قال ابن عرفة: والصواب أنه العقل النّافع أي "أَفَلاَ تَعْقِلُونَ "من أجل هذا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الفتح: توسعة الضيق حساً... والمحاجة: تثبيت القصد والرأي بما يصححه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ترشد هذه الآية إلى طور من أطوار البشر في زمن الإصلاح، وهي أن جماهير الناس يقعون في الحيرة بين الهداية الجديدة والتقاليد القديمة، لا ينظرون إلى الحق فيتحروا اتباعه أين كان، ولكنهم يفكرون في منفعتهم الخاصة. يقولون: نخشى أن نجهر بالجديد فيخذل حزبه ويتفرق شمله، فنكون من الخاسرين. ولا نأمن إن بقينا على القديم أن يتقلص ظله ويذل أهله، فنكون مع الضالين. فالحزم أن نوافق كل حزب نخلو به ونعتذر إلى الآخر إذا هو علم بما كان منا إلى أن نتبين الفوز في أحد الفريقين: فيكونون هكذا مذبذبين كما قال تعالى "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم "مثل هذه الذبذبة تكون من الأمم في طور الضعف ولا سيما ضعف الإرادة والعلم، ولو كان لأولئك القوم إرادة قوية لثبتوا ظاهرا على ما يعتقدونه باطلا ولم يصانعوا مخالفيهم من أهل الملة الأولى أو الملة الآخرة، وقد وبخهم الله تعالى وأنكر عليهم هذا التلون والدهان في الدين ولقاء كل فريق بوجه يظهرون له ما يسرون من أمر الآخر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... وهنا تدركهم طبيعتهم المحجبة عن معرفة صفة الله وحقيقة علمه؛ فيتصورون أن الله لا يأخذ عليهم الحجة إلا أن يقولوها بأفواههم للمسلمين! أما إذا كتموا وسكتوا فلن تكون لله عليهم حجة!... وأعجب العجب أن يقول بعضهم لبعض في هذا: (أفلا تعقلون؟)... فيا للسخرية من العقل والتعقل الذي يتحدثون عنه مثل هذا الحديث!!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {أتحدثونهم} استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحاً لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبيء من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم ستراً لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين... فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفراً من قومهم جواسيس على النبيء والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد: {أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به...
{ليحاجوكم به عند ربكم} صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم. واللام في قوله تعالى: {ليحاجوكم} لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازاً أو ترشيحاً لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازاً فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازاً لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة، وكانت المحاجة به عند الله فرعاً عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسؤول عنها أي لكان فعلكم هذا معللاً بأن يحاجوكم، وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحاً متميزاً به أيضاً...
والأظهر أن قوله: {عند ربكم} ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله: {يحاجوكم} وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار على حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية، فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملأى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون...
{أفلا تعقلون} من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطاباً من الله للمسلمين تذييلاً لقوله: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي...
هذه صور من صور نفاق اليهود. والناس مقسمون إلى ثلاث: مؤمنون وكافرون ومنافقون.. المؤمن انسجم مع نفسه ومع الكون الذي يعيش فيه.. والكافر انسجم مع نفسه ولم ينسجم مع الكون، والكون يلعنه... والآية تعطينا صورة من صور النفاق وكيف لا ينسجم المنافق مع نفسه ولا مع الكون... فهو يقول ما لا يؤمن به... وفي داخل نفسه يؤمن بما لا يقول. والكون كله يلعنه، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار.
وهذه الآية تتشابه مع... قوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون "14 "} (سورة البقرة).
في الآية الأولى كان الدور لليهود، وكان هناك منافقون من غير اليهود وشياطينهم من اليهود.. وهنا الدور من اليهود والمنافقين من اليهود. الحق سبحانه وتعالى يقول: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} وهل الإيمان كلام؟.. الإيمان يقين في القلب وليس كلاما باللسان.. والاستدلال على الإيمان بالسلوك فلا يوجد إنسان يسلك سبيل المؤمنين نفاقا أو رياء.. يقول آمنت نفاقا ولكن سلوكه لا يكون سلوك المؤمن.. ولذلك كان سلوكهم هو الذي يفضحهم.
[وهذه] أربع صور من صور المنافقين.. كلها فيها التظاهر بإيمان كاذب.. في الآية الأولى {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} وفي الآية الثانية: {إذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم}. وفي الآية الثالثة: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}. وفي الآية الرابعة: {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به}. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما بعث كان اليهود يقولون للمؤمنين هذا هو نبيكم موجود عندنا في التوراة أوصافه كذا.. حينئذ كان أحبار اليهود ينهونهم عن ذلك ويقولون لهم: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم} فكأنهم علموا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم أرادوا أن يخفوها...
إن الغريب أنهم يقولون: "بما فتح الله عليكم". وإذا كان هذا فتحا من الله فلا فضل لهم فيه... ولو أراد الله لهم الفتح لآمنت القلوب...
{ليحاجوكم به عند ربكم} يدل على أن اليهود المنافقين والكفار وكل خلق الأرض يعلمون أنهم من خلق الله، وأن الله هو الذي خلقهم... وما داموا يعلمون ذلك فلماذا يكفرون بخالقهم؟
{ليحاجوكم به} أي لتكون حجتهم عليكم قوية عند الله... ولكنهم لم يقولوا عند الله بل قالوا {عند ربكم} والمحاجة معناها أن يلتقي فريقان لكل منهما وجهة نظر مختلفة. وتقام بينهما مناظرة يدلي فيها كل فريق بحجته. واقرأ قوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك} (من الآية 258 سورة البقرة).