{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } بأبدانهم عند القتال ، وبأموالهم عند النفقة فيه ، فلا يجاهدون بأموالهم وأنفسهم . { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } نظر المغشى عليه { مِنَ الْمَوْتِ } من شدة الجبن ، الذي خلع قلوبهم ، والقلق الذي أذهلهم ، وخوفًا من إجبارهم على ما يكرهون ، من القتال .
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ } وصاروا في حال الأمن والطمأنينة ، { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَة } أي : خاطبوكم ، وتكلموا معكم ، بكلام حديد ، ودعاوى غير صحيحة .
وحين تسمعهم ، تظنهم أهل الشجاعة والإقدام ، { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } الذي يراد منهم ، وهذا شر ما في الإنسان ، أن يكون شحيحًا بما أمر به ، شحيحًا بماله أن ينفقه في وجهه ، شحيحًا في بدنه أن يجاهد أعداء اللّه ، أو يدعو إلى سبيل اللّه ، شحيحًا بجاهه ، شحيحًا بعلمه ، ونصيحته ورأيه .
{ أُولَئِكَ } الذين بتلك الحالة { لَمْ يُؤْمِنُوا } بسبب عدم إيمانهم ، أحبط الله أعمالهم ، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
وأما المؤمنون ، فقد وقاهم اللّه ، شح أنفسهم ، ووفقهم لبذل ما أمروا به ، من بذل لأبدانهم في القتال في سبيله ، وإعلاء كلمته ، وأموالهم ، للنفقة في طرق الخير ، وجاههم وعلمهم .
ثم أخذت السورة الكريمة فى تصوير ما جبلوا عليه من سوء تصويرا معجزا ، فقال - تعالى - { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } ، جمع شحيح من الشح وهو البخل فى أبح صوره . ولفظ { أَشِحَّةً } منصوب على الحال من الضمير فى قوله : { وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : أن من صفات هؤلاء المنافقين الجبن والخور ، حالة كونهم بخلاء بكل خير يصل إليكم - أيها المؤمنون - فهم لا يعاونوكم فى حفر الخندق ، ولا فى الدفاع عن الحق والعرض والشرف ولا فى أى شئ فيه منفعة لكم .
{ فَإِذَا جَآءَ الخوف } ، أى فإذا اقترب الوقت الذى يتوقع فيه اللقاء بينكم وبين أعدائكم . { رَأَيْتَهُمْ } أيها الرسول الكريم - { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } بجبن وهلع { تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } فى مآقيهم يمينا وشمالا .
وحالهم كحال الذى { يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أى : كحال الذى أحاط به الموت من كل جانب ، فصار فى أقصى دركات الوهن والخوف والفزع .
هذه هى حالهم عندما يتوقعون الشدائد والمخاوف ، أما حالهم عند الأمان وذهاب الخوف ، فهى كما قال - تعالى - { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } .
وقوله { سَلَقُوكُمْ } من السَّلْق . وأصله بسط العضو ومده للأذى ، سواء أكان هذا العضو يدا أو لسانا . والمراد به الإِيذاء بالكلام السيئ القبيح .
أى : أنهم عند الشدائد جبناء بخلاء ، فإذا ما ذهبا لخوف وحل الأمان ، سلطوا عليكم ألسنتهم البذيئة بالأذى والسوء ، ورموكم بألسنة ماضية حادة ، تؤثر تأثير الحديد فى الشئ ، وارتفعت أصواتهم بعد أن كانوا إذا ما ذكر القتال أمامهم ، صار حالهم كحال المغشى عليه من الموت .
ثم هم بعد كل ذلك { أَشِحَّةً عَلَى الخير } أى بخلاء بكل خير ، فهم يحرصون على جمع الغنائم ، وعلى الأموال بكل وسيلة ، ولكنهم لا ينفقون شيئا منها فى وجه من وجوه الخير والبر .
قال ابن كثير قوله { أَشِحَّةً عَلَى الخير } أى : ليس فيهم خير ، قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير ، فهم كما قال فى أمثالهم الشاعر :
أفى السلم أعْيَاراً جفاء وغلظة . . . وفى الحرب أمثال النساء العوارك
أى : هم فى حال المسالمة كأنهم الحمير الأعيار . جمع عير وهو الحمار . وفى الحرب كأنهم النساء الحيض .
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم فقال : { أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } .
