الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ قَالُوٓاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ لِيُحَآجُّوكُم بِهِۦ عِندَ رَبِّكُمۡۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (76)

قوله تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } هذا في المنافقين . أصل لقوا : لقيوا وقد تقدم{[896]} .

{ وإذا خلا بعضهم إلى بعض } الآية في اليهود ، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم ، فقالت لهم اليهود : { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } أي حكم الله عليكم من العذاب ، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم ، عن ابن عباس والسدي . وقيل : إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال : يا رسول الله ، لا تبلغ إليهم ، وعرض له ، فقال : " أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك " ، ونهض إليهم ، فلما رأوه أمسكوا ، فقال لهم : " أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته : ، فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ، من حدثك بهذا ؟ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا ! روي هذا المعنى عن مجاهد .

قوله تعالى : " وإذا خلا " الأصل في " خلا " خلو ، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وتقدم معنى " خلا " في أول السورة{[897]} . ومعنى " فتح " حكم . والفتح عند العرب : القضاء والحكم ، ومنه قوله تعالى : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين{[898]} } أي الحاكمين ، والفتاح : القاضي بلغة اليمن ، يقال : بيني وبينك الفتاح ، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم . والفتح : النصر ، ومنه قوله :

{ يستفتحون على الذين كفروا{[899]} } ، [ البقرة : 89 ] ، وقوله :{ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح{[900]} } [ الأنفال : 19 ] . ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين .

قوله تعالى : { ليحاجوكم به } نصب بلام كي ، وإن شئت بإضمار أن ، وعلامة النصب حذف النون . قال يونس : وناس من العرب يفتحون لام كي . قال الأخفش : لأن الفتح الأصل . قال خلف الأحمر : هي لغة بني العنبر . ومعنى { ليحاجوكم } ليعيروكم ، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم . وقيل : المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم ، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه . وقيل : إن الرجل من اليهود كان يلقى صديقه من المسلمين فيقول له : تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا .

قوله تعالى : { عند ربكم } قيل في الآخرة ، كما قال : { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون{[901]} }[ الزمر : 31 ] . وقيل : عند ذكر ربكم . وقيل : " عند " بمعنى " في " أي ليحاجوكم به في ربكم ، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم ، وروي عن الحسن . والحجة : الكلام المستقيم على الإطلاق ، ومن ذلك محجة الطريق . وحاججت فلانا فحججته ، أي غلبته بالحجة . ومنه الحديث : " فحج آدم موسى " .

قوله تعالى : { أفلا تعقلون } قيل : هو من قول الأحبار للأتباع . وقيل : هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين ، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال .


[896]:يراجع ج 1 ث 206 طبقة ثانية.
[897]:يراجع ج 1 ص 206 طبعة ثانية.
[898]:راجع ج 7 ص 251
[899]:راجع ص 26 من هذا الجزء.
[900]:راجع ج 7 ص 386
[901]:راجع ج 15 ص 254