فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما ، أن هذا هو الواقع ، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر ، فلا وجه للاعتراض بقول القائل : { لم حكم داود ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر } ؟ { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم ، فقال : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } لأن الظلم من صفة النفوس . { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح ، يمنعهم من الظلم . { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } كما قال تعالى { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } { وَظَنَّ دَاوُدُ } حين حكم بينهما { أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي : اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } لما صدر منه ، { وَخَرَّ رَاكِعًا } أي : ساجدا { وَأَنَابَ } للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة .
وأمام هذه القضية الواضحة المعالم ، وأمام سكوت الأخ المدعى عليه أمام أخيه المدعى ، وعدم اعتراضه على قوله . . أمام كل ذلك . لم يلبث أن قال داود فى حكمه : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ . . } : واللام فى قوله : { لَقَدْ . . . } جواب لقسم محذوف . وإضافة " سؤال " إلى { نَعْجَتِكَ } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والفاعل محذوف . أى : بسؤاله ، كما فى قوله - تعالى - : { لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } أى : من دعائه .
وقوله { نعاجه } متعلق بسؤال على تضمينه معنى الضم . أى : قال داود - عليه السلام - بعد فراغ المدعى من كلامه ، وبعد إقرار المدعى عليه بصدق أخيه فيما ادعاه - والله إن كان ما تقوله حقا - أيها المدعى - فإن أخاك فى هذه الحالة يكون قد ظلمك بسبب طلبه منك أن تتنازل له عن نعجتك لكى يضمها إلى نعاجة الكثيرة .
وإنما قلنا إن داود - عليه السلام - قد قال ذلك بعد إقرار المدعى عليه بصحة كلام المدعى ، لأنه من المعروف أن القاضى لا يحكم إلا بعد سماع حجة الخصوم أو الخصين حتى يتمكن من الحكم بالعدل .
ولم يصرح القرآن بأن داود - عليه السلام - قد قال حكمه بعد سماع كلام المدعى عليه ، لأنه مقرر ومعروف فى كل الشرائع ، وحذف ما هو مقرر ومعلوم جائز عند كل ذى عقل سليم .
ثم أراد داود - عليه السلام - وهو الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب - أراد أن يهون المسألة عن نفس المشتكى ، وأن يخفف من وقع ما قاله أخوه الغنى له ، وما فعله معه ، فقال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ . . . } .
أى : قال داود للمشتكى - على سبيل التسية له - : وإن كثيرا من الخلطاء ، أى الشركاء - جمع خليط ، وهو من يخلط ماله بمال غيره .
{ ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أى : ليعتدى بعضهم على بعض ، ويطمع بعضهم فى مال الآخر { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فإنهم لا يفعلون ذلك لقوة إيمانهم ، ولبعدهم عن كل ما لا يرضى خالقهم ، فالجملة الكريمة منصوبة المحل على الاستثناء ، لأن الكلام قبلها تام موجب .
وقوله : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } بيان لقلة عدد المؤمنين الصادقين الذين يعدلون فى أحكامهم .
ولفظ { قليل } خبر مقدم و " ما " مزيدة للإِبهام وللتعجب من قلتهم . و " هم " مبتدأ مؤخر .
فكأنه - سبحانه - يقول : ما أقل هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويحرصون على إعطاء كل ذى حق حقه ، والجملة الكريمة اعتراض تذييلى .
وبهذا نرى أن داود - عليه السلام - قد قضى بين الخصمين ، بما يحق الحق ويبطل الباطل .
ثم بين - سبحانه - ما حاك بنفس داود - عليه السلام - بعد أن دخل عليه الخصمان ، وبعد أن حكم بينهما بالحكم السابق فقال : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } .
والظن معناه : ترجيح أحد الأمرين على الآخر .
وفتناه : بمعنى امتحناه واختبرناه وابتليناه ، مأخوذ من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار .
