إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (76)

{ وَإِذَا لَقُواْ } جملةٌ مستأنفة سيقتْ إثرَ بيانِ ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدرَ عنهم بالذات من الشنائع المُؤْيسةِ عن إيمانهم من نفاق بعضٍ وعتابِ آخَرين عليهم ، أو معطوفةٌ على ما سبق من الجملة الحالية ، والضميرُ لليهود لما ستقف على سره لا لمنافقيهم خاصةً كما قيل تحرّياً لاتحاد الفاعل في فعلي الشرط والجزاءِ حقيقةً { الذين آمنواْ } من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ } أي اللاقون لكن لا بطريق تصدّي الكلِّ للقول حقيقةً بل بمباشرة منافقيهم وسكوتِ الباقين ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتلُ واحد منهم ، وهذا أدخلُ في تقبيح حال الساكنين أولاً العاتبين ثانياً لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلافِ أحوالهم وتناقضِ آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصةً بتقدير المضافِ أي قال منافقوهم { آمنا } لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التوراة وعلموا أنه النبيُّ المبشَّر به ، وإنما لم يصرَّحْ به تعويلاً على شهادة التوبيخِ الآتي : { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } أي بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أي إذا فرَغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجِّهين ومنضمَّين { إلى بَعْضِ } آخرَ منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبقَ معهم غيرُهم ، وهذا نصٌّ على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفاً إذِ الخلوُّ إنما يكون بعد الاشتغال ، ولأن عتابَهم معلقٌ بمحض الخلوِّ ، ولولا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يُجعلَ سماعُهم لها من تمام الشرط ، ولأن فيه زيادةَ تشنيعٍ لهم على ما أتَوْا من السكوت ثم العتاب { قَالُواْ } أي الساكتون موبّخين لمنافقيهم على ما صنعوا

{ أَتُحَدّثُونَهُم } يعنون المؤمنين { بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } ( ما ) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي بيَّنه لكم خاصةً في التوراة من نعْت النبي صلى الله عليه وسلم والتعبيرِ عنه بالفتْح للإيذان بأنه سرٌّ مكنونٌ وباب مغلَقٌ لا يقف عليه أحدٌ . وتجويزُ كونِ هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم - إراءةً للتصلُّب في دينهم كما ذهب إليه عصابةٌ - مما لا يليق بشأن التنزيل الجليلِ ، واللامُ في قوله عز وجل : { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ } متعلقةٌ بالتحديث دون الفتح ، والمرادُ تأكيدُ النكير وتشديدُ التوبيخ ، فإن التحديثَ بذلك وإن كان مُنْكراً في نفسه ، لكن التحديثَ به لأجل هذا الغَرَض مما لا يكاد يصدُرُ عن العاقل أي أتحدِّثونهم بذلك ليحتجّوا عليكم به فيُبَكِّتوكم ؟ والمحدّثون به وإن لأإن لم يحوموا حولَ ذلك الغرضِ لكن فعلَهم ذلك لما كان مستتبِعاً له ألبتة جُعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهاراً لكمال سخافةِ عقولِهم وركاكة آرائهم .

{ عِندَ رَبّكُمْ } أي في حُكمه وكتابه كما يقال : هو عند الله كذا أي في كتابه وشرعه ، وقيل : عند ربكم يومَ القيامة ، ورُدَّ عليه بأن الإخفاءَ لا يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدَّثوا به أو لم يحدثوا ، والاعتذارُ بأنه إلزامَ المؤمنين إياهم وتبكيتَهم بأن يقولوا لهم : ألم تحدِّثونا بما في كتابكم في الدنيا من حقّية دينِنا وصدقِ نبيِّنا أفحشُ ، فيجوز أن يكون المحذورُ عندهم هذا الإلزامَ بإرجاع الضمير في ( به ) إلى التحديث دون المحدَّث به ، ولا ريب في أنه مدفوعٌ بالإخفاء لا تساعده الآيةُ الكريمة الآتيةُ كما ستقف عليه بإذن الله عز وجل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من تمام التوبيخ والعتابِ ، والفاءُ للعطف على مقدَّر ينسحبُ عليه الكلام أي ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأَ الفاحشَ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها هذا ؟ فالمنْكرُ عدمُ التعقُّل ابتداءً . أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بُطلانَه مع وضوحه حتى تحتاجوا إلى التنبيه عليه ؟ فالمنكرُ حينئذ عدمُ التعقل بعد الفعل ، هذا وأما ما قيل من أنه خطابٌ من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصلٌ بقوله تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ } والمعنى أفلا تعقلون حالَهم وأن لا مطْمَعَ لكم في إيمانهم فيأباه .