تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ }

أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن ، ليتبين الصادق من الكاذب ، والجازع من الصابر ، وهذه سنته تعالى في عباده ، لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ، ولم يحصل معها محنة ، لحصل الاختلاط الذي هو فساد ، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر . هذه فائدة المحن ، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان ، ولا ردهم عن دينهم ، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين ، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } من الأعداء { وَالْجُوعِ } أي : بشيء يسير منهما ، لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله ، أو الجوع ، لهلكوا ، والمحن تمحص لا تهلك .

{ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ } وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية ، وغرق ، وضياع ، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة ، وقطاع الطريق وغير ذلك .

{ وَالْأَنْفُسِ } أي : ذهاب الأحباب من الأولاد ، والأقارب ، والأصحاب ، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد ، أو بدن من يحبه ، { وَالثَّمَرَاتِ } أي : الحبوب ، وثمار النخيل ، والأشجار كلها ، والخضر ببرد ، أو برد ، أو حرق ، أو آفة سماوية ، من جراد{[113]}  ونحوه .

فهذه الأمور ، لا بد أن تقع ، لأن العليم الخبير ، أخبر بها ، فوقعت كما أخبر ، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين : جازعين وصابرين ، فالجازع ، حصلت له المصيبتان ، فوات المحبوب ، وهو وجود هذه المصيبة ، وفوات ما هو أعظم منها ، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ، ففاز بالخسارة والحرمان ، ونقص ما معه من الإيمان ، وفاته الصبر والرضا والشكران ، وحصل [ له ] السخط الدال على شدة النقصان .

وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب ، فحبس نفسه عن التسخط ، قولا وفعلا ، واحتسب أجرها عند الله ، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ، بل المصيبة تكون نعمة في حقه ، لأنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها ، فقد امتثل أمر الله ، وفاز بالثواب ، فلهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } أي : بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب . ف{ الصابرين } ، هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة ، والمنحة الجسيمة .


[113]:- كذا في ب، معدلة في الهامش وفي أ: جند.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

وبعد أن طلب - سبحانه - من عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على احتمال المكاره ، أردف ذلك بذكر بعض المواطن التي لا يمر فيها الإِنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرى الصبر فقال - تعالى - { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات } .

وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } من البلو والبلاء وهو الامتحان والاختبار ، وهو جواب لقسم محذوف والتقدير : والله لنبلونكم .

وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } عطف على قوله : { استعينوا } الخ ، عطف المضمون على المضمون ، والجامع أن مضمون الأول طلب الصبر ، ومضمون الثانية بيان مواطنه ، والمراد : ولنعاملنكم معاملة المختبر والمبتلي لأحوالكم :

والتنوين في قوله : { بِشَيْءٍ } للتقليل . أي بقليل من كل واحد من هذه البلايا والمحن وهي الخوف وما عطف عليه .

وإنما قلل - كما قال الزمخشري - ليؤذن أن كل بلاء وإن جل ففوقه ما يقل إليه وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم ، وأنه - سبحانه - يبتليهم من هذه المصائب بقدر ما يمتاز به الصابرون من غير الصابرين .

و { الخوف } غم يلحق النفس لتوقع مكروه ، ومن أشد ما تضطرب له النفوس من الخوف ، خشيتها أن تقع تحت يد عدو لا هم له إلا إيذاؤها بما تكره .

و { والجوع } ضد الشبع ، والمراد منه القحط ، وتعذر تحصيل القوت ، والحاجة الملحة إلى طعام .

و { الأموال } جمع مال ، وهو ما يملك مما له قيمة ، وجرى للعرب عرف باستعماله في النعم خاصة - وهي الإِبل والبقر والغنم - .

و { والثمرات } : جمع ثمرة وهي حمل الشجر ، وقد تطلق على الشجر سوالنبات نفسه .

والمعنى : ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع ، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات ، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون ، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة ، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله - تعالى - .

ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب . وحدث لهم جوع أليم بسبب هجرتهم من أوطانهم ، وقلة ذات يدهم حتى لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشد الحجر على بطنه . وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله . وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم . ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيماناً وتسليماً لقضاء الله وقدره ، واستمساكاً بتعاليم دينهم .

وهذا البلاء وتلك الآلام لا بد منها ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف ، إذ العقائد الرخيصة التي لا يؤد أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم تركها عند الصدمة الأولى ، وليعلم من جاء بعدهم من المؤمنين إذا ما أصابهم مثل هذه الأمور أن ما أصابهم ليس لنقصان من درجاتهم ، وحط من مراتبهم ، فقد أصيب بمثل ذلك أو أكثر من هم أفضل منهم وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .

قال الإِمام الرازي : وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء . أي الإِخبار به قبل وقوعه : ففيها وجوه .

أحدها : ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع وأسهل عليهم بعد الورود .

وثانيها : أنهم إذا علموا أنه ستصل إلأيهم تلك المحن اشتد خوفهم ، فيصير ذلك الخوف تعجيلا للابتلاء ، فيستحقون به مزيد الثواب .