أى : وظن داود - عليه السلام - أن دخول الخصمين عليه بهذه الطريقة ، إنما هو لأجل الاعتداء عليه . وأن ذلك لون من ابتلاء الله - تعالى - له ، وامتحانه لقوة إيمانه ، ولكن لما لم يتحقق هذا الظن ، وإنما الذى تحقق هو القضاء بينهما بالعدل ، استغفر رببه من ذلك الظن ، { وَخَرَّ رَاكِعاً } أى : ساجدا لله - تعالى - وعبر عنه بالركوع لأنه فى كل منهما انحناء وخضوع لله - عز وجل - { وأناب } أى : ورجع داود إلى الله - تعالى - بالتوبة وبالمداومة على العبادة والطاعة .
{ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه ولعله قال ذلك بعد اعترافه ، أو على تقدير صدق المدعي والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة . { وإن كثيرا من الخلطاء } الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط { ليبغي } ليتعدى . { بعضهم على بعض } وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها كقوله :
اضرب عنك الهموم طارقها *** . . . . . . . . . . . . . . .
وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة . { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } أي وهم قليل ، و{ ما } مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم . { وظن داود أنما فتناه } ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها . { فاستغفر ربه } لذنبه . { وخر راكعا } ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه ، أو خر للسجود راكعا أي مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار . { وأناب } ورجع إلى الله بالتوبة ، وأقصى ما في هذه القضية الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ود أن يكون له ما لغيره ، وكان له أمثاله فنبهه الله بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه . وما روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها وسعى حتى تزوجها وولدت منه سليمان ، إن صح فلعله خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته ، وكان ذلك معتادا فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى . وما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارا وأمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء وافتراء ، ولذلك قال علي رضي الله عنه : من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين . وقيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم وأراد أن ينتقم منهم ، فظن أن ذلك ابتلاء من الله له { فاستغفر ربه } مما هم به { وأناب } .
{ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } .
فحكم داود بأن سؤال الأخ أخاه نعجته ظلم لأن السائل في غنى عنها والمسؤول ليس له غيرها فرغبة السائل فيما بيد أخيه من فرط الحرص على المال واجتلاب النفع للنفس بدون اكتراث بنفع الآخر . وهذا ليس من شأن التحابّ بين الأخوين والإِنصاف منهما فهو ظلم وما كان من الحق أن يسأله ذلك أعطاه أو منعه ، ولأنه تطاول عليه في الخطاب ولامه على عدم سماح نفسه بالنعجة ، وهذا ظلم أيضاً .
والإِضافة في قوله : { بسؤال نعجتِكَ } للتعريف ، أي هذا السؤال الخاص المتعلق بنعجة معروفة ، أي هذا السؤال بحذافره مشتمل على ظلم ، وإضافة سؤال من إضافة المصدر إلى مفعوله . وتعليق { إلى نعاجه } ب« سؤال » تعليق على وجه تضمين « سؤال » معنى الضم ، كأنه قيل : بطلب ضم نعجتك إلى نعاجه .
فهذا جواب قولهما : { فاحكم بيننا بالحق ولا تُشطط } ثم أعقبه بجواب قولهما : { واهدنا إلى سواءِ الصراط } إذ قال : { وإنَّ كثيراً من الخُلطاءِ ليبغي بعضهم على بعضٍ إلاَّ الذين ءَامنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ } المفيد أن بَغْي أحد المتعاشرين على عشيره متفشَ بين الناس غير الصالحين من المؤمنين ، وهو كناية عن أمرهما بأن يكونا من المؤمنين الصالحين وأن ما فعله أحدهما ليس من شأن الصالحين .
وذِكر غالب أحوال الخلطاء أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير من انتهاز فرص الهداية فأراد داود عليه السلام أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين وأن يكرّه إليهما الظلم والاعتداء . ويستفاد من المقام أنه يَأسف لحالهما ، وأنه أراد تسلية المظلوم عما جرى عليه من خليطه ، وأن له أسوة في أكثر الخلطاء .
وفي تذييل كلامه بقوله : { وقليلٌ ما هُم } حثّ لهما أن يكونا من الصالحين لما هو متقرر في النفوس من نفاسة كل شيء قليل ، قال تعالى : { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] . والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذات الدنيا كثيرة والمشي مع الهوى محبوب ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع ، فالإِنسان محفوف بجواذب السيئات ، وأمّا دواعي الحق والكمال فهو الدين والحكمة ، وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات ، وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني وأعرض عن الداعي الشهواني ، فذلك هو العلة في هذا الحكم بالقلة .
