تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

ثم قال تعالى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أي : في الدين والدنيا { فَمِنَ اللَّهِ } هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها . { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ } في الدين والدنيا { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنوبك وكسبك ، وما يعفو الله عنه أكثر .

فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله ، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله ، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره .

ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة ، فهي أكبر شهادة على الإطلاق ، كما قال تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم ، تام القدرة عظيم الحكمة ، وقد أيد الله رسوله بما أيده ، ونصره نصرا عظيما ، تيقن بذلك أنه رسول الله ، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين ، ثم لقطع منه الوتين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

وقوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد كل مكلف من أمته .

والمراد بالحسنة ما يسر له الإِنسان ويفرح به ، والمراد بالسيئة ما يسوءه ويحزنه .

والمعنى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } أى من نعمة وأمور حسنة تفرح بها { فَمِنَ الله } أى فبتوفيقه لك وتفضله عليك ، وإرشادك إلى الوسائل التى أوصلتك إلى ما يسرك . { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ } أى من مصيبة أو غيرها مما يحزن { فَمِن نَّفْسِكَ } أى : فمن نفسك بسبب وقوعها فيما نهى الله عنه ، وتركها للأسباب الموصلة إلى النجاح ، كما قال - تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } وروى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا يصيب عبداً نكتة فما فوقها أو دونها إلا بذنب . وما يعفو الله عنه أكثر " قال وقرأ : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } .

وروى ابن عساكر عن البراء - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيدكم . وما يعفو الله أكثر " .

وعلى هذا يكون قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } . . إلخ من كلام الله - تعالى - والخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد به كل مكلف - كما سبق أن أشرنا - وقد ساقه - سبحانه - على سبيل الاستئناف ردا على مزاعم المنافقين ومن هم على شاكلتهم فى الكفر وضعف الإِيمان .

وقيل إن هذه الآية حكاية من الله - تعالى - لأقوال المنافقين السابقة ، فكأنهم لم يكتفوا بأن ينسبوا للرسول صلى الله عليه وسلم أنه السبب فيما أصابهم من جدب وهزيمة . بل أضافوا إلى ذلك قولهم له : إن ما أصابك من حسنة فمن الله ولا فضل لك فيما نلت من نصر أو غنيمة ، وما أصابك من سيئة أى هزيمة أو مصيبة فمن سوء صنعك وتصرفك .

ومقصدهم من ذلك - قبحهم الله - تجريد النبى صلى الله عليه وسلم من كل فضل ، وإلقاء اللوم عليه فى كل ما يصبهم من مصائب .

وقد أشار القرطبى إلى هذين القولين بقوله : قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . أى ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله عليكم ، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم أى من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم .

وقيل : فى الكلام حذف تقديره : يقولون . وعليه يكون الكلام متصلا ، والمعنى : { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } حتى يقولوا { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } .

وقال الجمل : فإن قلت : كيف وجه الجمع بين قوله - تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } وبين قوله { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فأضاف السيئة إلى فعل العبد فى هذه الآية - بينما أضاف الكل إلى الله فى الآية السابقة - ؟

قلت : أما إضافة الأشياء كلها إلى الله فى الآية السابقة فى قوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } فعلى الحقيقة ، لأن الله هو خالقها وموجدها . وأما إضافة السيئة إلى فعل العبد فى قوله { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فعلى سبيل المجاز . والتقدير : وما أصابك من سيئة فمن أجلها وبسبب اقترافها الذنوب . وهذا لا ينافى أن خلقها من الله - كما سبق .

وقال بعض العلماء : والتوفيق بين قوله - تعالى - { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } وبين قوله قبل ذلك : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } هو أن قوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } كان موضوعه الكلام فى تقدير الله . فهم إن انتصر المؤمنون لا ينسبون للنبى صلى الله عليه وسلم أى فضل ، بل يجردونه من الفضل ويقولون هو من عند الله . وما قصدوا التفويض والإِيمان بالقدر ، بل قصدوا الغض من مقام النبوة . فإن كان هناك خير نسبوه إلى الله وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبى صلى الله عليه وسلم إيذاء وتمردا . فالله تعالى - قال لهم : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } ، أى كل ذلك بتقدير الله وإرادته .