أى : أولئك المنافقون الموصوفون بما سبق من الصفات السيئة { لَمْ يُؤْمِنُواْ } بما يجب الإِيمان به إيمانا صادقا ، بل قالوا بألسنتهم قولا تكذبه قلوبهم وأفعالهم { فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ } بأن أبطلها وجلها هباء منثورا ، وكان ذلك الإِحباط على الله - سبحانه - هينا يسيرا .
وخص - سبحانه - يُسْرَ إحباط عملهم بالذكر مع أن كل شئ يسير عليه - تعالى - لبيان أن أعمالهم جديرة بالإِحباط والإِفساد ، لصدورها عن قلوب مريضة ، ونفوس خبيثة .
قال صاحب الكشاف : وهل يثبت للمنافقين عمل حتى يرد عليه الإِحباط ؟
قلت : لا ، لكنه تعليم لن عسى يظن أن الإِيمان باللسان إيمان ، وإن لم يوطئه القلب ، وإن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدى عليه ، فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل ، وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإِيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء من غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا .
{ أشحة عليكم } بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل الله أو الظفر أو الغنيمة ، جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل { يأتون } أو { المعوقين } أو على الذم . { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم } في أحداقهم . { كالذي يغشى عليه } كنظر المغشي عليه أو كدوران عينيه ، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه . { من الموت } من معالجة سكرات الموت خوفا ولواذا بك . { فإذا ذهب الخوف } وحيزت الغنائم . { سلقوكم } ضربوكم . { بألسنة حداد } ذرية يطلبون الغنيمة ، والسلق البسط بقهر باليد أو اللسان . { أشحة على الخير } نصب على الحال أو الذم ، ويؤيده قراءة الرفع وليس بتكرير لأن كلا منهما مقيد من وجه . { أولئك لم يؤمنوا } إخلاصا . { فأحبط الله أعمالهم } فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقهم . { وكان ذلك } الإحباط . { على الله يسيرا } هينا لتعلق الإرادة به وعدم ما يمنعه عنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن المنافقين، فقال تعالى: {أشحة عليكم}: أشفقة من المنافقين عليكم حين يعوقونكم يا معشر المؤمنين؟
ثم أخبر عنهم عند القتال أنهم أجبن الناس قلوبا وأضعفهم يقينا وأسوأهم ظنا بالله عز وجل {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف} وجاءت الغنيمة {سلقوكم} رموكم، يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، يقول: {بألسنة حداد} ألسنة سليطة باسطة بالشر، يقولون: أعطونا الغنيمة فقد كنا معكم فلستم بأحق بها منا، يقول الله عز وجل: {أشحة على الخير} يعني الغنيمة {أولئك لم يؤمنوا} بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا بتوحيد الله.
{فأحبط الله أعمالهم}: أبطل جهادهم لأن أعملهم خبيثة وجهادهم لم يكن في إيمان، {وكان ذلك} حبط أعمالهم {على الله يسيرا} هينا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أشِحّةً عَلَيْكُمْ" اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله به هؤلاء المنافقين، في هذا الموضع من الشحّ؛
فقال بعضهم: وصفهم بالشّحّ عليهم في الغنيمة...
وقال آخرون: بل وصفهم بالشحّ عليهم بالخير...
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله وصف هؤلاء المنافقين بالجبن والشّحّ، ولم يخصُص وصفهم من معاني الشحّ بمعنى دون معنى، فهم كما وصفهم الله به أشحة على المؤمنين بالغنيمة والخير والنفقة في سبيل الله، على أهل مسكنة المسلمين... وقد يحتمل أن يكون قَطْعا من قوله: "قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوّقِينَ مِنْكُمْ "فيكون تأويله: قد يعلم الله الذين يعوّقون الناس على القتال، ويَشِحّون عند الفتح بالغنيمة. ويجوز أن يكون أيضا قَطْعا من قوله: "هلم إلينا" أشحة، وهم هكذا أشحة. ووصفهم جلّ ثناؤه بما وصفهم من الشحّ على المؤمنين، لِما في أنفسهم لهم من العداوة والضّغْن...
وقوله: "فإذَا جاءَ الخَوْفُ" إلى قوله: "مِنَ المَوْتِ" يقول تعالى ذكره: فإذا حضر البأُس، وجاء القتال، خافوا الهلاك والقَتْل، رأيتهم يا محمد ينظرون إليك لِواذا بك، تَدُور أعينهم، خوفا من القتل، وفرارا منه "كالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ" يقول: كدَوَران عين الذي يُغْشَى عليه من الموت النازل به "فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ" يقول: فإذا انقطعت الحربُ واطمأنوا "سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ"...