وزيادة { ما } بَعد { قليل } لقصد الإِبهام كما تقدم آنفاً في قوله : { جند ما هنالك } [ ص : 11 ] ، وفي هذا الإِبهام إيذان بالتعجب من ذلك بمعونة السياق والمقام كما أفادت زيادتها في قول امرىء القيس :
وحديث الركب يوم هُنا *** وحديث مَّا على قِصره
وقد اختلف المفسرون في ماهية هاذين الخصمين ، فقال السديّ والحسن ووهب بن مُنبّه : كانا ملَكَيْن أرسلهما الله في صورة رجلين لداود عليه السلام لإِبلاغ هذا المثل إليه عتاباً له . ورواه الطبري عن أنس مرفوعاً . وقيل كانا أخوين شقيقين من بني إسرائيل ، أي ألهمهما الله إيقاع هذا الوعظ .
واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميماً للتنويه به لدفع مَا قد يُتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب « صمويل الثاني » من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى : { وإن له عندنا لزُلفى وحُسن مئابٍ } [ ص : 40 ] . وبهذا تعلم أن ليس لهذا النبأ تعلق بالمقصد الذي سيق لأجله ذكر داود ومن عطف عليه من الأنبياء .
وهذا النبأ الذي تضمنته الآية يُشير به إلى قصة تزوج داود عليه السلام زوجة ( أُوريا الحثّي ) من رجال جيشه وكان داود رآها فمال إليها ورام تزوجها فسأله أن يتنازل له عنها وكان في شريعتهم مباحاً أن الرجل يتنازل عن زوجه إلى غيره لصداقة بينهما فيطلقها ويتزوجها الآخر بعد مضيّ عدتها وتحقق براءة رحمها كما كان ذلك في صدر الإِسلام . وخرج أُوريا في غزو مدينة ( رَبة ) للعمونيّين وقيل في غزو عَمَّان قصبة البلقاء من فلسطين فقُتل في الحرب وكان اسم المرأة ( بثشبع بنت اليعام وهي أم سليمان ) . وحكى القرآن القصة اكتفاء بأن نبأ الخصمين يشعر بها لأن العبرة بما أعقبه نبأ الخصمين في نفس داود فعتب الله على داود أن استعمل لنفسه هذا المباح فعاتبه بهذا المثل المشخص ، أرسل إليه ملكين نزلا من أعلى سور المحراب في صورة خصمين وقصّا عليه القصة وطلبا حكمه وهديه فحكم بينهما وهداهما بما تقدم تفسيره لتكون تلك الصورة عظة له ويشعر أنه كان الأليق بمقامه أن لا يتناول هذا الزواج وإن كان مباحاً لما فيه من إيثار نفسه بما هو لغيره ولو بوجه مباح لأن الشعور بحسن الفعل أو قبحه قد لا يحصل عليه حين يفعله فإذا رأى أو سمع أن واحداً عمله شعر بوصفه .
ووقع في سفر « صمويل الثاني » من كتب اليهود سوق هذه القصة على الخلاف هذا .
وليس في قول الخصمين : { هذا أخِي } ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكابُ الكذب لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المخبِر بها أن يظن المخبَر ( بالفتح ) وقوعَها إلاّ ريثما يحصل الغرض من العبرة بها ثم ينكشف له باطنها فيعلم أنها لم تقع . وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقعة فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير وعلى نية المشابهة .
وفي هذا دليل شرعي على جواز وضع القِصص التمثيلية التي يقصد منها التربية والموعظة ولا يتحمل واضعها جرحة الكذب خلافاً للذين نبزوا الحريري بالكَذب في وضع « المقامات » كما أشار هو إليه في ديباجتها . وفيها دليل شرعي لجواز تمثيل تلك القصص بالأجسام والذوات إذا لم تخالف الشريعة ، ومنه تمثيل الروايات والقصص في ديار التمثيل ، فإن ما يجري في شرع من قبلنا يصلح دليلاً لنا في شرعنا إذا حكاه القرآن أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد في شرعنا ما ينسخه .