أما قوله { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فموضوعه اتخاذ الأسباب . ومعناه : أن من أخذ بالأسباب وتوكل على الله فالله - تعالى - يعطيه النتائج ومن لا يتخذ الأسباب ، أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة ، فإنه سيناله ما يسوؤه ، وبسب منه .

فالأول : لبيان القدر .

والثاني : لبيان العمل .

هذا ، وقوله - تعالى - { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً } بيان لجلال منصبه وعلو مكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه - عز وجل - بعد بيان بطلان زعمهم الباطل فى حقه عليه الصلاة والسلام .

أى : وأرسلناك - يا محمد - بأمرنا وبشريعتنا لتليغ الناس ما أمرناك بتبليغه ، ولتخرجهم من ظلمات الجهالة والكفر إلى نور التوحيد والإِيمان { وكفى بالله شَهِيداً } على صحة رسالتك ، وعلى صدقك فيما تبلغه عنه ، وإذا ثبت ذلك فالخير فى طاعتك والشر والشؤم فى مخالفتك .

والمراد بالناس جميعهم . أى : وأرسلناك لجميع الناس كما قال - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله { رَسُولاً } حال مؤكدة لعاملها وهو أرسلناك .

وقوله { وكفى بالله شَهِيداً } تثبيت وتقوية لقلب النبى صلى الله عليه وسلم .

أى : امض فى طريقك ولا تلتفت إلى أقوالهم ، وكفى بالله عليك وعليهم شهيدا ، فإنه - سبحانه - لا يخفى عليه أمرك وأمرهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

71

وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله . . وهذا ما تقرره الآية الأولى . .

أما الآية الثانية :

( ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك . . )

فإنها تقرر حقيقة أخرى . ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى . . إنها في واد آخر . . والنظرة فيها من زاوية أخرى :

إن الله - سبحانه - قد سن منهجا ، وشرع طريقا ، ودل على الخير ، وحذر من الشر . . فحين يتبع الإنسان هذا المنهج ، ويسير في هذا الطريق ، ويحاول الخير ، ويحذر الشر . . فإن الله يعينه على الهدى كما قال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . . ويظفر الإنسان بالحسنة . . ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا . . إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى . . وتكون من عند الله . لأن الله هو الذيسن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر . . وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه ، ولا يسلك طريقه الذي شرعه ، ولا يحاول الخير الذي دله عليه ، ولا يحذر الشر الذي حذره منه . . حينئذ تصيبه السيئة . السيئة الحقيقية . سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا . . ويكون هذا من عند نفسه . لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه . .

وهذا معنى غير المعنى الأول ، ومجال غير المجال الاول . . كما هو واضح فيما نحسب . .

ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا . وهي أن تحقق الحسنة ، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره . لأنه المنشى ء لكل ما ينشأ . المحدث لكل ما يحدث . الخالق لكل ما يكون . . أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث ، وهذا الذي يكون .

ثم يبين لهم حدود وظيفة الرسول [ ص ] وعمله وموقف الناس منه ، وموقفه من الناس ، ويرد الأمر كله إلى الله في النهاية :

( وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله . ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .

إن وظيفة الرسول هي أداء الرسالة . لا إحداث الخير ولا إحداث السوء . فهذا من أمر الله - كما سلف - والله شهيد على أنه أرسل النبي [ ص ] لأداء هذه الوظيفة ( وكفى بالله شهيدًا ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

{ ما أصابك } يا إنسان . { من حسنة } من نعمة . { فمن الله } أي تفضلا منه ، فإن كل ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود ، فكيف يقتضي غيره ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " ما يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى . قيل ولا أنت قال : ولا أنا " . { وما أصابك من سيئة } من بلية . { فمن نفسك } لأنها السبب فيها لاستجلابها بالمعاصي ، وهو لا ينافي قوله سبحانه وتعالى : { قل كل من عند الله } فإن الكل منه إيجادا وإيصالا غير أن الحسنة إحسان وامتنان والسيئة مجازاة وانتقام كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها " ما من مسلم يصيبه من وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر " . والآيتان كما ترى لا حجة فيهما لنا وللمعتزلة . { وأرسلناك للناس رسولا } حال قصد بها التأكيد إن علق الجار بالفعل والتعميم إن علق بها أي رسولا للناس جميعا كقوله تعالى : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } ويجوز نصبه على المصدر كقوله : ولا خارجا من وفيَّ زور كلام . { وكفى بالله شهيدا } على رسالتك بنصب المعجزات .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا} (79)