وأما قوله: "سَلَقُوكُمْ بألْسنَةٍ حِدادٍ"، فإنه يقول: عَضّوكم بألسنة ذَرِبة. ويقال للرجل الخطيب الذّرِب اللسان: خطيب مِسْلَق ومِصْلَق، وخطيب سَلاّق وصَلاّق.
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف تعالى ذكره هؤلاء المنافقين أنهم يَسْلُقون المؤمنين به؛ فقال بعضهم: ذلك سَلْقُهم إياهم عند الغنيمة، بمسألتهم القَسْمَ لهم... عن قتادة "فإذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدادٍ" أما عند الغنيمة، فأشحّ قوم، وأسوأ مُقاسَمَة: أعطُونا أعطُونا، فإنا قد شِهدنا معكم. وأما عند البأس فأجبن قوم، وأخذله للحقّ.
وقال آخرون: بل ذلك سَلْقُهُمْ إياهم بالأذَى...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يَسْلُقونكم من القول بما تُحبون، نفاقا منهم...
وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر التنزيل قول من قال "سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ أشِحّةً عَلى الخَيْرِ" فأخبر أن سَلْقَهُمْ المسلمين شُحَا منهم على الغنيمة والخير، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أن ذلك لطلب الغنيمة. وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنيمة، دخل في ذلك قول من قال: معنى ذلك: سَلَقوكم بالأذى، لأن فعلهم ذلك كذلك، لا شكّ أنه للمؤمنين أذى.
وقوله: "أشِحّةً عَلى الخَيْرِ" يقول: أشحّة على الغنيمة، إذا ظفر المؤمنون. وقوله: "لَمْ يُؤْمنُوا فأحُبَطَ اللّهُ أعمالَهُمْ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ لك صفتهم في هذه الآيات، لم يصدّقوا الله ورسوله، ولكنهم أهل كفر ونِفاق، "فأحبط الله أعمالهم" يقول: فأذهب الله أجورَ أعمالهم وأبطلَها.
وقوله: "وكانَ ذلكَ على اللّهِ يَسِيرا" يقول تعالى ذكره: وكان إحباط عملهم الذي كانوا عملوا قبل ارتدادهم ونفاقهم على الله يسيرا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا جاء الخوفُ طاشت من الرعبِ عقولهم، وطاحت بصائرهم، وتعطلت عن النصرة جميعُ أعضائهم، وإذا ذهبَ الخوْفُ زَيَّنوا كلامَهم، وقدّموا خداعهم، واحتالوا في أحقاد خِستهم.. أولئك هذه صفاتهم؛ لم يباشر الإيمانُ قلوبهم، ولا صدقوا فيما أظهروا من ادعائهم واستسلامهم.
{أشحة عليكم} أي بخلاء حيث لا ينفقون في سبيل الله شيئا وثانيهما: لا يأتون البأس بمعنى لا يقاتلون معكم ويتعللون عن الاشتغال بالقتال وقت الحضور معكم، وقوله: {أشحة عليكم} أي بأنفسهم وأبدانهم.
ثم قال تعالى: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا}.
إشارة إلى غاية جبنهم ونهاية روعهم، واعلم أن البخل شبيه الجبن، فلما ذكر البخل بين سببه وهو الجبن والذي يدل عليه هو أن الجبان يبخل بماله ولا ينفقه في سبيل الله لأنه لا يتوقع الظفر فلا يرجو الغنيمة فيقول هذا إنفاق لا بدل له فيتوقف فيه، وأما الشجاع فيتيقن الظفر والاغتنام فيهون عليه إخراج المال في القتال طمعا فيما هو أضعاف ذلك، وأما بالنفس والبدن فكذلك فإن الجبان يخاف قرنه ويتصور الفشل فيجبن ويترك الإقدام، وأما الشجاع فيحكم بالغلبة والنصر فيقدم، وقوله تعالى: {فإذا ذهب الخوف سلقوكم} أي غلبوكم بالألسنة وآذوكم بكلامهم يقولون نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو وقهرتم ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة، وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالإياب، وقوله: {أشحة على الخير} قيل الخير المال ويمكن أن يقال معناه أنهم قليلو الخير في الحالتين كثيرو الشر في الوقتين في الأول يبخلون، وفي الآخر كذلك.