وأخذ من الآية مشروعية القضاء في المسجد ، قالوا : وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى هذه الآية بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه الكتاب أو السنة . وقد حكيت هذه القصة في سفر « صمويل الثاني » في الإِصحاح الحادي عشر على خلاف ما في القرآن وعلى خلاف ما تقتضيه العصمة لنبوءة داود عليه السلام فاحذروه .
والذي في القرآن هو الحق ، والمنتظم مع المعتاد وهو المهيمن عليه ، ولو حكي ذلك بخبر آحاد في المسلمين لوجب ردُّه والجزم بوضعه لمعارضته المقطوع به من عصمة الأنبياء من الكبائر عند جميع أهل السنة ومن الصغائر عند المحققين منهم وهو المختار .
{ وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب }
أي علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليشعره بحال فعلته مع ( أُوريا ) وقد أشعره بذلك ما دلّه عليه انصراف الخصمين بصورة غير معتادة ، فعلم أنهما ملَكان وأن الخصومة صورية فعلم أن الله بعثهما إليه عَتْباً له على متابعة نفسه زوجةَ ( أوريا ) وطلبه التنازل عنها . وعبر عن علمه ذلك بالظن لأنه علم نظري اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة وكثيراً ما يعبر عن العلم النظري بالظن لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردد في أول النظر .
و { أنما } مفتوحة الهمزة أخت ( إنما ) تفيد الحصر ، أي ظنّ أن الخصومة ليست إلاّ فتنة له ، أو ظن أن ما صدر منه في تزوج امرأة أوريا ليس إلا فتنة . ومعنى { فتنَّاهُ } قدّرنا له فتنة ، فيجوز أن تكون الفتنة بالمعنى المشهور في تدبير الحيلة لقتل ( أوريا ) فعبر عنها بالفتنة لأنها أورثت داود مخالفةً للأليق به من صرف نفسه عن شيء غيره ، وعدم متابعته ميله النفساني وإن كان في دائرة المباح في دينهم ، فيكون المعنى : وعلم أن ما صدر منه فتنة من النفس . وإنما علم ذلك بعد أن أحسّ من نفسه كراهية مثلها مما صوره له الخصمان .
ويجوز أن يكون الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار ، كقوله تعالى لموسى : { وفتناك فتوناً } [ طه : 40 ] ، أي ظن أنا اختبرنا زكانته بإرسال الملكين ، يصور أن له صورةً شبيهةً بفعله ففطن أن ما فعله أمر غير لائق به . وتفريع { فاستغفر ربَّهُ } على ذلك الظنّ ظاهر على كلا الاحتمالين ، أي لما علم ذلك طلب الغفران من ربه لِما صنع .
وخرّ خروراً : سقط ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فخر عليهم السقف من فوقهم في سورة } [ النحل : 26 ] .
والركوع : الانحناء بقصد التعظيم دون وصول إلى الأرض قال تعالى : { تراهم ركعاً سجداً } [ الفتح : 29 ] ، فذكر شيئين . قالوا : لم يكن لبني إسرائيل سجود على الأرض وكان لهم الركوع ، وعليه فتقييد فعل { خرّ } بحال { رَاكِعاً } تمَجَّز في فعل { خرّ } بعلاقة المشابهة تنبيهاً على شدة الانحناء حتى قارب الخرور . ومن قال : كان لهم السجود جعل إطلاق الرجوع عليه مجازاً بعلاقة الإِطلاق . وقال ابن العربي : لا خلاف في أن الركوع هاهنا السجود ، قلت : الخلافُ موجود .
والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض ، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإِسلام كانت خاصة بالأنبياء من قبل كما تقدم في قوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] ، وتقدم قوله تعالى : { وخروا له سجداً } في سورة [ يوسف : 100 ] . وكان ركوع داود عليه السلام تضرعاً لله تعالى ليقبل استغفاره .
والإِنابة : التوبة : يقال : أناب ، ويقال : نَاب . وتقدم عند قوله تعالى : { إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } في سورة [ هود : 75 ] . وعند قوله : { منيبين إليه } في سورة [ الروم : 31 ] .