وبعد أن أمر الله رسوله بما يجيب به هؤلاء الضالّين علَّمه حقيقة التفصيل في إصابة الحسنة والسيئة من جهة تمحّض النسبة إلى الله تعالى أو اختلاطها بالانتساب إلى العبد ، فقال : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . ووُجِّه الخطاب للرسول لأنّه المبلّغ عن الله ، ولأنّ هذا الجوابَ لإبطال ما نَسبه الضالّون إليه من كونه مصدرَ السيّئات التي تصيبهم .

وأعلَمْ أنّ للحوادث كلّها مؤثّراً . وسبباً مقارناً ، وأدلّة تنبىء عنها وعن عواقبها ، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلّها ، سواء كانت غير اختيارية ، أم اختيارية كأفعال العباد . فالله قدّر المنافع والمضارّ بعلمه وقدَرِه وخلق مؤثّراتها وأسبابَها ، فهذا الجُزء لله وحده لقوله : { قلْ كلّ من عند الله } .

والله أقام بالألطاف الموجودات ، فأوجدها ويسّر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات ، وحفّها كلّها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة ، لولاها لما بقيت الأنواع ، وساق إليها أصول الملاءمة ، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب ، فالله لطيف بعباده . فهذا الجزءُ لله وحده لقوله : { قُل كلّ من عند الله } .

والله نصب الأدلّة للناس على المنافع والمضارّ التي تكتسب بمختلف الأدلّة الضرورية ، والعقلية ، والعاديةِ ، والشرعية ، وعَلَّم طرائقَ الوصول إليها ، وطرائقَ الحيدة عنها ، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يُمانعها ، وبعث الرسل وشَرع الشرائع فعلّمنا بذلك كلّه أحوال الأشياء ومنافعها ومضارّها ، وعواقب ذلك الظاهرةَ والخفيّةَ ، في الدنيا والآخرة ، فأكمل المنّة ، وأقام الحُجّة ، وقطع المعذرة ، فهدَى بذلك وحذّر إذ خلق العقول ووسائل المعارف ، ونمَّاها بالتفكيرات والإلهامات ، وخلق البواعث على التعليم والتعلّم ، فهذا الجزء أيضاً لله وحده . وأمّا الأسباب المقارنةُ للحوادث الحسنةِ والسيّئةِ والجانيةُ لِجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع ، والجهلِ بتلك الوسائل ، والإغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشرّ ، فذلك بمقدار ما يحصّله الإنسان من وسائل الرشاد ، وباختياره الصالحَ لاجتناءِ الخير ، ومقداراً ضدّ ذلك : من غلبة الجهل ، أو غلبة الهوى ، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصّر ، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدّمناها ، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظّاً فيه ، ملَّكَهُ إيّاه ، فإذا جاءت الحسنةُ أحداً فإنّ مجيئها إيّاه بِخلْق الله تعالى لا محالة ممّا لا صنعة للعبد فيه ، أو بما أرشد الله به العبد حتّى علم طريق اجتناء الحسنة ، أي الشيءِ الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى ، فكانت المنّة فيها لله وحده ، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه ، لكان الإنسان في حيَرة ، فصحّ أنّ الحسنة من الله ، لأنّ أعظم الأسباب أو كلّها منه .