ثم قال تعالى: {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا} يعني لم يؤمنوا حقيقة وإن أظهروا الإيمان لفظا فأحبط الله أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وقوله: {وكان ذلك على الله يسيرا} إشارة إلى ما يكون في نظر الناظر كما في قوله تعالى: {وهو أهون عليه} وذلك لأن الإحباط إعدام وإهدار، وإعدام الأجسام إذا نظر الناظر يقول الجسم بتفريق أجزائه، فإن من أحرق شيئا يبقى منه رماد، وذلك لأن الرماد إن فرقته الريح يبقى منه ذرات، وهذا مذهب بعض الناس والحق هو أن الله يعدم الأجسام ويعيد ما يشاء منها، وأما العمل فهو في العين معدوم وإن كان يبقى يبقى بحكمه وآثاره، فإذا لم يكن له فائدة واعتبار فهو معدوم حقيقة وحكما فالعمل إذا لم يعتبر فهو معدوم في الحقيقة بخلاف الجسم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجهاً صالحاً، بين فساد قصدهم بقوله ذاماً غاية الذم بالتعبير بلفظ الشح الذي هو التناهي في البخل، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل إلى بخل خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه {أشحة} أي يفعلون ما تقدم والحال أن كلاً منهم شحيح {عليكم} أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال. ولما كان التقدير: في حال الأمن، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال: {فإذا جاء الخوف} أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها {رأيتهم} أي أيها المخاطب {وينظرون} وبين بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية فقال: {إليك} أي حال كونهم {تدور} يميناً وشمالاً بإدارة الطرف {أعينهم} أي زائغة رعباً وخوراً، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال: {كالذي} أي كدوران عين الذي، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال: {يغشى عليه} مبتدئاً غشيانه {من الموت} سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع، كان قليل الثبات عند القراع؛ ثم ذكر خاصة أخرى لبيان جبنهم فقال: {فإذا ذهب الخوف} أي بذهاب أسبابه {سلقوكم} أي تناولوكم تناولاً صعباً جرأة ووقاحة، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور {بألسنة حداد} ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها؛ ثم بين المراد بقوله: {أشحة} أي شحاً مستعلياً {على الخير} أي المال الذي عندهم، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره، شحاً لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه، وهذه سنة أخرى في أن من كان صلباً في الرخاء كان رخواً حال الشدة وعند اللقاء.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{سَلَقُوكُم} ضربُوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}، والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أشحة عليكم) ففي نفوسهم كزازة على المسلمين. كزازة بالجهد وكزازة بالمال، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء. فلا يبذلون للخير شيئا من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم؛ مع كل ذلك الادعاد العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان! وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل. فهو موجود دائما. وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء. وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف، وهو شحيح بخيل على الخير وأهل الخير، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان! (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم).. فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، ولم تهتد بنوره، ولم تسلك منهجه. (فأحبط الله أعمالهم).. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وضمير الخطاب في قوله {عليكم} للرسول عليه الصلاة والسلام وللمسلمين، وهو انتقال من القول الذي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يقوله لهم إلى كشف أحوالهم للرسول والمسلمين بمناسبة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إن المعوّقين كانوا منافقين يتميّزون بالصفات التالية:
أنّهم لم يكونوا أهل حرب أبداً، إلاّ بنسبة قليلة جدّاً.
لم يكونوا من أهل التضحية والإيثار سواء بالمال والنفس، ولم يكونوا يتحمّلون أقلّ المصاعب والمتاعب.
كانوا يفقدون توازنهم وشخصيتهم في اللحظات الحرجة العاصفة من شدّة الخوف. 4 يظنّون أنّهم سبب كلّ الانتصارات، ولهم كلّ الفخر عند الانتصار.
أنّهم كانوا أناسا بلا إيمان، ولم يكن لأعمالهم أيّة قيمة عند الله تعالى. وهذه الصفات هي التي تعرفنا بالمنافقين في كلّ عصر وزمان، وفي كلّ مجتمع وفئة. وهذا الوصف الدقيق الذي وصفهم القرآن به يمكن من خلاله معرفة من يشاركهم في الفكر والسلوك، وكم نرى بأم أعيننا في عصرنا من أمثالهم!! عن الخشونة في الكلام.