وهنا موضع سجدة من سجود القرآن من العزائم عند مالك لثبوت سجود النبي صلى الله عليه وسلم عندها . ففي « صحيح البخاري » عن مجاهد « سألتُ ابن عباس عن السجدة في ص فقال : أوَ ما تقرأ { ومن ذريته داود وسليمان } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] فكان داود ممن أُمر نبيئكم أن يقتدِيَ به فسجدها داود فسجدها رسول الله » . وفي « سنن أبي داود » عن ابن عباس « ليس ص من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها » . وفيه عن أبي سعيد الخُدْري قال : « قرأ رسول الله وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَ الناس للسجود ( أي تهيّأَوا وتحركوا لأجله ) فقال رسول الله : إنما هي توبة نبيء ولكني رأيتكم تشزَّنْتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا » ، وقول أبي حنيفة فيها مثل قول مالك ولم يرَ الشافعي سجوداً في هذه الآية إمَّا لأجل قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما هي توبة نبيء " فرجع أمرُها إلى أنها شرْعُ من قبلنا ، والشافعي لا يرى شرع من قبلنا دليلاً .
ووجه السجود فيها عند من رآه أن ركوع داود هو سجود شريعتهم فلما اقتدى به النبي صلى الله عليه وسلم أتى في اقتدائه بما يساوي الركوع في شريعة الإِسلام وهو السجود . وقال أبو حنيفة : الركوع يقوم مقام سجود التلاوة أخذاً من هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} داود: {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} بأخذه التي لك من الواحدة، إلى التسع والتسعين التي له.
{وإن كثيرا من الخلطاء} الشركاء.
{ليبغي بعضهم على بعض}: ليظلم بعضهم بعضا.
{إلا} استثناء فقال: إلا {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} لا يظلمون أحدا.
{وقليل ما هم}: هم قليل، فلما قضى بينهما... علم أن الله تبارك وتعالى ابتلاه بذلك.
{وظن داود أنما فتناه}: وعلم داود أنا ابتليناه.
{فاستغفر ربه وخر راكعا}: وقع ساجدا.
{وأناب} ثم رجع من ذنبه تائبا إلى الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال داود للخصم المتظلم من صاحبه: لقد ظلمك صاحبك بسؤاله نعجتك إلى نعاجه...
وقوله:"وَإنّ كَثِيرا مِنَ الخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ": يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدّى بعضهم على بعض، "إلاّ الّذِينَ آمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ "يقول: وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، ولم يتجاوزوه، "وَقَلِيلٌ ما هُمْ". وفي «ما» التي في قوله: وَقَلِيلٌ ما هُم وجهان: أحدهما أن تكون صلة بمعنى: وقليل هم، فيكون إثباتها وإخراجها من الكلام لا يُفسد معنى الكلام: والآخر أن تكون اسما، و «هم» صلة لها، بمعنى: وقليل ما تجدهم...
[عن] ابن عباس، معنى الكلام: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل الذين هم كذلك، بمعنى: الذين لا يبغي بعضهم على بعض، و«ما» على هذا القول بمعنى: مَنْ.
وقوله: "وَظَنّ دَاوُدُ أنّمَا فَتَنّاهُ "يقول: وعلم داود أنما ابتليناه... عن ابن عباس: "وَظَنّ دَاوُدُ أنّمَا فَتَنّاهُ": اختبرناه.
والعرب توجه الظنّ إذا أدخلته على الإخبار كثيرا إلى العلم الذي هو من غير وجه العيان.
وقوله: "فاسْتَغْفَرَ رَبّهُ" يقول: فسأل داود ربه غفران ذنبه،
"وَخَرّ رَاكِعا" يقول: وخرّ ساجدا لله، "وأنابَ" يقول: ورجع إلى رضا ربه، وتاب من خطيئته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي الذين آمنوا، واعتقدوا في إيمانهم الأعمال الصالحات، وهذه الآية شديدة صعبة على ما ذكرنا، وفيه أن المؤمن الذي اعتقد في إيمانه العمل الصالح، وترك البغي على غيره قليل في كل زمان ودهر.
