{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم [ كأنهم ]{[486]} أيقاظ ، والحال أنهم نيام ، قال المفسرون : وذلك لأن أعينهم منفتحة ، لئلا تفسد ، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا ، وهم رقود ، { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم ، لأن الأرض من طبيعتها ، أكل الأجسام المتصلة بها ، فكان من قدر الله ، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا ، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم ، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض ، من غير تقليب ، ولكنه تعالى حكيم ، أراد أن تجري سنته في الكون ، ويربط الأسباب بمسبباتها .
{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } أي : الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف ، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته ، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد ، أي : الباب ، أو فنائه ، هذا حفظهم من الأرض . وأما حفظهم من الآدميين ، فأخبر أنه حماهم بالرعب ، الذي نشره الله عليهم ، فلو اطلع عليهم أحد ، لامتلأ قلبه رعبا ، وولى منهم فرارا ، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة ، وهم لم يعثر عليهم أحد ، مع قربهم من المدينة جدا ، والدليل على قربهم ، أنهم لما استيقظوا ، أرسلوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما من المدينة ، وبقوا في انتظاره ، فدل ذلك على شدة قربهم منها .
ثم صور - سبحانه - بعد ذلك مشهدا عجيبا من أحوال هؤلاء الفتية فقال : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ . . . } .
والحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ جمع يقظ وهو ضد النائم ، والرقود : جمع راقد والمراد به هنا : النائم .
أى : وتظنهم - أيها المخاطب لو قدر لك أن تراهم - أيقاظا منتبهين ، والحال أنهم رقود أى : نيام .
وقالوا : وسبب هذا الظن والحسبان ، أن عيونه كانت مفتوحة ، وأنهم كانوا يتقلبون من جهة إلى جهة ، كما قال - تعالى - بعد ذلك : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } .
أى : ونحركهم وهم رقود إلى الجهة التى تلى أيمانهم ، وإلى الجهة التى تلى شمائلهم ، رعاية منا لأجسامهم حتى لا تأكل الأرض شيئا منها بسبب طول رقادهم عليهم .
وعدد مرات هذا التقليب لا يعلمه إلا الله - تعالى - وما أورده المفسرون فى ذلك لم يثبت عن طريق النقل الصحيح ، لذا ضربنا صفحا عنه .
ثم بين - سبحانه - حالة - كلبهم فقال : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .
والمراد بالوصيد - على الصحيح - فناء الكهف قريبا من الباب ، أو هو من الباب نفسه ، ومنه قول الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها . أى : لا يسد بابها .
أى : وكلبهم الذى كان معهم فى رحلتهم ماد ذراعيه بباب الكهف حتى لكأنه يحرسهم ويمنع من الوصول إليهم .
وما ذكره بعض المفسرين هنا عن اسم الكلب وصفاته ، لم نهتم بذكره لعدم فائدته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } .
أى . لو عاينتهم وشاهدتهم - أيها المخاطب - لأعرضت بوجهك عنهم من هول ما رأيت . ولملئ قلبك خوفا ورعبا من منظرهم .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاماً منها : أن صحبة الأخيار لها من الفوائد ما لها .
قال ابن كثير - رحمه الله - ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب . لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب - كما ورد فى الصحيح . . وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .
وقال القرطبى - رحمه الله - ما ملخصه : قال ابن عطية : وحدثنى أبى قال : سمعت أبا الفضل الجوهرى فى جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله فى محكم تنزيله .
قلت - أى القرطبى - : إذا كان بعض الكلام نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك فى كتابه ، فما ظنك بالمؤمنين المخالطين المحبين للأولياء . والصالحين ! ! بل فى هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكلمات : المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم وآله خير آله .
روى فى الصحيح عن أنس قال : " بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد ، فلقينا رجل عند سدة المسجد ، فقال : يا رسول الله . متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أعدَدْتَ لها ؟ " قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكنى أحببت الله ورسوله : قال صلى الله عليه وسلم : " فأنت مع من أحببت " "
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود . وكلبهم - على عادة الكلاب - باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياما كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يبعث بهم عابث ، حتى يحين الوقت المعلوم .
{ وتحسبهم أيقاظا وهو رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال }
عطف على بقية القصة ، وما بينهما اعتراض . والخطاب فيه كالخطاب في قوله : { وترى الشمس } [ الكهف : 17 ] . وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم ، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس .
ومعنى حسبانهم أيقاضاً : أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم ، فقيل : كانت أعينهم مفتوحة .
وصيغ فعل { تحسبهم } مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة .
والأيقاظ : جمع يَقِظ ، بوزن كتف ، وبضم القاف بوزن عَضُد .
والتقليب : تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه ، قال تعالى : { فأصبح يقلب كفيه } [ الكهف : 42 ] .
و{ ذات اليمين وذات الشمال } أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم . والمعنى : أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس ، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة .
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي . ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية .
{ وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد }
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم ، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب .
والوصيد : مدخل الكهف ، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق .
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم . وقد يقال : إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه .
{ لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }
الخطاب لغير معين ، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله ، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية .
والمعنى : لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق ، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابىء لقطاع الطريق ، كما قال تأبط شراً :
أقولُ للَحْيَانٍ وقد صفّرتْ لهم *** وطابي يوَمي ضَيّقُ الجُحْر مُعوِر
ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم ، كقوله تعالى : { نكرهم وأوجس منهم خيفة } [ هود : 70 ] . وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس ، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب ، على أنه قد سبق { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } .
والاطلاع : الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع ، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا ، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء ، وضمن معنى الإشراف فعدي ب ( على ) ، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد ، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى : { أطلع الغيب } في سورة مريم ( 78 ) ، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء . و« في الكشاف » عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح .
وانتصب { فراراً } على المفعول المطلق المبين لنوع { وليت .
و{ مُلّئتَ } مبني للمجهول ، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرىء بهما .
والمَلْء : كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف ، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف ، ومُثل عقل الإنسان بالظرف ، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف ، فكان في قوله : { ملّئت } استعارة تمثيلية ، وعكسه قوله تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } [ القصص : 10 ] .
وانتصب { رعباً } على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يَمْلأ ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلاً تمييزاً . وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال ، وليس تمييزا مُحولاً عن المفعول كما قد يلوح بادىء الرأي .
والرعب تقدم في قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } في سورة آل عمران ( 151 ) .
وقرأ نافع وابن كثير { ولَمُلِّئْتَ } بتشديد اللام على المبالغة في الملء ، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل .
وقرأ الجمهور { رعباً } بسكون العين . وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتحسبهم أيقاظا}، حين يقلبون، وأعينهم مفتحة...
{ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}، على جنوبهم، وهم رقود لا يشعرون،
{وكلبهم}... {باسط ذراعيه بالوصيد}، يعني: الفضاء الذي على باب الكهف... يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لو اطلعت عليهم}، حين نقلبهم،
{لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وتحسب يا محمد هؤلاء الفتية الذين قصصنا عليك قصتهم، لو رأيتهم في حال ضربنا على آذانهم في كهفهم الذي أووا إليه أيقاظا. والأيقاظ: جمع يَقِظ...
وقوله:"وَهُمْ رُقُودٌ" يقول: وهم نيام. والرقود: جمع راقد...
وقوله: "وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينَ وَذَاتَ الشّمالِ "يقول جلّ ثناؤه: ونقلّب هؤلاء الفتية في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن، ومرّة للجنب الأيسر... عن ابن عباس "وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمالِ" قال: لو أنهم لا يقلّبون لأكلتهم الأرض.
وقوله: "وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ"...
وأما الوصيد، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛
وقال آخرون: الوَصِيد: الصعيد... وقال آخرون: الوصيد الباب...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الوصيد: الباب، أو فناء الباب حيث يغلق الباب، وذلك أن الباب يُوصَد، وإيصاده: إطباقه وإغلاقه من قول الله عزّ وجلّ: "إنّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ"... فكان معنى الكلام: وكلبهم باسط ذَراعيه بفناء كهفهم عند الباب، يحفظ عليهم بابه.
وقوله: "لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا" يقول: لو اطلعت عليهم في رقدتهم التي رقدوها في كهفهم، لأدبرت عنهم هاربا منهم فارّا، "وَلُمِلئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا" يقول: ولملئت نفسُك من اطلاعك عليهم فَزَعا، لما كان الله ألبسهم من الهيبة، كي لا يصل إليهم واصل، ولا تلمِسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه من عباده، ليعلموا أن وعد الله حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال بعض أهل التأويل: إنما كان يقلبهم ذات اليمين والشمال ليدفع عنهم أذى الأرض وضررها لئلا يفسدوا، ويتلاشوا، وإن كان الله قادرا أن يدفع عنهم الأذى وضرر الأرض لا بتقليب من جانب إلى جانب، وإن كان مما يفعل من لا يملك دفع الأذى بما ذكرنا، فأما من كان قادرا بذاته مستغنيا عن الأسباب التي بها يدفع الضرر فغير محتمل. وقوله على التعليم منه إياهم: أن كيف يُتّقَى الأذى، وكيف يُدفع الضرر. فإذا لم يكن بمشهد من الخلق فلا معنى له.
وقال بعضهم: قوله: {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} لأنهم كانوا في مكان الريبة واللصوص مما لا يأوي إليه إلا هارب من ريبة وشر أو قاصد ريبة وطالب عثرة ومكابرة. لم يكونوا في مكان يسلم فيه ويرقد، ولا يختار للنوم مثله. فقال: {وتحسبهم أيقاظا وهم رقود} لما كانوا في مكان لا ينام فيه للخوف، كأنهم أيقاظ، وهم رقود، والله أعلم. ولكن لا ندري لأي معنى ذكر أنه يحسب الناظر إليهم كأنهم أيقاظ، وهم رقود. وإذ لم يبين الله ذلك فلا يفسر.
{ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال} هو ما ذكرنا (أن النوم) قد يتقلبون في نومهم من جانب إلى جانب، وذكر التقليب، وجائز أن يكون لما ذكر بعضهم من دفع أذى الأرض وضررها، أو ذكر فعله لما له في تقلبهم صنع وفعل، والله أعلم...
{وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} قال بعضهم: الوصيد هو فناء الباب. وقال بعضهم: الوصيد هو عتَبَةُ الباب. قال القتبي: الوصيد الفِنَاءُ، ويقال عتبة الباب، وهذا أعجب لأنهم يقولون: أوصد بابك أي أغلقه (ومنه قوله): {إنها عليهم مؤصدة} (الهمزة: 8) أي مُطَبَقَة. وأصله أن تلصق الباب بالعتبة إذا أغلقته. فإذا كان الوصيد هو عتبة الباب ففيه أن الكلب كان داخل باب الغار، وإن كان الفناء ففيه أنه كان خارج باب الغار وفيه أيضا (أنه) أبقى الكلب ثلاث مائة سنة على ما أبقاهم، وإن لم يكن من جوهرهم، بلطفه.
{لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا} قال بعض أهل التأويل: وذلك لأن شعورهم قد طالت، وأظفارهم قد امتدت، وعظمت. فكانوا بحال يُرغَب عنهم ويهاب. لكن هذا لا يحتمل لأنهم {قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} (الكهف: 19) فلو كانوا على الحال التي ذكروا من تطاول الشعور وامتداد الأظفار وتغير أحوالهم لم يكونوا ليقولوا: {لبثنا يوما أو بعض يوم} إذ لو نظروا في أنفسهم من تغير الأحوال لعرفوا أنهم لم يلبثوا ما ذكروا من الوقت. دل ذلك أن ذلك للخوف والهيبة لا لذلك. وقال بعضهم: لأنهم كانوا في مكان الريبة، في ما لا يؤوى إلى مثله إلا لخوف أو ريبة أو طلب أو ريبة، لا يأويه إلا هذان هارب من شر أو طالب شر إلى آخر ما ذكرنا؛ إذ من أقام في مهاب مخوف يهاب منه ويخاف. أو أن يكونوا بحيث يهابون، ويخاف منهم، لئلا يدنو منهم أحد، ولا يقرب، فلا يوقظهم أحد، ليبقوا إلى المدة التي أراد الله أن يبقوا فيها. وكذلك يحتمل هذا المعنى في تقلب اليمين والشمال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نبه سبحانه هذا التنبيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتثبيتاً أن يبخع نفسه، عطف على ما مضى بقية أمرهم فقال: {وتحسبهم أيقاظاً} لانفتاح أعينهم للهواء ليكون أبقى لها، ولكثرة حركاتهم {وهم رقود ونقلبهم} بعظمتنا في حال نومهم تقليباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم {ذات} أي في الجهة التي هي صاحبة {اليمين} منهم {وذات الشمال} لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث {وكلبهم باسط} وأعمل اسم الفاعل هذا، لأنه ليس بمعنى الماضي بل هو حكاية حال ماضية فقال: {ذراعيه بالوصيد} أي بباب الكهف وفنائه كما هي عادة الكلاب، وذكر هذا الكلب على طول الآباد بجميل هذا الرقاد من بركة صحبة الأمجاد.
ولما كان هذا مشوقاً إلى رؤيتهم، وصل به ما يكف عنه بقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم} وهم على تلك الحال {لوليت منهم فراراً} أي حال وقوع بصرك عليهم {ولملئت} في أقل وقت بأيسر أمر {منهم رعباً} لما ألبسهم الله من الهيبة، وجعل لهم من الجلالة، وتدبيراً منه لما أراد منهم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وتحسبهم أيقاظا وهو رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال}
عطف على بقية القصة، وما بينهما اعتراض. والخطاب فيه كالخطاب في قوله: {وترى الشمس} [الكهف: 17]. وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس.
ومعنى حسبانهم أيقاضاً: أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم، فقيل: كانت أعينهم مفتوحة.
وصيغ فعل {تحسبهم} مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة...
والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه، قال تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} [الكهف: 42].
و {ذات اليمين وذات الشمال} أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم. والمعنى: أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة.
والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي. ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية.
{وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد}
هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب.
والوصيد: مدخل الكهف، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.
وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم. وقد يقال: إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه.
{لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}
الخطاب لغير معين، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية.
والمعنى: لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابئ لقطاع الطريق...
وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب، على أنه قد سبق {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود}.
والاطلاع: الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء، وضمن معنى الإشراف فعدي ب (على)، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى: {أطلع الغيب} في سورة مريم (78)، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء...
و {مُلّئتَ} مبني للمجهول، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرئ بهما.
والمَلْء: كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف، ومُثل عقل الإنسان بالظرف، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف، فكان في قوله: {ملّئت} استعارة تمثيلية، وعكسه قوله تعالى: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً} [القصص: 10].