تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }

أي : أجاب الله دعاءهم ، دعاء العبادة ، ودعاء الطلب ، وقال : إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى ، فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كاملا موفرا ، { بعضكم من بعض } أي : كلكم على حد سواء في الثواب والعقاب ، { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا } فجمعوا بين الإيمان والهجرة ، ومفارقة المحبوبات من الأوطان والأموال ، طلبا لمرضاة ربهم ، وجاهدوا في سبيل الله .

{ لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل .

{ والله عنده حسن الثواب } مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فمن أراد ذلك ، فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه ، بما يقدر عليه العبد .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

لقد كانت نتيجة دعواتهم ، أن أجاب الله لهم سؤالهم وحقق لهم مطالبهم فقال - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } ! ! .

قال الحسن البصرى : " ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم " .

وقال جعفر الصادق : " من حزبه أمر فقال خمس مرات { رَبَّنَآ } أنجاه الله مما يخالف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : اقرءوا أن شئتم قوله - تعالى - { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً } . . . إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم .

ودلت الفاء فى قوله { فاستجاب } على سرعة الإجابة ، لأن الفاء للتعقيب ، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم ، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء .

واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء ، إن السين والتاء للتأكيد ، مثل استوقد واستخلص .

وقال بعضه : إن استجاب أخص من أجاب ، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه ، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد .

والمعنى : أن الله - تعالى - قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم ، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه - سبحانه - لا يضيع عمل عامل منهم ، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى ، وسيمنحهم من الثواب . فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب ، ولن يفرق فى عطائه بين ذكر وأنثى ، لأن الذكر من الأثنى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة .

وفى التعبير باللفظ السامى { رَبُّهُمْ } إشارة إلى أن الذى سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم ، والرحيم بهم .

ومعنى { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم ، بل أكافئه عليه بما يستحقه ، وأعطيه من ثوابى ورحمتى ما يشرح صدره ، ويدخل البهجة والسرور على نفسه .

وقوله { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان لعامل ، وتأكيد عمومه ، أى لا اضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكراً أم أنثى .

ومعنى { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة .

روى الترمذى عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله - تعالى - ذكر النساء فى الهجرة ، فأنز الله - تعالى - { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } .

ثم بين - سبحانه - الأعمال الصالحة التى استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه - سبحانه - فقال : { فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .

أى فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التى أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا من ديارهم ، فرارا بدينهم من ظلم ظالمين ، واعتداء المعتدين ، { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أى تحملوا الأذى والاضطهاد فى سبيل الحق الذى آمنوا به { وَقَاتَلُواْ } أعداء الله { وَقُتِلُواْ } وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .

هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك ، وعدهم الله - تعالى - بالأجر العظيم فقال : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات ، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا { وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التى فيها العسل المصفى ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .

وقوله { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندى ، والله - تعالى - عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد منح هؤلاء الأخيرا ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التى أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله ، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم ، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : " يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت " .

ولأنهم قد تحملوا ما تحملوا من الأذى فى سبيل الله ، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .

وقوله { الذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له ، والتفخيم لشأنه . وخبره قوله { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } .

وقوله { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } معطوف على { هَاجَرُواْ } . وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم ، وانتشار الحق الذى اعتنقوه ، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء .

وقوله { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } معطوف على ما قبله . والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار ، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين .

وجمع - سبحانه - بين قوله { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا أحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } جواب قسم محذوف ، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم .

وقدّم - سبحانه - تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة ، لأن التخلية - كما يقولون - مقدمة على التحلية ، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها ، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

وقوله { ثَوَاباً } مصدر مؤكد لما قبله ، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما .

وقوله { مِّن عِندِ الله } صفة لقوله { ثَوَاباً } وهو وصف مؤكد ؛ لأن الثواب لا يكون إلا من عنده - تعالى - ، لكنه صرح به - سبحانه - تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه .

وقوله { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .

وقد ختم - سبحانه - الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال فى الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده - سبحانه - فى الآخرة لعباده المتقين .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم فى عجائب صنعه ، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التى تضرع بها الأخيار إلى خالقهم ، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذى منحه الله لهم فى مقابل إيمانهم الصادق ، وعملهم الصالح ، فقد جرت سنته - سبحانه - أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ فاستجاب لهم ربهم } إلى طلبتهم ، وهو أخص من أجاب ويعدي بنفسه وباللام . { أني لا أضيع عمل عامل منكم } أي بأني لا أضيع . وقرئ بالكسر على إرادة القول . { من ذكر أو أنثى } بيان عامل . { بعضكم من بعض } لأن الذكر ، من الأنثى والأنثى من الذكر ، أو لأنهما من أصل واحد ، أو لفرط الاتصال والاتحاد ، أو للاجتماع والاتفاق في الدين . وهي جملة معترضة بين بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال . روي ( أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء ) فنزلت { فالذين هاجروا } إلخ ، تفصيل لأعمال العمال وما أعد لهم من الثواب على سبيل المدح والتعظيم ، والمعنى فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين . { وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي } بسبب إيمانهم بالله ومن أجله { وقاتلوا } الكفار . { وقتلوا } في الجهاد . وقرأ حمزة والكسائي بالعكس لأن الواو لا توجب ترتيبا والثاني أفضل . أو لأن المراد لما قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا . وشدد ابن كثير وابن عامر { قتلوا } للتكثير . { لأكفرن عنهم سيئاتهم } لأمحونها . { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله } أي أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضلا منه ، فهو مصدر مؤكد . { والله عنده حسن الثواب } على الطاعات قادر عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