الظن ههنا الإيقان أي أيقن، وكأن الإيقان، هو علم يستفاد بالأسباب على ما استفاد داوود عليه السلام علما بخصومة الملكين عنده؛ ولذلك لا يضاف الإيقان إلى الله، أنه أيقن كذا، لأنه علم يستفاد بالأسباب، وهو عالم بذاته لا بسبب.
فإن قيل: ما الحكمة في ذكر زلات الرسل صلوات الله عليهم، والأصفياء في الكتاب؟ وهو وصف نفسه أنه غفور وأنه ستور...
تخرج زلات الأنبياء صلوات الله عليهم، في القرآن وترك التستر عليهم على وجوه:
أحدها: ذكرها ليكون ذلك آية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأن قلوب الخلق وأنفسهم لا تحتمل ذكر مساوئ الآباء والأجداد، وكذلك لا تحتمل قلوبهم ذكر مساوئ أنفسهم، فإن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك دل على أنه أمر من الله عز وجل بذكر ذلك ليعلم الناس أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عن أمر منه ذكر ذلك.
والثالث: ذكر زلاتهم ليعلموا -أعني الخلق -كيف عاملوا ربهم عند ارتكابهم الزلات والعثرات، فيعاملون ربهم عند ارتكابهم ذلك على ما عامله الرسل بالبكاء والتضرع والفزع إليه والتوبة عن ذلك.
والرابع: ذكرها ليعلم أن ارتكاب الصغائر لا يزيل الولاية عنه ولا يخرجه من الإيمان...
وزلات الأنبياء عليهم السلام من الصغائر في حقهم لقيام النهي، وإن كانت مباحة في نفسها في حق غيرهم وهي ترك الأفضل، ثم خاف الأنبياء عليهم السلام على ذلك، فلولا أنهم عرفوا أن الله تعالى له أن يعذبهم عليها، وإلا لم يخافوا منها على ما ذكر منهم...
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِه} من غير أن يسأل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمَثَلِ على ما بينا، وأن داود قد كان عرف ذلك من فحوى كلامه، لولا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسأله فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به.
{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ} يدل على أنه عليه السلام لم يقصد المعصية بديّاً، وأن كلام المَلَكَيْنِ أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية، وأن الله تعالى قد شدّد عليه المحنة بها؛ لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة، فحينئذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها.
{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في" ص "وليست من العزائم"، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سجدة "ص ": "سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً ونَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْراً".
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
اختلف في الذنب على أربعة أقاويل: أحدها: أنه سمع من أحد الخصمين وحكم له قبل سماعه من الآخر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قرئ (فتناه) بالتخفيف بمعنى أن الملكين فتناه بها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين حتى ظلم الآخر قبل استماع كلامه؟ قلت: ما قال ذلك إلاّ بعد اعتراف صاحبه، لكنه لم يحك في القرآن لأنه معلوم.
فإن قلت: ماذا أراد بذكر حال الخلطاء في ذلك المقام؟ قلت: قصد به الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الذين حكم لهم بالقلة، وأن يكرّه إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم، مع التأسف على حالهم، وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطه، وأنّ له في أكثر الخلطاء أسوة...
عبر بالراكع عن الساجد، لأنه ينحني ويخضع كالساجد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وخر} أي ألقى بنفسه نحو الأرض متطامناً متواضعاً...
إن قيل لم خص داود الخلطاء ببغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قد يفعلون ذلك، والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة، ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعملوا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروحانية الحقيقية.
واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قول باطل.
{وقليل ما هم} واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن، قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة...
{وظن داوود أنما فتناه}... لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تمت الدعوى، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله: {قال}:
{لقد ظلمك} أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك.
{بسؤال نعجتك} أي بأن سألك أن يضمها، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله: {إلى نعاجه} بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل: بسؤاله، ثم عطف على ذلك أمراً كلياً جامعاً لهم ولغيرهم واعظاً ومرغباً ومرهباً، ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح للمظلوم: {وإن كثيراً من الخلطاء} أي مطلقاً منكم ومن غيركم {ليبغي} أي يتعدى ويستطيل {بعضهم} عالياً {على بعض} فيريدون غير الحق {إلا الذين آمنوا} من الخلطاء {وعملوا} أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان {الصالحات} أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي {وقليل} وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله: {ما} مثل نعماً ولأمرما {هم} وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وقليل ما هم}... قال الشهاب: فيه مبالغة من وجوه: وصفهم بالقلة، {قليل} وزيادة {ما} الإبهامية. والشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه، فكأنه قيل: ما أقلهم!