أمّا السيّئة فإنّها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى ، ولكن إصابة معظمها الإنسانَ يأتي من جهله ، أو تفريطه ، أو سوء نظره في العواقب ، أو تغليب هواه على رشده ، وهنالك سيّئات الإنسان من غير تسبّبه مثل ما أصاب الأمم من خسْفٍ وأوبئة ، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيّئات ، على أنّ بعضاً منه كان جزاء على سوء فعل ، فلا جرَم كان الحظّ الأعظم في إصابة السيّئة الإنسان لتسبّبه مبَاشرة أو بواسطة ، فصحّ أن يسند تسبّبها إليه ، لأنّ الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقلّ . وقد فسَّر هذا المعنى ما ورد في « الصحيح » ، ففي حديث الترمذي " لا يصيب عبداً نكبةٌ فما فوقها أو ما دونها إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر " . وشملت الحسنة والسيِّئة ما كان من الأعيان ، كالمطر والصواعق ، والثمرة والجراد ، وما كان من الأعراض كالصحّة ، وهبوب الصّبا ، والربْح في التجارة . وأضدادها كالمرض ، والسَّموم المهلكة ، والخسارة . وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية ، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره ، والمعاصي الضارّة به وبالناس ، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضِلّ على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إليّ ربي } [ سبأ : 50 ] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه .

ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبّة الله على قلّة فهمهم للمعاني الخفيّة بقوله : { فما لهؤلاء القوم لا يكادُون يفقهون حديثاً } ، فقوله : { لا يكادون } يجوز أن يكون جارياً على نظائره من اعتبار القلب ، أي يكادون لا يفقهون ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] فيكون فيه استبقاءٌ عليهم في المذمّة . ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب ، أي لا يقارِبون فهم الحديث الذي لا يعقله إلاّ الفطناء ، فيكون أشدّ في المذمّة .

والفقه فهم ما يَحتاج إلى إعمال فكر . قال الراغب : « هو التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، وهو أخص من العلم » .

وعرفه غيره بأنّه « إدراك الأشياء الخفيّة » .

والخطاب في قوله : { ما أصابك } خطاب للرسول ، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر ، ثم يعلم أن غيره مثله في ذلك .

وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله : { قل كلّ من عند الله } ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أنّ الله لا يخلق المعصية والشرّ لقوله : { وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } . وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب « حَزّ الغلاصم » : إنّ الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهّم أنّ الحسنة والسيّئة هي الطاعة والمعصية ، وليستا كذلك .

وأنا أقول : إنّ أهل السنّة ما استدلّوا بها إلاّ قَوْلاً بموجَب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشّر على أنّ عموم معنى الحسنة والسيئة كما بيَّنْته آنفاً يجعل الآية صالحة للاستدلال ، وهو استدلال تقريبي لأنّ أصول الدين لا يستدلّ فيها بالظواهر كالعموم .

وجيء في حكاية قولهم : { يقولوا هذه من عند الله } { يقولوا هذه من عندك } بكلمة ( عنِد ) للدلالة على قوّة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيّئة للنبيء عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يُفيد جزمهم بذلك الانتساب .

ولمّا أمر الله رسوله أن يجيبهم قال : { قل كلّ من عند الله } مشاكلة لقولهم ، وإعراباً عن التقدير الأزلي عند الله .

وأمّا قوله : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك } فلم يؤت فيه بكلمة ( عند ) ، إيماء إلى أنّ ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيِّئة من نفس المخاطب ، ابتداءُ المتسبّب لِسبب الفعل ، وليسَ ابتداءَ المؤثِّر في الأثر .

وقوله : { وأرسلناك للناس رسولاً } عطف على قوله : { وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } للردّ على قولهم : السيئة من عند محمد ، أي أنك بُعِثْتَ مُبَلِّغا شريعة وهاديا ، ولست مؤثراً في الحوادث ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة . فمعنى { أرسلناك } بعثناك كقوله { وأرسلنا الرياح } [ الحجر : 22 ] ونحوه . و { للناس } متعلق ب { أرسلناك } . وقوله { رسولا } حال من { أرسلناك } ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان : وهو النبي المبلّغ عن الله تعالى ، فهو لفظ لقيي دالّ على هذا المعنى ، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئهُ حالاً مقيَّدة ل« أرسلناك » ، لاختلاف المعنيين ، أي بعثناك مبلّغاً لا مُؤَثِّراً في الحوادث ، ولا أمارةً على وقوع الحوادث السيّئة . وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفِيدة إلاّ التأكيد ، حتّى احتاجوا إلى جَعل المجرور متعلّقاً ب { رسولاً } ، وأنّه قدّم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف ، كما في « الكشّاف » ، أي لجميع الناس لا لبعضهم ، وهو تكلّف لا داعي إليه ، وليس المقام هذا الحصر .