{ استجاب } استفعل بمعنى أجاب ، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر : [ الطويل ]

وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى . . . فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ{[3800]}

أي لم يجبه ، وقوله : { أني } يجوز أن تكون «أن » مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني » ، وقرأ عيسى بن عمر : «إني » بكسر الهمزة ، وهذه آية وعد من الله تعالى : أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر ، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك ، فنزلت الآية{[3801]} ، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء ، وقوله : { من ذكر } تبيين لجنس العامل ، وقال قوم : { من } زائدة لتقدم النفي من الكلام{[3802]} .

وقوله تعالى : { بعضكم من بعض } يعني في الأجر وتقبل العمل ، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد ، وبيّن تعالى حال المهاجرين ، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضاً إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح ، فالمعنى باق إلى يوم القيامة ، { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] و «هاجر » مفاعلة من اثنين ، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضاً فهي مهاجرة ، وقوله تعالى : { وأخرجوا من ديارهم } عبارة إلزام ذنب للكفار ، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب ، للكفار قيل { أخرجوا من ديارهم } ، { وإخراج أهله منه أكبر عند الله }{[3803]} ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء ، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم ، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . وردني *** إلى الله من طردت كل مطردِ{[3804]}

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت طردتني كل مطرد ؟ إنكاراً عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير : [ البسيط ]

في عصبةٍ مِنْ قريشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ . . . ببطنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا

زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ . . . عِنْدَ اللّقَاءِ وَلاَ مِيلٌ مَعَازِيلُ{[3805]}

وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو : «وقاتلوا وقتُلوا » بتخفيف التاء وضم القاف ، ومعنى هذه القراءة بيّن ، وقرأ ابن كثير : «وقاتلوا وقتّلوا » بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل ، وقرأ حمزة والكسائي : «وقتلوا وقاتلوا » يبدآن بالفعل المبني للمفعول به ، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة ، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة ، ومعنى قراءة حمزة هذه : إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء ، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى :

{ فما وهنوا لما أصابهم } [ آل عمران : 146 ] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين ، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : و «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء من غير ألف ، و «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء خفيفة ، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف ، وقرأ محارب بن ثار : «وقَتلوا » بفتح القاف «وقاتلوا » ، وقرأ طلحة بن مصرف : «وقُتّلوا » بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا » وهذه يدخلها إما رفض رتبه الواو ، وإما أنه قاتل من بقي ، واللام في قوله : { لأكفرن } لام القسم و { ثواباً } مصدر مؤكد مثل قوله : { صنع الله } [ النمل : 88 ] و { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] وباقي الآية بين{[3806]} .


[3800]:- البيت لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه هرما أو شبيبا، ويكنى أبا المغوار، والداعي هنا: السائل. ويجيب: يرد الجواب. واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: رب داع دعا: هل من أحد يمنح المستمنحين؟ فلم يجبه أحد. (خزانة الأدب 4/385).
[3801]:- أخرجه سعيد بن منصور، وعبد الرزاق، والترمذي، وابن أبي حاتم، والحاكم. وصححه – عن أم سلمة. كما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني. (الشوكاني 1/379) و"الدر المنثور" 2/112. و"ابن كثير".
[3802]:- وقيل (من) في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في (منكم)- أي: عامل كائن منكم كائنا من ذكر أو أنثى. وقال أبو البقاء: [من ذكر أو أنثى] بدل من [منكم] بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر، ويكون بدلا تفصيليا من مخاطب-ويرد على أنه تفصيلي أنه عطف بأو- والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقول الشاعر: وكنتُ كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلّت
[3803]:- من الآية (217) من سورة البقرة.
[3804]:- هذا عجز بيت من قصيدة لأبي سفيان بن الحارث يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان مضى منه، وصدره: هداني هاد غير نفسي وردني إلى الله من طردت كل مطرد قال معلق السيرة: الذي في سائر الأصول هو: ودلني إلى الله. قال ابن هشام: ويروى: ودلني على الحق من طردت كل مطرد (القصة في سيرة ابن هشام 4/43).
[3805]:- الأنكاس: جمع نكس وهو الرذل المقصر عن غاية النجدة والكرم؛ الكشف: جمع أكشف وهو من لا يحمي رأسه بالبيضة، والأميل: الذي لا سلاح معه، وكذلك المعزال والأعزل.
[3806]:- قال أبو حيان في البحر المحيط: بدأ أولا بالخاص وهو الهجرة، وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة،وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار، وأتى ثالثا بالإذاية في سبيل الله، وهي أعمّ من أن تكون بالإخراج أو بغيره- ثم ارتقى بعد هذه الأوصاف السيئة إلى رتبة الجهاد والمقاومة والاستشهاد في دين الله، وبهذا جمع الله لهم بين رتب هذه الأعمال والظاهر الإخبار عمّن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي جاء بعده [لأكفرن عنهم سيئاتهم]..الخ