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيراً من الخلطاء -[أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض]- ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم..
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم. وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة.. ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته؛ فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً!
عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء:
وهنا أدركته طبيعته.. إنه أواب.. (فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ذِكر غالب أحوال الخلطاء أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير من انتهاز فرص الهداية فأراد داود عليه السلام أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين وأن يكرّه إليهما الظلم والاعتداء.
واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه السلام ليس إلا تتميماً للتنويه به؛ لدفع مَا قد يُتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب « صمويل الثاني» من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها، وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب، ولذلك ختمت بقوله تعالى: {وإن له عندنا لزُلفى وحُسن مئابٍ} [ص: 40].
وبهذا تعلم أن ليس لهذا النبأ تعلق بالمقصد الذي سيق لأجله ذكر داود ومن عطف عليه من الأنبياء.
قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} نسب واحداً إلى الظلم {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ} أدخل شيئاً في حيثية الحكم وليس من حيثية الحكم، فهل لو لم يكُنْ له تسع وتسعون نعجة، أكان يحِلُّ له أنْ يقول لأخيه: اعطني نعجتك؟
إذن: هذه المسألة لا دخلَ لها في القضية لأنه ظالم وإنْ لم يكن له تسعة وتسعون. إذن: سيدنا داود أولاً حكم قبل أنْ يسمع من الطرف الآخر، ثم أدخل في حيثية الحكم ما ليس له دَخْل فيه، وهو قوله: {إِلَىٰ نِعَاجِهِ} فربما هم حاقدون عليه أن يكون عنده تسع وتسعون.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ} أي: الشركاء {لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} المعنى: أن هذه القضية ليستْ قضية فذَّة ولا مفردة، إنما هي ظاهرة كثيرة الحدوث بين الشركاء، فكثيراً ما يبغي شريكٌ على شريكه ويظلمه مع أنهم ما تشاركوا إلا لمحبة بينهما واتفاق وتفاهم، لكن هذا كله لا يمنع ميل الإنسان إلى أنْ يظلم، وما أشبه هؤلاء بالمقامِرين تراهم في الظاهر أحبَّة وأصدقاء، في حين أن كلاً منهم حريص على أخْذ ما في جيب الآخر.
ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى أن هذه المسألة ليستْ على إطلاقها، إنما هناك نوع آخر من الشركاء لا يظلم، فمَنْ هم؟ هم الذين استثناهم الله بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} لكنهم قليلون {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي: أقلّ من القليل أو قليل جداً...
ثم يقول تعالى مبيناً حال سيدنا داود بعد أنْ مَرَّ بهذه القضية: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يعني: اختبرناه وابتليناه، وظن هنا بمعنى علم وأيقن، وكأن الحق سبحانه يُعلِّم داود علم القضاء وأصوله فامتحنه بهذه المسألة، فكانت بالنسبة له [فتنة] في أمور ثلاثة: الأول: أنه خاف وفزع وهو في حضرة ربه من خَلْق مثله يقبلون عليه، وظن أنهم سيقتلونه. الثاني: أنه حكم للأول قبل أنْ يسمع من الآخر. الثالث: أنه أدخل في حكمه حيثية لا دخلَ لها في المسألة.
وكلمة {فَتَنَّاهُ} أي: اختبرناه من قولهم: فتن الذهب على النار ليُخلِّصه من العناصر الخبيثة فيه.
فلما علم سيدنا داود بذلك لم يتأَبَّ، إنما استغفر ربه من كل ذلك {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ..} أي: سقط على الأرض سقوطاً لا إرادياً، والسقوط هنا يناسب السجود لا الركوع؛ لذلك قال تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] فكلمة خر أعطتنا المعنيين يعني: خرَّ ساجداً حالة كونه راكعاً قبل أنْ يسجد ومعنى {وَأَنَابَ} رجع إلى الله بالتوبة.