وثالثها : أن الكفار إذا شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه ، مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع - يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله . ومن الملعوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب : كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب .

ورابعها : أنه - تعالى - أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه . فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً .

وخامسها : أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً في المال وسعة الرزق ، فإذا اختبره - سبحانه - بنزول هذه المحن ، فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق .

وسادسها : أن إِخلاص الإِنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله - تعالى - أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه . فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

أخبر تعالى أنه يبتلي عباده [ المؤمنين ]{[2973]} أي : يختبرهم ويمتحنهم ، كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] فتارة بالسراء ، وتارة بالضراء من خوف وجوع ، كما قال تعالى : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } [ النحل : 112 ] فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ؛ ولهذا قال : لباس الجوع والخوف . وقال هاهنا { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ } أي : بقليل من ذلك { وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ } أي : ذهاب بعضها { وَالأنْفُسِ } كموت الأصحاب والأقارب والأحباب { وَالثَّمَرَاتِ } أي : لا تُغِلّ الحدائق والمزارع كعادتها . كما قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة . وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده ، فمن صبر أثابه [ الله ]{[2974]} ومن قنط أحل [ الله ]{[2975]} به عقابه . ولهذا قال : { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }

وقد حكى بعضُ المفسرين أن المراد من الخوف{[2976]} هاهنا : خوف الله ، وبالجوع : صيام رمضان ، ونقص{[2977]} الأموال : الزكاة ، والأنفس : الأمراض ، والثمرات : الأولاد .

وفي هذا نظر ، والله أعلم .


[2973]:زيادة من جـ.
[2974]:زيادة من جـ.
[2975]:زيادة من جـ.
[2976]:في جـ: "أن المراد بالخوف".
[2977]:في جـ: "وبنقص".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (155)

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( 155 )

وقوله تعالى : { ولنبلونكم } الآية ، أمر تعالى بالاستعانة بالصبر وأخبر أنه مع الصابرين( {[1434]} ) ، ثم اقتضت الآية بعدها من فضل الشهداء ما يقوي الصبر عليهم ويخفف المصيبة ، ثم جاء بعد ذلك من هذه الأمور التي لا تتلقى إلا بالصبر أشياء تعلم أن الدنيا دار بلاء ومحن ، أي فلا تنكروا فراق الإخوان والقرابة ، ثم وعد الصابرين أجراً ، وقال عطاء والجمهور : إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الخطاب لقريش وحل ذلك بهم فهي آية للنبي صلى الله عليه وسلم( {[1435]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول أظهر ، { ولنبلونكم بشيء } معناه لنمتحننكم ، وحركت الواو لالتقاء الساكنين ، وقيل : الفعل مبني وهو مع النون الثقيلة بمنزلة خمسة عشر ، و { الخوف } يعني من الأعداء في الحروب ، و { الجوع } الجدب والسنة ، وأما الحاجة إلى الأكل فإنما اسمها الغرث ، وقد استعمل فيه المحدثون الجوع اتساعاً( {[1436]} ) ، ونقص الأموال : بالجوائح والمصائب ، { والأنفس } : بالموت والقتل ، { والثمرات } : بالعاهات ونزع البركة ، فالمراد بشيء من هذا وشيء من هذا( {[1437]} ) فاكتفى بالأول إيجازاً ولذلك وحد ، وقرأ الضحاك { بأشياء } على الجمع ، والمعنى قريب بعضه من بعض ، وقال بعض العلماء : إنما المراد في هذه الآية مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدو والجوع به وبالأسفار إليه ونقص الأموال بالنفقات فيه والأنفس بالقتل والثمرات بإصابة العدو لها أو بالغفلة عنها بسبب الجهاد .


[1434]:- لفظ المعية جاء في كتاب الله عاما كما في قوله تعالى: [وهو معكم أينما كنتم] وقوله: [وهو معهم أينما كانوا] وجاء خاصا كقوله هنا: [إن الله مع الصابرين] وكقوله تعالى: [إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون] ولا يمكن أن تحمل على المخالطة مع الناس فهي – في العام – تحمل على العلم والقدرة والسلطان – وفي الخاص على المعونة والنصرة والتأييد.
[1435]:- يعني أن الله سبحانه قد استجاب دعاء نبيه عليه السلام في قريش الذين حل بهم البلاء.
[1436]:- الذي في المعاجم أن الجوع: ضد الشبع – أو هو خلو البطن من الطعام، وأن المجاعة هي عام الجدب. ومثلها المجْوعَة، وفيها أيضا أن الغرث هو الجوع، وفي المثل: (غرثان فاربكوا له) أي: اصنعوا له طعاما. وفي المثل: (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها).
[1437]:- أي: بقليل من هذا وقليل من هذا، فالتعبير بشيء يوحي بالقلة، وكل ما آذى المؤمن –وإن قل- فهو مصيبة وبلاء.